الكونغو والجنرال.. العنف من أجل السلام

حسن العدم

“كارلوس سانتوس كروز” جنرال برازيلي من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة العاملة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أوكلت لها مهام صنع السلام وليس حفظه فقط، وهذه هي المرة الأولى التي تخوِّل فيها الأمم المتحدة قواتها باستخدام القوة ضد الفصائل المتمردة من أجل الحفاظ على أرواح المدنيين والتمكين للجيش الوطني(FARDC)  من بسط سيطرته على كامل التراب الكونغولي.

“يجب أن تفهم الجماعات المسلحة أننا هنا من أجل تحييدهم وإضعاف قوتهم، سنذهب إليهم في الغابات والجبال قبل أن يأتوا إلى هنا، لن نسمح لهم بعد الآن بقتل المدنيين وترويع النساء والأطفال”.. بهذه اللهجة الحاسمة الواضحة لخَّص الجنرال الخطوط العريضة لمهمته، وطرح تصوراته المستقبلية لفريق تصوير قناة الجزيرة الذي أعد فيلما عن طبيعة عمل القوات الدولية في هذا البلد، وعرضت الجزيرة الفيلم ضمن سلسلة حلقات عالم الجزيرة بعنوان “الكونغو والجنرال”.

التفويض بالقوة

ويتابع الجنرال قائلا: الفرق بين الكارثة والنجاح رصاصة طائشة، مهمتنا دقيقة للغاية، وهدفنا حماية حقوق الإنسان. ويشرف الجنرال البالغ من العمر 62 عاما منذ خيوط الصباح الأولى على التمرينات التي يقوم بها هذا اللواء الدولي المعروف اختصارا “إف آي بي” (FIB)، ويقود قوات من 50 دولة يبلغ قوامها 20 ألف مقاتل.

على مدى عقدين من الزمان عاش شرق الكونغو فترة مظلمة من الدمار والقتل والتشريد والاغتصاب، راح ضحيتها ستة ملايين إنسان، بينما لازمت الجراح والإصابات والأزمات النفسية مئات الآلاف ممن نجوا من هول المجازر، وكانت لهذه المنطقة تجارب سيئة مع القوات الدولية فيما مضى.

أما اليوم فعلى الرغم من بعض الإخفاقات التي يمر بها الجنرال وفريقه، فإن هذه القوة أحدثت فرقا على أرض الواقع، وصارت ملاذا آمنا لكثير من القرويين الذين تنهش قراهم الجماعات المسلحة بين الحين والآخر.

“لا يعني القضاء على الجماعة المسلحة إم23 أننا قد أنجزنا المهمة كاملة، فأمامنا مجموعات مسلحة كثيرة تنتشر في الغابات والجبال المحيطة، وهذه ما زالت تشكل خطرا داهما على المدنيين”، هكذا يتحدث الجنرال في اجتماع يضم كبار القادة الميدانيين في القوة المشتركة، وهو يشرح لهم طبيعة مهمته بعد تحييد أكثر الجماعات المسلحة فتكا في المنطقة.

ويضيف: علينا أن نتعاون مع الجيش الوطني والشرطة المحلية، ويجب أن يكون التنسيق المشترك معهم على أعلى المستويات، فنجاح مهمتنا مرهون بالتقدم الذي يحرزه الجيش الوطني في بسط سيطرته على الأراضي المحررة من المسلحين.

على مدى عقدين من الزمان عاش شرق الكونغو فترة مظلمة من الدمار والقتل والتشريد والاغتصاب
على مدى عقدين من الزمان عاش شرق الكونغو فترة مظلمة من الدمار والقتل والتشريد والاغتصاب

التنسيق مع الجيش الوطني

في إحدى ثكنات الجيش الوطني وحين التقينا مع أفراد فرقة القوة الخاصة الضاربة، وجدنا منهم حماسا منقطع النظير وهم يتوجهون إلى إحدى مناطق القتال.

يقول أحدهم: نحن ذاهبون لقتال المتمردين ودحرهم، نحن فريق واحد نموت معا أو نحيا معا، وسيبقى الكونغو حرا للكونغوليين، وسنحمي نساءنا ليعشن حياتهن الطبيعية.

يموت قائدهم وثلاثة من مرافقيه في كمين للجماعات المسلحة، ولكنهم يعودون بعد أن حققوا نجاحا باهرا في القضاء على القوة إم23.

فيما مضى كانت صفحة الجيش الوطني سوداء بسبب ما ارتكبوه من جرائم بحق المدنيين والنساء، ولكنهم شيئا فشيئا يحاولون تبييض صفحاتهم بالتعاون الوثيق مع القوات الأممية في توجيه أسلحتهم تجاه المسلحين فقط وحماية المدنيين أيا كانت أعراقهم.

ويراقب الجنرال تصرفات جنود الجيش الوطني عن كثب، ويتحدث بشكل صارم وحاسم تجاه أي خروق يقومون بها ضد المدنيين، ويذكّرهم بشكل مستمر بشروط الاتفاق مع الأمم المتحدة، ومنها أنه لن يتم دعمهم ما لم يتقيدوا بحماية حقوق الإنسان والمحافظة على أرواح المدنيين.

التفويض الممنوح للجنرال وقواته يعطيه الحق في نزع سلاح الجماعات المتمردة وتحييدها بالقوة، وهذا القرار التاريخي يعتبر أول تصريح باستخدام القوة تأخذه الأمم المتحدة منذ نشأتها عام 1945.

ومثل أي جيش نظامي فإن هذه القوات تقوم بكل التدابير الاستخباراتية لكشف أماكن وجود الجماعات المسلحة وتقدير أعدادها وإمكاناتها، ومن ثم اختيار أنجع الأساليب لمباغتتها ونزع أسلحتها. ويدرك الجنرال سانتوس أن التفويض يعني حرية التصرف، ولكنه يدرك أيضا أن الحرية يجب أن تكون مسؤولة، ويجب أن تؤطَّرَ باحترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية ولوائح الأمم المتحدة.

قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة العاملة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوكلت لها مهام صنع السلام
قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة العاملة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوكلت لها مهام صنع السلام

صيانة حقوق الإنسان

المهمة القادمة هي تحييد جماعة (FDLR) وهي جماعة قدمت إلى الكونغو منذ عشرين عاما فارّةً من رواندا، ويُتهم مؤسسوها بأنهم شاركوا في عمليات الإبادة الجماعية في رواندا سنة 1994 التي راح ضحيتها نحو مليون إنسان. ويُعتقد أن مقاتلي هذه الجماعة يتمركزون في منطقة ميرانغي شرق البلاد.

هذه المهمة محفوفة بالمخاطر وذات طبيعة خاصة ويجب اتخاذ أقصى التدابير لإنجاحها، فهؤلاء المسلحون أقاموا مع السكان على مدى العقدين الماضيين علاقة اجتماعية واقتصادية يصعب تجاهلها، وهنالك مصالح مشتركة مع السكان تستدعي تفهما خاصا، مما يجعل هذه المهمة شبه مستحيلة.

ومع أن عمليات سانتوس وقواته أسفرت عن نزع سلاح كثير من الجماعات، فإن نحو ثلاثين جماعة ما زالت تحتفظ بأسلحتها وتهدد أمن المدنيين. وقد قام أكثر من ألفين من المسلحين بإلقاء أسلحتهم وجُمعوا في مخيمات تأهيلية من أجل إعادة دمجهم في المجتمع.

يستقل الجنرال سانتوس مروحية تقله إلى “بينغا” وهو بلد صغير عاث فيه المسلحون فسادا فتسببوا بآلاف المشردين ومئات القتلى واغتصاب 300 امرأة. وقد تم تطهير بينغا منذ أشهر من عصابات المسلحين وعادت نحو ألفي أسرة إلى منازلهم. وهنا يريد سانتوس زيارة الفرقة الأوروغويانية التي ترابط في بينغا بعد تطهيرها، ويريد كذلك أن يطمئن على السكان العائدين إلى منازلهم.

في السابق كان أفراد الجماعات المسلحة يدخلون إلى القرية كل يوم، يغتصبون النساء ويقتلون الرجال ويحملون رؤوسهم على أسنة الرماح ويطوفون بها في طرقات القرية، ثم يلقونها على معسكرات الأمم المتحدة التي لم تكن تحرك ساكنا تجاه كل تلك الفظاعات. أما اليوم فتبدو الأمور أحسن بكثير ويشعر الناس بمزيد من الطمأنينة لهذه القوات الجديدة بعد تفويضها باستخدام القوة.

كان أفراد الجماعات المسلحة في الكونغو يدخلون إلى القرية كل يوم، يغتصبون النساء ويقتلون الرجال
كان أفراد الجماعات المسلحة في الكونغو يدخلون إلى القرية كل يوم، يغتصبون النساء ويقتلون الرجال

أمة كونغولية باقية

يسير الجنرال في طرقات القرية وهو ينظر بعين السعادة والطمأنينة لعشرات الأشخاص الذين يمشون في الطرق بأمان. وعلى الرغم من قسمات وجهه الحاسمة فإنك تشعر بارتياح يظلل قبعته الزرقاء.

وبحديث مختصر لكنه حاسم مثل شخصه يقول: لا بد أن يأخذ الجيش الوطني مكانه الطبيعي على الحدود، وعلى الشرطة أن تنتشر بين الناس ليشعروا بالأمان، كما أن السلطة السياسية في البلاد يجب أن تكون حاضرة من خلال التنمية والمشاريع التوطينية المجدية حتى يشعر الناس بالاستقرار المعيشي، ومن دون كل هذه العناصر مجتمعة فإن جهودنا ستضيع هباءً وتذهب أدراج الرياح.