الموت الأسود.. طاعون الصين الذي فتك بثلث سكان الأرض

الوثائقية-خاص

“ظهرت تقرحات حارقة، وتكونت بثور في أجزاء مختلفة من الجسم عند البعض في الأجزاء التناسلية، وعند آخرين على الأفخاذ والأذرع، وعند فريق ثالث في الرقبة. في البداية كانت هذه البثور في حجم حبة البندق، وكان المريض تستبد به نوبات رعشة عنيفة، سرعان ما تتركه في حالة هزال شديد حتى إنه لم يكن يقوى على الوقوف، بعد قليل تكبر البثور لتصير بحجم الجوز، ثم بحجم بيضة الدجاجة، ثم بيضة الإوزة، وهي مؤلمة للغاية وتؤدي إلى تهيّج الجسم، فيتقيأ دما من خلال إتلاف العصارات”[1].

هكذا وصف راهب إيطالي أعراض ظهور مرض الطاعون على المصابين به منتصف القرن الـ14، في واحدة من أكبر وأخطر الأوبئة التي عرفها تاريخ البشرية. ومن غريب الصدف في شأن هذا الوباء الفتاك الذي أودى بأكثر من ثلث البشرية وقتها، أنه دخل أوروبا عن طريق إيطاليا قادما من الصين، أي المسار نفسه الذي يقطعه اليوم وباء كورونا.

 

طاعون القرون الوسطى.. الموت القادم من الشرق

الطاعون الأسود أو الموت الأسود، عبارة عن سلسلة من الطواعين مختلفة الأصناف اجتاحت العالم -وبشكل خاص أوروبا- بين سنتي 1347 و1351، فأفنت ما بين ربع ونصف سكان القارة الأوروبية، وحوالي 200 مليون نسمة من ساكنة العالم وقتها، وخاصة آسيا وأوروبا وشمال إفريقيا، وكانت تلك الموجة الوبائية سببا في عدة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وكان مما ميّز تلك الحقبة، أن بات الناس يفرون من بعضهم البعض، فيهرب الرجل من ابنه والزوجة من زوجها والأخ من أخيه[2].

أباد الطاعون الأسود قرى بكاملها، حيث كانت نسبة الوفيات تناهز 60% كلما وصل إلى منطقة معينة، وقد تصل إلى حدود 100% عندما يتعلق الأمر بالفصيلة التي تصيب الجهاز التنفسي. نسبة مماثلة من السكان، أي حوالي الثلث فقدتها الصين التي تعتبر نقطة انطلاق هذا الوباء، بينما ظلت ارتدادات الطاعون تصيب مناطق مختلفة من العالم مرة كل عشر سنوات[3].

ويزعم بعض المؤرخين أن الطاعون الأسود كان له دور كبير في خروج أوروبا من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، حيث ارتقى المستوى المعيشي لمن نجا من الوباء، بينما أسهمت التحولات الاجتماعية اللاحقة للوباء في بروز تيارات المطالبة بالإصلاح الديني خاصة التيار البروتستانتي[4].

 

وحش هوبي القاتل.. هدية الجرذان إلى الإنسان

ظهر “الموت الأسود” أول الأمر عام 1331 في الصين، ومن المفارقات العجيبة أنه ظهر في مقاطعة “هوبي”، وهي المقاطعة نفسها التي ظهر فيها أيضا فيروس كورونا المستجد وعاصمتها مدينة “ووهان”، ثم انتقل عام 1338 إلى منطقة بحيرة “بايكال” جنوبي سيبيريا، وفي 1345 انتقل إلى محيط نهر الفولغا[5].

كانت كلمة “الطاعون” أو (peste) بالرومانية يُقصد بها مجموعة من الأمراض الفتاكة التي تتسم بالعدوى وتخليف عدد كبير من القتلى، وبذلك كان هذا الاسم يطلق على أمراض مختلفة مثل “التيفوس” و”الجدري”، والتي كانت تعتبر مجرد مظاهر مختلفة لمرض الطاعون بمعناه الواسع، وظل الأمر على هذه الحالة حتى نهاية القرن الـ19 حين اكتشفت العصيّة المسؤولة تحديدا عن مرض الطاعون.

وفُسّرت إصابة الانسان بداء الطاعون أساسا بالعدوى التي تتسبب فيها البراغيث التي تحملها بعض القوارض مثل الجرذان، كما يمكن أن ينتقل هذا الوباء من إنسان إلى آخر، وعكس فيروس “كورونا” الذي انتشر على الصعيد العالمي بداية 2020، يتميز داء الطاعون بفترة حضانته القصيرة، أي أن أعراضه لا تتأخر في الظهور على المصاب به، كما لا يمهله طويلا قبل أن يودي به إلى الموت[6].

 

قارة الحروب والمجاعات.. موت جديد في أوروبا

وصل الطاعون الأسود إلى أوروبا في مرحلة تاريخية صادفت توالي سنوات من المجاعات والأزمات الاقتصادية الناجمة في جزء منها عن تزايد ديموغرافي في مقابل بقاء الأراضي القابلة للاستغلال صغيرة المساحة، إضافة إلى موجة حادة من الطقس البارد لسنوات متعاقبة، مما يعني قسوة في الطقس وندرة في الغذاء. بينما كانت حرب “المائة سنة” الشهيرة بين فرنسا وإنجلترا، قد زادت في استنزاف القدرات الاقتصادية للبلدين ومن ثم عموم أوروبا[7].

مصادفة وصول الطاعون إلى أوروبا مع ظهور انعكاسات سنوات متتالية من المجاعات والأمراض وترهل الصحة العامة ومعها اقتصادات الدول الأوروبية، جعل القارة العجوز فريسة سهلة أمام الوباء، ومما ارتبط به اسم الوباء الأسود أنه لم يميز بين فقير وغني، أو بين حضر وبادية، بل استعمر الطاعون كُبريات المدن الأوروبية مثل باريس التي مكث بها قرابة 16 شهرا[8].

تقول بعض الكتابات إن الطاعون الأسود وصل رسميا إلى أوروبا، في شهر أكتوبر/تشرين أول عام 1347، وذلك عندما رست 12 سفينة تجارية قادمة من البحر الأسود بميناء جزيرة صقلية الإيطالية، حيث كان أغلب ركاب السفينة مصابين بالطاعون، وكيف تساقط سكان الجزيرة وقتها تباعا صرعى من هذا المرض الغريب[9].

كان الأوروبيون قد سمعوا قبل بضع سنوات من ذلك بوجود طاعون خطير يكتسح دول آسيا ويغطي أراضي شاسعة في الصين والهند وبلاد فارس والشام بل وحتى مصر، أي المنطقة الواقعة في طريق التجارة بين الشرق والغرب، وكان المرض يتجسد في ظهور تورمات غريبة تحت الإبط أو في الفخذين، ثم سرعان ما تمتلئ بالقيح والدم، ويرافق ذلك ظهور أعراض مرضية مثل الحمى والإسهال والسعال، وغالبا ما كان المصابون يفارقون الحياة بعد أيام قليلة من ظهور هذه الأعراض.

ولم تكتشف الإنسانية بشكل علمي البكتيريا المسؤولة عن هذا المرض إلا في أواخر القرن 19، حين توصل العالم البيولوجي الفرنسي/السويسري “ألكسندر يرسين” إلى اكتشاف بكتيريا باتت تحمل اسمه، وهي بكتيريا “يرسينا”[10].

 

جفاف التبت.. يوم اشتعل فتيل الطاعون

في نهايات القرن 13 وبدايات القرن 14 كان التوازن البيئي في أوراسيا قد اهتز بشدة، والنتيجة أن عصيّات “يرسين” انطلقت من موطنها الأصلي في صحراء “جوبي” وامتداداتها الشرقية داخل الصين والجنوبية في الهند، ثم عبر آسيا الوسطى نحو منطقة الشرق الأوسط، وهو ما شكّل أولى طلائع كارثة “الموت الأسود”.

تُجمع الروايات العلمية والتاريخية على أن المغول هم الحاملون الأوائل لعصيّة الطاعون، سواء منهم البشر أو القوارض. وتحتفظ المصادر التاريخية بدلائل تشير إلى أن القبائل المنغولية الرحّل كانوا على وعي بخطورة بعض القوارض في نقل مرض الطاعون، حيث كانت تعمد إلى حظر نصب فخاخ صيد حيوان “المرموط” الذي يعتبر المصدر الأول لنقل عصية الطاعون القاتلة، وكانت أوروبا تتلقى أخبار الكوارث والأوبئة التي تقع في عمق القارة الآسيوية، حيث تتحدث بعض المصادر عن هلاك ثلثي سكان الصين بدءا من العام 1331[11].

بدأ الطاعون الأسود زحفه نحو أوروبا انطلاقا من هضبة التبت في الصين، حيث توالت سنوات من الجفاف مع الرطوبة المرتفعة، وهو ما أدى إلى تكاثر مهول لعدد من القوارض التي نفقت بشكل جماعي بسبب ندرة الطعام، مما تسبب في انتشار “العصية” المسؤولة عن تكاثر البكتيريا المسببة للطاعون. ثم سرعان ما بدأ الوباء رحلة هجرته نحو أوروبا، حيث بلغ سهول كازاخستان ومنغوليا، وتتبع طريق الحرير التي كانت تربط تجاريا بين أوروبا والصين، ليصل إلى ضفاف بحر قزوين ثم البحر الأسود، ثم ليدخل رسميا الأراضي الأوروبية مع الحملة العسكرية المغولية التي استهدفت شبه جزيرة القرم منتصف القرن الـ14[12].

السفن القادمة من آسيا كانت السبب في نقل الطاعون إلى أوروبا

 

طرق نقل التجارة والعدوى.. لا مفر من الموت

كانت تلك الفترة قد شهدت نظام تجارة نشيطة بين الشرق والغرب، وذلك عبر ثلاث طرق رئيسة:

–       الأولى طريق برية تعبر شمالي الصين وآسيا الوسطى لتنتهي عند سواحل البحر الأسود.

–       والثانية طريق بحرية تعرف بكونها تؤمن تجارة التوابل، حيث تنطلق من جنوبي آسيا نحو الخليج العربي، ومنه تتولى القوافل التجارية البرية إيصال البضائع نحو سواحل الشام.

–       أما الطريق الثالثة فهي تلك التي تواصل سيرها بحرا قبالة سواحل اليمن وصولا إلى البحر الأحمر، حيث تنقل البضائع برا نحو موانئ غزة أو مصر.

في نهاية كل من تلك الطرق كان يوجد التجار الإيطاليون والذين يحملون السلع القادمة من آسيا نحو أوروبا، أي سواحل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، بل إن بعض السفن الإيطالية كانت تعبر مضيق جبل طارق نحو المحيط الأطلسي، وقبل انتقاله إلى البشر، كان مرض الطاعون يتسرب عبر السفن التجارية محمولا في أجسام الجرذان والبراغيث.

كانت العدوى تنتقل بشكل مباشر من المصابين إلى الأشخاص الموجودين في محيطهم، لكن ما فاقم الوباء وقتها هو الانتشار الواسع لكائنات أخرى لعبت دورا كبيرا في انتشار المرض، خاصة البراغيث التي كانت تسود أوروبا وقتها، إلى جانب بعض القوارض مثل الفئران التي كانت سبب إصابة جل السفن التجارية، وبالتالي انتشر المرض بشكل خاص في المدن الساحلية.

لم يكن أمام الأوروبيين من مفر، ذلك أن الذين حاولوا الفرار منه عبر هجرة المدن نحو القرى صادفوا انتشار الوباء في البوادي، خاصة عبر الحيوانات والمواشي والطيور الداجنة، حيث كان القطعان تنفق بشكل جماعي كلما أصيبت بالمرض[13].

عندما ضرب الطاعون أوروبا توقع الناس أن البابا سيخلصهم بالتضرع إلى الرب، لكن مات في ذلك اليوم 13 ألفا

 

عقاب السماء.. أكذوبة البابا القاتلة في السنة المقدسة

كانت الفكرة السائدة عن بلاد المغول حينها، أنها منطقة يعيش فيها “كفار” ووثنيون يقومون بطقوس غريبة، وبالتالي لم يكن هناك تصور لاحتمال انتقال الكوارث التي تحدث في تلك البلاد إلى القسم الغربي من العالم.

ومع العجز البيّن الذي واجهه الأوروبيون في خضم الانتشار السريع للوباء، انتشرت وقتها فكرة تعتبر أن الطاعون هو عبارة عن عقاب إلهي، ولا سبيل إلى التخلص منه إلا بطلب المغفرة، ومن بين ما لجؤوا إليه لتطهير الذات من الذنوب القتل الجماعي لآلاف الأشخاص الذين اعتبروا زنادقة وسببا في جلب الغضب الإلهي، وكان من بينهم اليهود.

بناء على ذلك، لم يكن الوباء المسؤول الوحيد عن فاجعة الموت الأسود، بل ساهمت عوامل أخرى في تفاقم هذه الكارثة،‏ ومن تلك العوامل المعتقدات الدينية.‏ يقول المؤرِّخ الفرنسي “جاك لوغوف”:‏ “بحلول نهاية القرن الـ‍13،‏ كان الإيمان بـ”المطهّر” منتشرا في كل مكان”.‏ والإشارة هنا تهم جوّا دينيا مال فيه الناس الى مواجهة الطاعون بلا مبالاة واستسلام مذهلَين،‏ إذ اعتبروه عقابا من الله ووسيلة لتطهيرهم من الذنوب.

وفي خضم حالة الذعر التي خلفها الطاعون الأسود،‏ أعلن البابا سنة 1350 سنة مقدسة، ووعد الحجاج الذين يزورون روما بدخول السماء مباشرة دون أن يمرّوا بـ”المطهّر”، فلبَّى مئات الآلاف من الحجاج الدعوة، ناشرين الطاعون في رحلتهم[14].

 

أكاذيب الكنيسة.. ثورة دينية وأخلاقية وفنية

يُعتبر المجال الديني أحد أكثر المجالات تأثرا بجائحة الموت الأسود بما في ذلك بعض التأثيرات الإيجابية، حيث اكتشف الأوروبيون كذب المعتقدات التي كانت تسوّقها الكنيسة، ذلك أنها لم تفشل فقط بإنقاذ المؤمنين بها كما كانت توهمهم، بل وقف الجميع على هول الخسائر التي تكبدتها الكنائس نفسها، حيث فقدت قسما كبيرا من كهنتها.

كان لموجة الموت الأسود أثر كبير على الفن والرسوم،‏ حيث شاع “الموت” على أكثر الأعمال الفنية، وصار المذهب الفني المشهور الذي يصوّر عموما هياكل عظمية وجثثا، رمزا شائعا لسلطة الموت.‏ وبرزت إثر هذا الوباء فكرة النظافة في المجال العام، حيث بادرت لأول مرة بعض المدن والدول إلى اعتماد أنظمة خاصة بتنظيف الأسواق والشوارع والفضاءات العمومية.

في المقابل من ذلك تقول المؤلفات التي أرّخت لتلك الفترة التاريخية إن الوباء خلّف انحطاطا عاما في الأخلاق العامة والآداب، حيث اعتبر الناس خطر الموت المحتوم مبررا للتحلل من الالتزامات الأخلاقية، بينما فقدت الكنيسة سلطتها المعنوية بعد فشلها في حماية المجتمعات من الكارثة، بعدما كانت توهمهم بقدرتها على ذلك[15].

إمبراطورية المغول تهاجم مدينة “كافا” في شبه جزيرة القرم بواسطة جثث الموتى المطعونين

 

طاعون الجيش المغولي.. أقدم الحروب البيولوجية

تصر بعض التقديرات على اعتبار الأوبئة التي تحدث في العصر الحديث جزءا من الحرب البيولوجية التي تخوضها بعض القوى الدولية ضد البعض، ويرتبط أشهر استخدام للسلاح البيولوجي في التاريخ القديم بحادثة حصلت خلال القرن الرابع عشر تحديدا أودت بحياة الملايين من البشر حول العالم، وما زالت تُعَد حتى يومنا هذا من أبشع الحالات التي مرّت على البشرية[16].

جرت هذه القصة كما يزعم مساندوها عام 1347، وذلك على يد إمبراطورية المغول التي كانت تعتبر من أقوى دول ذلك الزمان، وكان سبيل المغول الوحيد للعبور إلى العالم الأوروبي يمر من خلال مدينة “كافا” في شبه جزيرة القرم، حيث كانوا يعتبرون أسوارها الحاجز الوحيد أمام التوسع والهيمنة.

وأثناء حصار المغول لهذه المدينة، لاحظ قائدهم العسكري “جاني بيج” أن جنوده يتساقطون صرعى تحت تأثير مرض غريب هو الطاعون، وبعد تزايد عدد القتلى في صفوف جنوده، قرر هذا القائد العسكري استعمال جثثهم كسلاح ضد المدينة المحاصرة، وراح يقذف بها بواسطة منجنيق إلى داخل أسوار المدينة، مما أدى إلى انتشار سريع لمرض الطاعون داخل المدينة[17].

لكن بعض الكتابات تشكك في صدقية انتقال الطاعون إلى أوروبا عبر حادثة هجوم المغول على مدينة “كافا” بشبه جزيرة القرم، وتنقسم أسانيد التشكيك هذه بين جزء يقوم على ضعف مصادر هذه الرواية، وبين معطيات موضوعية، من قبيل أن الطاعون يحتاج إلى وجود معيلين محليين من أجل الانتشار، من قبيل بعض القوارض والحشرات أو بشر على قيد الحياة لكنهم حاملون لعصية الطاعون، وترجح هذه المصادر بالتالي احتمال وصول الطاعون إلى أوروبا عبر الطرق التجارية[18].

مجرد أن وطئت “قدمه” أوروبا، كان الطاعون الأسود يحتاج إلى ثمانية أشهر في أية بلدة كي يبيدها عن آخرها

 

سقوط حواضر العالم الكبرى.. زحف عابر للبحار

من المؤكد أن وباء الطاعون كان قد وصل في أواخر العام 1347 إلى مدينة القسطنطينية (إسطنبول حاليا)، وهي المعروفة بموقعها الجغرافي المطل على ممرات التجارة العالمية، كما كانت حاضرة بيزنطية ومن العواصم المسيحية الكبرى في العالم، ورغم تراجع أدوارها السياسية وقتها فإنها كانت ما تزال مركزا تجاريا عالميا، ومرفأ حيويا للتجارة المتوسطية، ومنها غزا الطاعون منطقة شرق المتوسط وبحر إيجا، حيث كانت مقدمات الوباء تظهر في شكل فناء شبه شامل يطال الكلاب والجياد.

انطلق الموت الأسود شمالا بعدما وطئت قدمه أوروبا كموجة عملاقة، وكان يستغرق ثمانية أشهر بعد أول وصول له إلى بلدة معينة كي يبيدها عن آخرها. وبعدما انتشر في كامل إيطاليا وجزء كبير من فرنسا وإسبانيا ومنطقة البلقان، واصل زحفه شمالا حتى وصل في النهاية إلى السويد ودول البلطيق في أواخر عام 1350، والغريب في انتشار هذا الوباء أنه استثنى من طريقه بعض المدن، مثل ميلانو الإيطالية ونورنبرغ الألمانية وكاليه الفرنسية[19].

وفي الوقت الذي شكل فيه البحر حاجزا طبيعيا جنّب إنجلترا تاريخيا خطر الغزو العسكري، فإنه لم يحل دون عبور الطاعون الأسود نحو أراضي المملكة المتحدة، وتحتفظ السجلات الكنسية بالمسار الموثق لانتشار الوباء داخل إنجلترا، حيث كان الكنيسة تعيّن كهنة جددا في المناطق التي يصلها الوباء، لأنه كان يقضي عليهم. وتقول المصادر التاريخية إن لندن كانت خلال فترة ذروة الوباء، تشهد دفن أكثر من 200 جثة في اليوم الواحد[20].

 

انفجار القاهرة.. اكتساح العالم الإسلامي

مع بداية سبعينيات القرن الماضي أطلقت بحوث أكاديمية خاصة بالبحث في علاقة الطاعون الأسود بأرض الإسلام، حيث تبيّن أن المسلمين لم يسلموا من تبعات هذا الوباء، فقد كان الطاعون دائم الحضور في بلاد المسلمين، وكان أول انتشار كبير له في ظل الخلافة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، حيث انتشر الطاعون في بلاد الشام.

وبانتشار الطاعون وتهديده حياة المجاهدين تأثرت الحملة التي كان الجيش الإسلامي يخوضها ضد بيزنطة، حين اعتمد المسلمون الحديث النبوي (إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)، لسحب القوات التي كانت ترابط في تخوم بيزنطة قصد فتحها[21].

تنسب المصادر التاريخية وصول “الموت الأسود” إلى البلاد الإسلامية من منطقتي القسطنطينية شمالا إلى دلتا النيل جنوبا إلى جانب سواحل الشام، باعتبارها أقرب النقاط التجارية. وترجح هذه المصادر وصول الوباء إلى ميناء الإسكندرية عام 1347، وانطلاقا من الدلتا تحرك الطاعون على طول نهر النيل ليصل إلى القاهرة، وهي من كبريات المدن العالمية وقتها، حيث حصد الوباء ما يصل إلى 300 وفاة في اليوم الواحد خلال فترة ذروته، وكان مجموع من كانوا بسببه يفوق 200 ألف.

من القاهرة انتشر الوباء في باقي أنحاء منطقة الشرق الأوسط، ليصل إلى مكة المكرمة، وبعد انتشاره على نطاق واسع راح الوباء يتمدد غربا نحو الشمال الأفريقي عبر طرق الحج والتجارة، كما أن تونس وليبيا كانتا على اتصال وثيق بسفن التجارة الإيطالية. ولم يحل العام 1349 إلا وقد عمّ الوباء جل مناطق العالم الإسلامي، وبالتالي عمّ جميع أنحاء العالم التي تتركز فيها أهم الأنشطة التجارية والتجمعات الحضارية التي عرفتها الإنسانية حتى ذلك الزمان.

 

المراجع
[1] “Return of the Black Death, The World’s Greatest Serial Killer”; Susan Scott and ChristopherDuncan, Publisher: Wiley; 1 edition (June 7, 2004)
[2] ”the black death; natural and human disaster in medieval Europe”; by Robert S.Gottfried, 1983

[3] ‏https://lhistoirecestbien.wordpress.com/2014/11/25/la-peste-noire/

[4] ”the black death; natural and human disaster in medieval Europe”; by Robert S.Gottfried, 1983

[5] https://www.trtarabi.com/explainers-human/من-الطاعون-الأسود-إلى-كورونا-لماذا-تظهر-الأوبئة-القاتلة-في-الصين-24125

[6] ”the black death; natural and human disaster in medieval Europe”; by Robert S.Gottfried, 1983

[7] ‏https://lhistoirecestbien.wordpress.com/2014/11/25/la-peste-noire/

[8] https://www.lhistoire.fr/la-peste-noire-une-catastrophe-naturelle%C2%A0

[9] https://dailygeekshow.com/peste-noire-mort-noire-epidemie-origines-histoire/

[10] https://dailygeekshow.com/peste-noire-mort-noire-epidemie-origines-histoire/

[11] ”the black death; natural and human disaster in medieval Europe”; by Robert S.Gottfried, 1983

[12] https://www.lhistoire.fr/la-peste-noire-une-catastrophe-naturelle%C2%A0

[13] https://dailygeekshow.com/peste-noire-mort-noire-epidemie-origines-histoire/

[14] https://wol.jw.org/ar/wol/d/r39/lp-a/102000088#h=4

[15] https://wol.jw.org/ar/wol/d/r39/lp-a/102000088#h=4

[16] shorturl.at/cghSX

[17] shorturl.at/mAORV[18] “Return of the Black Death, The World’s Greatest Serial Killer”; Susan Scott and ChristopherDuncan, Publisher: Wiley; 1 edition (June 7, 2004)

[19] “Return of the Black Death, The World’s Greatest Serial Killer”; Susan Scott and ChristopherDuncan, Publisher: Wiley; 1 edition (June 7, 2004)

[20] “Return of the Black Death, The World’s Greatest Serial Killer”; Susan Scott and ChristopherDuncan, Publisher: Wiley; 1 edition (June 7, 2004)

[21] https://www.lhistoire.fr/la-peste-noire-en-terre-dislam