المسرح العربي.. نشأ يتيما وشب طريدا واحتضر مقيدا

تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “المسرح العربي” الذي يناقش وضعه وأحواله في سلسلة من عشرة أفلام وثائقية تبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.

وتستعرض الحلقة السادسة الحركة المسرحية في بلدان عربية أربعة هي السودان وليبيا والسعودية وعمان، يتناول ظروف المسرح ومعوقاته وتباشير انطلاقته الواعدة فيها والعوامل المركزية التي أدت إلى تأخر انطلاق تلك الحركة المسرحية.

 

حسن العدم

ما تزال التجارب المسرحية في هذه البلدان الأربعة (السودان وليبيا والسعودية وعمان) جديدة تنقصها الخبرة، لم ترتقِ بعد إلى طور الاحتراف، وهناك عوامل أثرت في ذلك؛ فالسودان يرزح تحت وطأة الفقر، وليبيا كانت ردحا طويلا تحت وطأة الاحتلال، ثم انتقلت إلى دكتاتورية هي أسوأ من الاحتلال نفسه. أما السعودية وعمان فقد تكون الظروف المجتمعية المحافظة هي التي أجّلت انطلاق المسرح فيهما وجعلته إلى الآن في طور الهواية. وقد فتحت قناة الجزيرة الوثائقية باب النقاش في هذه البلدان، وذلك بإنتاجها فيلما حمل عنوان “المسرح السوداني والليبي والسعودي”.

مسرحية “لير السوداني” عبارة عن معالجة لنصوص مسرحية “لير” لشكسبير بصبغة سودانية

 

حركة المسرح الجامعي.. أيقونة المسرح السوداني

يعيش المسرح السوداني حالة حادة من الافتقار إلى التجديد، إلا في بعض الحالات الناجحة الاستثنائية، حيث مثّلت حركة المسرح الجامعي أيقونة المسرح السوداني وقلبه النابض، من خلال كلية الموسيقى والمسرح في جامعة الخرطوم.

تحدّث ربيع يوسف، وهو مخرج ومؤسس الورشة الجوالة المسرحية، عن تجربته فقال: شاركت فرقتي في مهرجانات جامعية دولية أكثر من خمس مرات. أما أهم إنجازاتها فكانت مسرحية “لير” السوداني، وهي عبارة عن معالجة لنصوص مسرحية “لير” لشكسبير بصبغة سودانية، وكذلك استدعاء لنصوص الوحدة بين الشمال والجنوب، في مواجهة أطروحات الانفصال.

وعن تجميع جهود المسرحيين السودانيين، فيقول علي مهدي، رئيس مهرجان البُقعة: “في عام 1999 بدأنا نفكر في إقامة مهرجان أيام البُقعة المسرحية، وقد نجحت الفكرة مبدئيا، وانطلقنا بالفعل في آذار/مارس عام 2000، ولم يزل المهرجان يُعقد سنويا حتى سُمي مهرجانا دوليا في 2013. واشتغلت فيه مجموعة كبيرة من المخرجين الشباب، وهم الذين يقودون الآن حركة المسرح السوداني.

مسرحية “احتراق” للفنانة هدى مأمون إخراجا وتمثيلا كانت من أهم نتاجات مهرجان أيام البقعة السينمائية، وحصلت من خلاله على جوائز التمثيل والإخراج والجائزة الكبرى. ثم أخرجت بعد ذلك مسرحية “فورة التنور”، وحازت على جوائز عدة في المهرجان لعام 2014.

وقد تألقت هدى مأمون بحيث استطاعت أن تحفر اسمها بحروف من نور في فضاء المسرح السوداني، ولكنها لم تحتكر النجاح، بل شاركها فيه مخرجون شباب من أمثال أبو بكر الشيخ الذي أخرج العديد من المسرحيات المميزة، وحازت على استحسان الجمهور.

مسرحية “ساعة ونلتزم الصمت” تعرض تفاصيل التفاصيل لتعابير شخصياتها عبر شاشة عرض

 

“ساعة ونلتزم الصمت”.. مرآة الأمة

عرض أبو بكر مسرحية “ساعة ونلتزم الصمت”، حيث أصر على عرض تفاصيل التفاصيل لتعابير شخصياته، فأرفق المسرحية بعرض تلفزيوني يركز على وجوه الممثلين وحركات أجسادهم. ثم قام بعرض مسرحية “النظام يريد” من فئة المسرح السياسي، وهي مسرحية عابرة للأجيال شارك فيها المخضرمون والشباب من نجوم المسرح السوداني.

ويعلق المسرحي علي مهدي على احتياجات المسرح السوداني فيقول: يحتاج المسرح السوداني بعد كل هذه الإخفاقات والنجاحات إلى إعادة بناء المؤسسة الرسمية المسرحية، ومع هذا فالتجربة السودانية ناضجة، وسيكون لها وجود في المستقبل القريب على المستوى العربي والإقليمي والدولي.

وعن حاجة أي بلد لحركة مسرحية واعية، تقول هدى مأمون: المسرح مرآة الأمة، ونحن كشعوب من حقنا أن ننعم بمسرح، يعكس حالة السلام الاجتماعي التي نطمح أن نعيشها.

مسرحية “المستشفى” عرضت عام 2003 وحكت عن حادثة إصابة أكثر من 500 طفل بفيروس الإيدز

 

ليبيا.. مسرح يأبى أن يكون بوقا للسلطة

هنالك تربة صالحة لزراعة بذرة المسرح في ليبيا، وعلى الرغم من الحرب المفتوحة الني شنها القذافي ضد المثقفين بشكل عام، وتحديدا بعد خطاب زوارة عام 1973 الذي توعد فيه عموم المثقفين بالويل والثبور، فإن أحلام الشعب الليبي الواعي المثقف ظلت تدفعه حتى وقف شامخا تطاول هامته خيوط الشمس.

داوود الحوتي أحد المسرحيين الشباب الذين كانت لهم ومضات من التواصل مع المسرح العالمي، فكانت له مسرحية “خرِّف يا شعيب” التي حكا فيها الهم اليومي للشعب الليبي، وهي اقتباس من مسرحية مصرية هي “المتفائل” لعلي سالم. وقد دهمت الشرطة المسرح في ليلة العرض الأولى، حتى تعلم كم كانت الحرب الشعواء على الحالة الثقافية في البلاد.

ويقول عن المسرحية الممثل المسرحي ميلود العمروني: حصلت في هذه المسرحية على جائزة أفضل ممثل، وتعتبر هذه المسرحية من أنجح التجارب الليبية، وهي من نوع “المونودراما” دراما الممثل الواحد.

وتقول هدى عبد اللطيف -وهي ممثلة ليبية- إن هذه المسرحية كانت من أنجح التجارب في ليبيا، وقد لاقت انتشارا واسعا، وتعتبر منطلقا إلى مسرح معارض وليس مسرحا سياسيا.

ويضيف الحوتي: ثم كانت لي تجربة أخرى، هي مسرحية “المستشفى” عام 2003 التي حكت عن حادثة إصابة أكثر من 500 طفل بفيروس الإيدز بعد حقنهم بطريقة متعمدة. وكانت “المستشفى” هنا هي كل ليبيا، وكانت المسرحية بمثابة المسمار الأول في نعش النظام.

مسرحية “فليسقط شكسبير” تنتصر للنساء اللاتي كان شكسبير يكرههن

 

“فليسقط شكسبير”.. انتصار المسرح الليبي للمرأة

محمد الصادق هو أحد رواد المسرح الكوميدي، وله عدة مسرحيات خلط فيها بين الكوميديا والموروث الشعبي الليبي، وأهم تجاربه كانت “فليسقط شكسبير”. يقول عن هذه التجربة: شكسبير يكره النساء، وتموت جميع النساء في مسرحياته بدون ذنب، فأنا أحببت أن أنتصر للنساء من شكسبير.

وله أيضا مسرحية “العرّاسة”، وهي مستوحاة من الموروث الشعبي في جنوب البلاد، حيث يحتفل العريس سبعة أيام بلياليها، لدرجة أنهم ينصبونه أميرا في ذلك الأسبوع، فيصدق نفسه ويأمر وينهى ويسفك الدم، وذلك في إسقاط على حال كل الحكام الذين يصلون إلى الكرسي عن طريق سلّم من الجماجم.

يقول الحوتي: كانت الدولة لا تحب المسرح ولا تريد له أن ينتشر، ولكن حركة المسرحيين الدؤوبة هي التي أجبرت الدولة على السماح بذلك الهامش الضيق، فقد كان معمر هو النجم الأول والممثل الأول والزعيم الأول بل ومدير الإذاعة الأول والمسرحي الأول، كأن البلاد كلها مسرح لهذا النجم الأوحد. والحمد لله فقد انتهى، ولكل ظالم نهاية.

ثم جاءت الثورة الليبية، حاملة معها رياح التغيير في كل مناحي الحياة، وكان للحركة الفنية والمسرحية نصيبها من هذا الانفتاح، وكان عرض مسرحية “عندما غنى المغني” على مسرح الأوبرا عنوانا لهذا الانطلاق.

يقولون إن الفن لا ينمو إلا في أجواء الحرية، وقد بدأ الفن الليبي بالنوايا الطيبة والعزائم العصامية والمبادرات الفردية، ولم يعتمد قط على مؤسسات الدولة، وكان حالة إبداعية لقيت من الجمهور (فقط) حضنا دافئا يأوي إليه، ولم يكن في يوم من الأيام بوقا للسلطة.

مسرحية “مغامرات أرنوب” قدمت أكثر من 800 عرض مسرحي في السعودية

 

فرقة فنون جدة.. سفير المسرح السعودي في المحافل

كانت التجارب المسرحية في السعودية في أغلبها تجارب فردية على استحياء، وبينما كان مهرجان الجنادرية هو الساحة الأساسية للمنافسة بين الأعمال الفنية، فإنه لم يكن أساسا لانطلاقة فن مسرحي مستقل، فالمسرح في المهرجان عمل جانبي يضاف إلى باقي الأشكال الفنية الأخرى.

ومن هذه الفرق المسرحية فرقة فنون جدة، وهي فرقة واعدة أسست عام 1988 انبثقت أنوارها من الجنادرية، وتعتبر الأولى من نوعها في السعودية، ومؤسسها هو الكاتب والمخرج المسرحي عمر الجاسر الذي أصبح سفيرا للمسرح السعودي في الملتقيات العربية والدولية.

كان أول اهتمامات فرقة فنون جدة هو مسرح الطفل، واشتهرت بمسرحية “مغامرات أرنوب” ذائعة الصيت بأكثر من 800 عرض مسرحي، إلى جانب “الرهان والذئب”. وكانت مريم الغامدي أول صوت نسائي شارك الجاسر تجربته في مجتمع لا يرتاده إلا الرجال.

وعلى الرغم من انضواء مسرح الجاسر تحت جناح الجمعية الوطنية للثقافة والفنون، فإنه لم يحظَ بأي دعم أدبي أو مادي من الجمعية، بل تعاملت معه كجهة ترخيص فقط، حتى إنها كانت تضع المعيقات أحيانا في طريق طموحاته، فتوجه إلى المؤسسة العامة لرعاية الشباب وحصل منها على بعض الدعم في مجال مسرح الأطفال فقط.

“خواطر الظلام ” فرقة عروض احترافية لـ”السينوغرافيا” التي تعتمد على الصوت والضوء

 

مسرح الشباب.. سفينة تمخر بحرا متلاطمَ الأمواج

لم يختلف المسرحيون السعوديون عن غيرهم من المثقفين العرب، فهم ينفقون على أعمالهم من جيوبهم، وقد سجلت الحياة الثقافية في السعودية ولادة تجارب أخرى، مثل “خواطر الظلام المسرحية”، و”مسرح الشباب” برعاية جمعية المسرحيين السعوديين، وشاركت في بعض المهرجانات المحلية والدولية مثل مهرجان قرطاج ومهرجانات مجلس التعاون، وحصدت عددا من الجوائز، حيث قدمت عدة رؤى منها المسرح النخبوي والمسرح المجتمعي وغيرها.

أما خواطر الظلام فهي فرقة عروض احترافية، وتحديدا العروض “السينوغرافية” التي تعتمد على الصوت والضوء، وحصدت جائزة المواهب العربية على قناة (MBC).

وعلى المستوى الرسمي يقول سيد الجمعان، عضو جمعية الثقافة والفنون: قد لا يعلم أكثر الناس أن السعودية يقام فيها سنويا أكثر من 45 مهرجانا مسرحيا، إلا أننا نلقى ظلما وإجحافا من جانب الإعلام.

ولكن من الجانب الآخر فإن زخم المهرجانات المحلية قد حالت بين هؤلاء المسرحيين وبين المشاركة في الملتقيات الدولية. ويحب كثير من النقاد أن يصف حالة المسرح السعودي بأنه مركب في بحر متلاطم الأمواج، تتقاذفه يمينا وشمالا، وقد تكون إيحاءات كلماتهم تشير إلى خصوصية الحالة الدينية في السعودية، التي أجبرت نشطاء الحركة المسرحية على التعامل بحذر شديد مع الطبيعة المحافظة للسعوديين.

“فرقة الصحوة” العمانية تركز في عروضها على مسرح الطفل والمسرح الملحمي

 

مسرح الطفل.. ميلاد المسرح العماني

تلاقت إرادة الشباب العماني الطامح مع توجهات وزارة الثقافة في إنشاء فرق مسرحية، ومنها فرقة الصحوة التي ركزت على مسرح الطفل والمسرح الملحمي. يقول عنها صالح الفهدي مؤسس الفرقة: تأسست الفرقة في 1997، وكانت موجهة للطفل في البدايات بعرض “الكنز المفقود”، مع الفنان العماني المعروف صالح زعل، أما الملحمية، فيمثل لها بمسرحية “مجد عمان”.

ثم تتابع تشكيل الفرق المسرحية حتى وصل عددها إلى 17 فرقة، لعل من أبرزها فرقة صلالة الأهلية للفنون التي يقول أحد مؤسسيها د. عماد محمد إنها الفرقة الأولى في محافظة ظفار 1998. ولمواكبة طموح المسرحيين العمانيين فقد أنشئ أضخم مسرح مجهز في تاريخ السلطنة، وهو مسرح المروج.

وقد عانى المسرح العماني في مناحي مختلفة شأنه شأن المسرح في كل الدول العربية. يقول عماد محمد: لا يمكن أن نبقى معتمدين على الدولة ومؤسساتها الرسمية، فقمنا بمبادرات شخصية وفردية من أجل النهوض بفن المسرح العماني، فأنشأنا مهرجان (البانتومايم) المسرحي، بحيث يكون الممثل هو اللبنة الأساسية في هذا المهرجان، وفوجئنا بحجم المشاركة وعدد الفرق والدعم المادي والمعنوي من المسرحيين والتنوع الهائل في العروض المسرحية التي غطت معظم أغراض المسرح العالمي.

كلية العلوم المسرحية بجامعة السلطان قابوس افتتحت عام 1991

 

جامعة السلطان قابوس.. تجميد الحركة المسرحية إلى حين

لم تقتصر الحركة المسرحية في عمان على النوادي والفرق، بل تعدتها إلى المؤسسات الأكاديمية والرسمية، فافتتحت كلية العلوم المسرحية في جامعة السلطان قابوس عام 1991، وانقسم نشاط المسرح الجامعي إلى قسمين:

–       النشاط الأكاديمي ممثلا بافتتاح قسم الفنون المسرحية.

–       النشاط الطلابي متمثلا بفرقة المسرح الطلابي التابعة لعمادة شؤون الطلبة.

وكانت مشاريع التخرج في هذا القسم، مكونا رئيسيا أثرى الحياة المسرحية في السلطنة كلها.

أما التحديات والصعوبات فتمثلت في ندرة الدعم المادي والبشري، وغياب الرؤية الرسمية البعيدة، وهذا ما أدى إلى تجميد قسم الفنون المسرحية عام 2004، وعدم قبول دفعات جديدة منذ ذلك الحين.

لكن الستار لم يسدل بعد، والعرض ما زال مستمرا، والمستقبل مليء بالأمل ولم يبح بكل أسراره، والنوايا الصادقة مع العمل الجاد كفيلة بأن تصنع غدا أكثر إشراقا للثقافة العربية بشكل عام، وللحركة المسرحية على وجه الخصوص.