النّوروز.. عيد يوم الاعتدال الربيعي

للأعراس أهازيج خاصة بها، ووراء كل أهزوجة باهرة يتغنّى بها الناس شاعرٌ مبدع شدا بها. وعندما يذكر البحتري -وهو أحد أشهر شعراء العرب في العصر العباسي- حدث النوروز في إحدى قصائده قائلاً:

“أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحُسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبّـه النوروزُ في غلس الدّجى
أوائلَ ورد كـُن بالأمس نُوّما”.

فلا بُد أن ذلك الاحتفال له وزنه وقيمته بين القوم آنذاك.

طفلة كردية سورية ترتدي فستانا بلون العلم الكردي الأحمر والأخضر والأصفر

لقد انقلب الاعتدال الربيعي من يوم فلكي إلى يوم عيد يُسمى بالنوروز يحتفل به نحو 300 مليون شخص من كافة أنحاء العالم حسب ما أفادت به إحصاءات الأمم المتحدة.

إنه يوم الابتهاج والسرور وممارسة طقوس احتفالية تفاؤلية مُباحة، تتراوح بين المتعة والغرابة على حد سواء، إذْ يُولي الناس اهتماما بالغا بهذه المناسبة ويُخلدونها بأحرف من ذهب في ذاكرتهم وتاريخ أوطانهم.

النوروز.. اليوم الجديد

عيد النوروز هو عيد رأس السنة الفارسية التي تعتمد على التقويم الهجري الشمسي، ويُسمى أيضًا بالتقويم الجلالي نسبة لجلال الدولة ملك شاه سلطان السّلاجقة، ويُوازي يوم الاعتدال الربيعي أي الحادي والعشرين من آذار/مارس في التقويم الميلادي.

ويُعد النوروز من أبرز الأعياد عند القومية الفارسية ويُحتَفل به في إيران وأفغانستان وتركيا والعراق وسوريا.

ويعود الاحتفال بهذا العيد إلى أكثر من 2000 سنة، وما زال هذا العيد يُحافظ على مكانته الكبيرة لدى الشعوب التي تستبشر بحلوله من مناطق آسيا الوسطى والصغرى والغربية خاصة الأكراد في شمال العراق.

إشعال النار هو أهم طقوس النيروز، ويعود إلى الطقوس الفارسية القديمة

وإذا تعمقنا في جذور كلمة نيروز وجدنا تنوعًا من حيث المراجع، لكن جميعها يؤكد على مفهوم واحد هو “اليوم الجديد”.

 فحسب اللغة الفارسية، “نو” تعني جديد و”روز” تعني يوم، وبذلك يكون المعنى “يوم جديد”، وهو بالفعل كذلك لأول يوم في دورة كل سنة جديدة، وهو يوم “التحويل” مثلما أُطلق عليه سابقًا.

وقد أولت اليونسكو عناية بظاهرة النوروز وسجلتها في القائمة النموذجية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في فبراير/شباط 2010.

والتراث الثقافي غير المادي هو الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، وتعتبرها الجماعات والمجموعات وأحيانا الأفراد جزءا من تراثهم الثقافي المنقول عن أجدادهم.

يوم السلام والتحرر من الاستبداد

كثرت الأقاويل عن ظروف نشأة النوروز واختلفت، فمنها ما أُخذ عن أشهر الأساطير التي تقول إن الملك الفارسي جمشيد الملقب بـ”جم” كان يقوم بجولة حول العالم، وحين أدرك أذربيجان أمر حاشيته بنصب عرشه هناك.

وعندما جلس على كرسيه أشرقت خيوط الشمس عليه وانتشر شعاعها على تاجه وملابسه وكامل عرشه، فابتهجت الرعيّة لهيئته المنيرة، وقالوا “هذا يوم جديد”.

وغُبط الملك بسبب ذلك، وشعر بأنّ مسار حياته سيتغيّر وأن ما حدث له هو بمثابة علامة من علامات يوم جديد في تاريخ سلطانه، فخلّد ذلك اليوم الذي صادف يوم الاعتدال الرّبيعي.

من مراسم النوروز في إيران تحضير مائدة تسمى “سفرة هفت سين” أي سفرة السِّينات السبعة التي تحتوي على سبعة أشياء

واعتبر الإيرانيّون أن عيد النوروز حدث إيجابي يتزامن مع تغيّر ثوب الطبيعة واكتسائه حلة الرّبيع الفاتن والمُزهر، فكل تلك الألوان الزّاهية وذلك التّجدد الطبيعي إنّما هو إيحاء مباشر لمفاهيم السلام والحب والأمل والتفاؤل بغدٍ مشرق، فلا بأس إذا بالاحتفال بالنوروز، مثلما يقولون.

أمّا الأسطورة الكرديّة، فتقول إن ملكا من ملوك الأكراد عُرف بجوره واستباحته لدماء الشباب من أجل الشفاء من مرض خبيث أصابه، ويُصادف يوم التحرر من ظلمه يوم الاعتدال الرّبيعي.

فقد قامت مجموعة من الشجعان بالانقلاب على حكمه، وبعد ذلك أوقدوا الجبال بالمشاعل احتفالا بالنصر والتخلص من الاستبداد والاستعباد. فكان ذلك اليوم هو يوم عيد قومي يُدعى لديهم النوروز.

طقوس وعادات

تختلف عادات الاحتفال من بلد إلى آخر، ومن مراسم النوروز تحضير مائدة تسمى “سفرة هفت سين” أي سفرة السِّينات السبعة التي تحتوي على سبعة أشياء تبدأ بحرف السين مثل: سَبزِي (خضرة) وسمنو

 (نوع من الحلوى الإيرانية) وسير (ثوم) وسنجد (تمر) وسركه (خل) وسُماق (نوع من البهار) وسيب (تفاح).

وتبادلُ الزيارات من المراسم الأخرى التي تُميز النوروز في إيران، حيث تدوم زيارة الأقارب واستقبال الضيوف في الأيام الثلاثة عشر الأولى من السنة الجديدة.

وتنتهي الاحتفالات بيوم النوروز في اليوم الثالث عشر من شهر فروردين، وهو الشهر الأول في التقويم الهجري اليوم المعروف بـ”يوم الطبيعة” في التقويم الإيراني، حيث يخرج الناس إلى الطبيعة بمختلف منتزهاتها وحدائقها، وفي ذلك إحياء لمفهوم الطبيعة والمحافظة على سلامتها ونقائها.

ويجدّ الإيرانيون في تنويع طقوس احتفالهم بهذا اليوم المقدس لديهم عبر تغيير أثاث بيوتهم واقتناء ملابس جديدة وتوفير الأطعمة الخاصة بالمناسبة من مكسّرات ولحوم وحلويات.

ويرتدي بعض المحتفلين ملابس حمراء، ويصبغون وجوههم بالأسود، ويرددون أهازيج بهيجة تضفي السعادة على القلب وتزرع الأمل بين صفوف المحتشدين في مهرجان الاحتفال.

أما الأكراد في تركيا والعراق فيوقدون النار ليلة “أربعاء النّار” احتفالاً بنيروز النصر والحرية.

وفي العموم يبدو أن ما جعل من النوروز عيدا مشهورا وخالدا بين الناس هو ما يتضمّنه من قيم راقية تسلط الأضواء على البُعد الإنساني مثل ترسيخ العلاقات الأسرية والاجتماعية وتقويتها، والمحافظة على البيئة والطبيعة.