بلوتو الصغير.. رحلة من عائلة الكواكب العملاقة إلى منفى الأقزام

يمان الشريف

بدا كأنه يسير على أصابع قدميه وسط هذه الظلمة في فلك إهليليجي، يعدّ خطواته على استحياء، لا صوت له في السماء ولا أثر، يتوارى خلف العوالم المتنائية، على بعد مسافة 5 مليارات كيلومتر من الأرض، لقد كان هذا الجرم السماوي بلوتو بعيدا عن أنظارنا وإدراكنا لسنوات طوال.

منذ أن رفع الإنسان بصره نحو السماء والكون في عينيه لا يتغير، حتى أن القدماء آمنوا بحتمية أزليته، فقد رأوا أن أطوار القمر ثابتة وأن النجوم مستقرة في مواقعها، وهو ما جعل العرب قديما يطلقون عليها لفظ “الكواكب الثابتة”، وأطلقوا على كل ما عدا النجوم من كواكب لفظ “الكواكب السيارة”، كما هو ظاهر في مخطوطات الفلكي عبد الرحمن بن الصوفي في كتابه “صور الكواكب الثمانية والأربعين”.

 

ولأن الكواكب السيارة (الكواكب) كانت تتميز عن نظائرها الكواكب الثابتة (النجوم) بحركتها الملحوظة والدائمة في عرض السماء، فقد آمنت عدة حضارات قديمة بقدسيتها، فأطلقوا عليها الأسماء والأوصاف والألقاب، غافلين عن ماهيتها وحقيقتها. فتارة يكون “جوبيتور” (كوكب المشتري) في الحضارة الرومانية إله السماء والرعد وهو ما يقابله في الحضارة الإغريقية “زيوس” إله الآلهة، وتارة أخرى يكون “مارس” (كوكب المريخ) في الحضارة اليونانية إله الحرب، وهو ما يقابله في الحضارة الإغريقية “إيريس”، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الكواكب.

لقد قاموا بحياكة قصص طويلة ونسج ملاحم أسطورية تتحدث عن جميع تلك الآلهة، وبدا أن المشهد الكوني مختزل في ما تراه أعينهم، إلا أن الحقيقة كانت خلاف ذلك، وأن الكون أوسع من نطاق رؤيتهم ورؤيتنا.

 

اختراع التلسكوب.. مطية العين البشرية إلى الفضاء

كانت مجموعتنا الشمسية فيما سبق تتألف من ستة كواكب إضافة إلى القمر والشمس، وكان كوكب زحل هو آخر ما استطاعت أعين البشر القدامى إدراكه بسبب المسافات الشاسعة في الكون. ومع ظهور أول تلسكوب (تعريبها: المِقرَاب أو المِرقب) تغير مشهد السماء في أعيننا إلى الأبد.

وتختلف المصادر عن أول ظهور للتلسكوب على الرغم مما يشاع إليه من أن شخصا هولندي الأصل يدعى “هانز ليبرشي” (Hans Lippershey) يعمل في صناعة النظارات، ادعى في عام ١٦٠٨ أنه قام بصناعة جهاز بإمكانه تكبير الأجسام إلى 3 أضعاف، وقد كان جهازه البسيط يحتوي على عدستين، إحداهما مقعرة والأخرى محدبة، وتقومان معا بتكبير الأجسام1.

بعد ذلك الحدث بشهور قليلة، في عام 1609 سمع عالمٌ فلكي إيطالي يدعى “غاليليو غاليلي” (Galileo Galilei) عن ذلك الاختراع، فما برح حتى قام بصناعة تلسكوبه الخاص بنفسه وأضاف إليه تعديلات طفيفة مكّنته من تكبير الصورة إلى 6 أضعاف، ثم وجه جهازه نحو السماء فكُشف له بعض مما كان محجوبا عن العين البشرية.

 

معجزات “غاليلي” الخالدة.. اكتشاف الكوكب السابع والثامن

استطاع العالم “غاليلي” رؤية اختلاف تضاريس سطح القمر، كما أنه اكتشف الأقمار الأربعة الكبرى التابعة لكوكب المشتري؛ وهي آيو وأوروبا وغانيميد وكاليستو، ويطلق عليهم اليوم أقمار “غاليليو”، وقد تابع اكتشافاته حينما وجه تلسكوبه نحو كوكب زحل، ليرى قمرين كبيرين يلتفان حوله بشكل حلقي كما ظهر له من تلسكوبه البدائي، لم يكن يعلم بأن تلك الصورة الشائبة ليست إلا حلقات زحل، وتتألف من عدد هائل من الجسيمات المتوسطة والصغيرة العائمة في الفضاء.

تطورت صناعة التلسكوب مع مضي الوقت، ومع محاولة البشرية الكشف عن مزيد من الخبايا اكتشف كوكب أورانوس عام 1781، وتبع ذلك الحدث الفلكي البارز اكتشاف كوكب نبتون عام 1846، لينضم عضوان جديدان إلى مجموعة الكواكب في المجموعة الشمسية.

بقي الحال على ما هو عليه حتى قام فلكي ورياضي يدعى “بيرسيفال لويل” (Percival Lowell) في بداية القرن العشرين بمحاولة فهم سبب التشوه الموجود في مدار كوكب أورانوس ونبتون، وقد بدا له أن ثمة جسما آخر مجهولا تسبب جاذبيته هذه الذبذبة المدارية للكوكبين.

 

أخ تاسع جديد.. لحظة الاكتشاف التاريخية

قام “لويل” بتحديد موقع تقريبي لهذا الجسم بعد حسابات فلكية كثيفة، وافترض أنه الكوكب التاسع في مجموعتنا الشمسية، ودأب على عملية البحث عنه لعقد كامل، لكنه توفي في عام 1919 دون أن يجد له أثرا. ولاحقا في عام 1929 واصل الفلكي “وليام بيكرينغ” (William Pickering) عملية البحث باستخدام حسابات لويل من مرصد لويل الواقع في ولاية أريزونا الأمريكية2.

لم يمض الكثير من الوقت حتى استطاع أحد الفلكيين العاملين في المرصد ويدعى “كلايد تومبو” (Clyde Tombaugh) اكتشاف جسم خافت في السماء باستخدام تقنية فلكية حديثة وهي “المقارنة الوميضية” (Blink Comparator)، وذلك باستخدام صورتين فوتوغرافيتين لنفس الموقع تفصل بينهما فترة زمنية قصيرة، ثم يقوم بمطابقة الصورتين والبحث عن الفروق بينهما، وتعد هذه الحيلة فعالة لأنها تكشف عن الأجرام السماوية المتحركة ظاهريا كالكواكب والمذنبات والنيازك بخلاف النجوم التي تبدو ثابته نسبيا3.

وفي الثامن عشر من فبراير/شباط من عام 1930 أعلن عن اكتشاف الكوكب التاسع أخيرا، واتضح للمجتمع الفلكي أن هذا هو الجسم المنشود الذي اعتنت به حسابات الرياضي “لويل”. لقد احتفوا احتفاء كبيرا حينها بينما كانت المجموعة الشمسية تشهد انضمام عضو جديد إليها، وقد حان الآن تسمية الشقيق الجديد.

 

إله العالم السفلي عند الإغريق.. تسمية المولود الجديد

حصل المرصد إبان اكتشافه على مئات الاقتراحات من حول العالم بشأن تسمية الجرم السماوي الحديث وفقا لمكتبة الكونغرس الأمريكية، لكن لم يقع الاختيار إلا على اسم واحد، وهو الذي تقدمت به طفلة لم تتجاوز ربيعها الحادي عشر، وتدعى “فينيشيا بورني”.

لقد كان اقتراح “فينيشيا” بلوتو الذي عده المرصد اسما موفقا للغاية لما يحمل من معنى في الحضارة الإغريقية، بالإضافة إلى أن أول حرفين من الاسم يشيران إلى أول حرفين من الاسم الثنائي للشخص الذي تنبأ به، الرياضي “بيرسيفال لويل”.

ولغاية التناغم في التسميات الفلكية للكواكب -إذ يحمل كل كوكب اسما لإله أسطوري ينتمي للآلهة الإغريقية- يظهر بلوتو في تسلسل الأساطير اليونانية أنه كان إلها للعالم السفلي، وبدا منطقيا للغاية بالنسبة للفلكيين أن يحمل هذا اللقب كونه آخر جرم سماوي تابع لمنظومة كواكب المجموعة الشمسية آنذاك4.

 

الاتحاد الفلكي الدولي.. شروط الانضمام إلى نادي الكواكب

بعد اكتشاف كوكب بلوتو حافظت المجموعة الشمسية لأكثر من 7 عقود على كواكبها التسعة في هويتها الفلكية، لم يكن الأمر مزعجا في البداية، فهذا الكون فسيح ويتسع للجميع، ولكن في عام 2006 اجتمع أعضاء الاتحاد الفلكي الدولي (International Astronomical Union) في الجمعية العامة للبحث عن إشكالية تصنيف الكواكب، فالاكتشافات التي استمرت منذ لحظة العثور على بلوتو رصدت الكثير من الأجرام الفلكية المنتشرة داخل المجموعة الشمسية مثل كويكب “سيرس” (Ceres) الواقع في منطقة حزام الكويكبات وكويكب “إريس” (Eris) الذي صنف كوكبا عاشرا لحظة اكتشافه عام 2005، مما استلزم إعادة صياغة مفهوم الكوكب.

وقد وضع الفلكيون حينها ثلاثة معايير لا بد من تحققها لكي يحظى أي جرم سماوي على وصف “كوكب” في مجموعتنا الشمسية، وتلك المعايير هي:

1.    أن يدور الجسم حول الشمس.

2.    أن يمتلك الجسم كتلة كافية تسمح له بالتكور (كروي الشكل) حول نفسه بفعل الجاذبية المركزية -التوازن الهيدروستاتيكي.

3.    أن يهيمن الجسم بجاذبيته على مداره، فلا يكون هناك جسم آخر ذو كتلة متقاربة في نفس المدار5.

لقد تمكن بلوتو من استيفاء شرطين من أصل ثلاثة، وقد فشل في الشرط الثالث، إذ إنه لم يكن قادرا على الهيمنة بجاذبيته بشكل كاف في مداره، فقد اكتشف الفلكيون قمرا تابعا له يدعى قمر قارون (Charon)، ويمتلك نصف كتلة بلوتو، وقد بدا أن مدار كويكب بلوتو غير مستقر بسبب هذا القمر.

وهكذا أقصي بلوتو من مجموعة الكواكب الشمسية واعتمد كوكبا قزما، لنعود إلى حيث كنا متمثلين بثمانية كواكب فقط.

وفي المقابل، فقد أطلق على جميع الكواكب التي لم تستوف الشروط اسم “الكواكب القزمة” (Dwarf Planets) وقد اكتشف منها حتى اليوم سوى “بلوتو” و”سيريس” ثلاثة أخرى هي “ماكي ماكي” و”إيريس” و”هوميا”.

 

“نيو هورايزونز”.. نظرة إلى بلوتو عن كثب

في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني 2006 قامت وكالة ناسا الفضائية بإرسال مسبارها الفضائي “نيو هورايزونز” (New Horizons) برحلة طويلة استغرقت 9 سنوات ونصفا باتجاه كويكب بلوتو، وظهر في الصور الأولى المرسلة أن لدى بلوتو قطرا يساوي 2370 كيلومترا، أي أنه أقل من خمس قطر الأرض.

واتضح أيضا من الصور بعض المزايا التي لم يستطع العلماء التحقق منها بسبب المسافات الفلكية الشاسعة، لقد بدا أن لبلوتو تضاريس مختلفة على نقيض ما كانت تظهره التلسكوبات الأرضية، كوجود جبال ووديان وسهول وحفر، واتضح أن درجة حرارته تصل إلى 228-238 درجة مئوية تحت الصفر.

يعتقد العلماء أن الصخور تشكل 70% من كويكب بلوتو، وتتمثل النسبة الباقية بالماء الجليدي وغاز الميثان وأول أكسيد الكربون والنيتروجين المتجمد. وتطفو بقع بنية حمراء على مساحات كبيرة من السطح، وتمثل هذه البقع جزيئات الهيدروكربون الناتجة من تفاعل الأشعة الكونية مع غاز الميثان الموجود في الغلاف الجوي6.

وينتمي كويكب بلوتو إلى مجموعة الأجرام السماوية الموجودة في حزام “كايبر” (Kuiper)، ويلتف حول كواكب مجموعتنا الشمسية، ويضم أعدادا لا يمكن حصرها من الأجسام السابحة في الفضاء.

 

قمر قارون.. أنيس في عزلة مريعة

قمر قارون (أو شارون) هو أكبر الأقمار الخمسة التابعة لكويكب بلوتو، إذ إن كتلته تساوي نصف كتلة بلوتو. وينظر إليهما مجتمعين على أنهما نظام كوكبي ثنائي قزم يدوران حول بعضهما، وهو النظام الوحيد من نوعه في مجموعتنا الشمسية. ويواجه سطحا الجسمين المتقابلين بعضهما بشكل دائم بظاهرة فريدة تعرف بالانغلاق المدّي (Tidal Locking)‏، فلا يغيب قارون ولا يشرق في سماء النصف المواجه من بلوتو7.

ويظهر قارون بلونه الرمادي المبيض المميز عن أقرانه من الأقمار، ويمتلك سطحا متجمدا مغطى بالميثان والنيتروجين المتجمد، ويعتقد العلماء أنه يحتوي على لب صخري صلب.

لعل كويكب بلوتو ليس أبعد جرم سماوي في مجموعتنا الشمسية، لكنه بكل تأكيد ليس من الأماكن المحبذة للزيارة مستقبلا، هذا إن توفرت فرصة للإنسان أن يرحل عن الأرض، ولكن إن أجبر الإنسان على أن يلتقي بالكوكب القزم، فإن أقرب مسافة قد نقطعها هي 4.28 مليارات كيلومتر، وأبعد مسافة هي 7.5 مليارات كيلومتر، وعلى هول هذه المسافات الهائلة فإن الإنسان بكل اعتزاز بقدراته المحدودة استطاع أن يكشف النقاب عن بلوتو وعما هو أبعد من ذلك في هذا الخلق العظيم.

 

المصادر:

[1] كوكس، لوران (2017). من اخترع التلسكوب؟. تم الاسترداد من:www.space.com

[2] محررو الموقع (2010). حدث في مثل هذا اليوم اكتشاف بلوتو. تم الاسترداد من:www.history.com

[3] ديفوركين، دافيد (2015). العثور على بلوتو مع تقنية المقارنة الوميضية. تم الاسترداد من: www.airandspace.si.edu

[4] فريق عمل إيرث سكاي (2018). كيف حصل بلوتو على اسمه. تم الاسترداد من: www.earthsky.org

[5] مكتبة الكونجرس. لماذا بلوتو لم يعد كوكبا؟. تم الاسترداد من:www.loc.gov

[6] تشوي، كارلس (2017). كوكب بلوتو القزم: حقائق عن الكوكب الجليدي السابق. تم الاسترداد من:www.space.com

[7] محررو الموقع (2019). قمر شارون. تم الاسترداد من: www.solarsystem.nasa.gov