بين ثورتين.. الأزهر في قبضة العسكر

تفتح الوثائقية ملف الجامع الأزهر بعد أكثر من ألف عام على بنائه في سلسلة من أربعة أفلام أنتجتها الجزيرة الوثائقية تحكي قصة هذا الصرح الأشم منذ تشييده على يد الفاطميين وحتى أيامنا هذه، وفي الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة المعنونة “بين ثورتين” نمضي مع الأزهر بين ثورتين؛ الأولى في خمسينيات القرن الماضي، والثانية وفي الألفية الثالثة ضمن ما اشتهر بثورات الربيع العربي.

حسن العدم

في هذه الحلقة الرابعة والأخيرة بعنوان “بين ثورتين” من سلسلة الأزهر التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية، نستعرض تاريخ هذه المؤسسة في فترة ما بين الثورتين، أي قبيل ثورة يوليو/تموز 1952 إلى ما بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وقد تراوح الزمان ما بين تحييد كامل لدور الأزهر، واتكاءٍ عليه أحياناً لاستجلاب شرعية ما، والعودة إلى تَصَدُّرِ واجهة الأحداث كما سنرى في ثورة يناير.

عبد الناصر.. استحواذ على الأزهر

لا ينكر أحد أن ما جرى على أرض فلسطين من أحداث جسام عام 1948 وقيام دولة الاحتلال الصهيوني، كان قد ترك آثاراً على كل رقعة البلاد الإسلامية، وكانت مصر بالضرورة من أكثر البقاع تأثراً بهذا الحدث الجلل، فقد كانت البلاد تغلي، وكان تلاميذ الأزهر ومعهم المخلصون يتحرقون شوقاً إلى الجهاد لدفع هذا العدوان الغاشم عن الأرض المقدسة، فيما كان الملك وعائلته وحاشيته سادرين في غيهم، غير مكترثين كثيراً بما يحدث على مقربة منهم، ينفقون على حفلاتهم وأسفارهم ببذخ وإسراف من أموال الدولة، فيما كانت المؤسسات الوطنية والشعب أولى بهذه الأموال. كل هذا مهد لأرضية صلبة تقوم عليها ثورة جديدة.

في بدايات ثورة يوليو/تموز 1952 كان الأزهر في موقف المترقب المستشرف كنه هذه الحركة ورجالاتها، ولم يَطل هذا الترقب، فحتى سنة 1954 كان الوجه الرئيسي للثورة اللواء محمد نجيب قد تنحى، أو أجبر على التنحي، وكان الإخوان المسلمون –وهم الوقود الرئيسي لهذه الثورة- قد اجتُثوا إما بالإعدام أو السجن أو النفي، وكشفت الثورة عن وجهها الحقيقي، جمال عبد الناصر الذي كان يعرف قيمة الأزهر وثقله في المجتمع المصري، فكانت البداية بالتودد والتقرب لهذه المؤسسة تمهيدا للسيطرة والتهميش كما سيأتي.

بدأت السيطرة بانتزاع الفتاوى التي تخدم الثورة وتلغي خصومها، ثم تطورت إلى تحجيم موارد الدعم المادي، وذلك بتبديد أوقاف الأزهر وإعادة توزيعها، ثم بإلغاء هيئة كبار العلماء، وصولاً إلى إصدار قانون تطوير الأزهر في 1961، حتى إن قانون الإصلاح الزراعي الذي كان الهدف المعلن منه هو إعادة توزيع الثروات ليستفيد منها الفقراء، كان المستهدف الحقيقي منه هو أوقاف الأزهر دون المؤسسات الدينية الأخرى سواء أكانت مسلمة أم مسيحية، ولا أدل على ذلك من أن أوقاف الكنيسة القبطية ومواردها لم تُمس إطلاقا من خلال هذا القانون أو غيره.

ثمة ضربة قاصمة أخرى تعرض لها الأزهر من خلال إلغاء المحاكم الشرعية وتفويض المحاكم المدنية بالقيام بأعمالها. ورغم كل هذه التصرفات التي توحي باغتيال الأزهر، لم يجد عبد الناصر بداً من مغازلة هذه المؤسسة الشعبية أثناء عدوان 1956، فزاد تردده على الأزهر والصلاة فيه وإلقاء الخطب النارية على منابره، وذلك لأنه يعلم مكانة الأزهر عند المصريين، ودوره في إذكاء روح التضحية والجهاد في نفوسهم.

في بدايات ثورة يوليو/تموز 1952 كان الأزهر في موقف المترقب المستشرف
في بدايات ثورة يوليو/تموز 1952 كان الأزهر في موقف المترقب المستشرف

السم في العسل

ثم جاءت سنة 1961 بقانون تطوير الأزهر، والذي يرى كثير من المحللين أنه يحمل حقاً أريد به باطل، فالأزهر بموجب هذا القانون تحول إلى مؤسسة تابعة للدولة بالكلية، وبتقسيم الدراسة فيه إلى الفرعين الأدبي والعلمي تم سحب الطلاب النجباء إلى المجالات العملية التطبيقية، وتُرك الطلاب الأقل ذكاء وفطنة للدراسات الشرعية، ثم تم حل هيئة كبار العلماء في الأزهر ليحل محلها مجمع البحوث الإسلامية، بحيث يتم تعيين شيخ الأزهر وكذلك وكيله بقرار من رئيس الجمهورية وليس بالانتخاب من قبل العلماء كما كان في السابق، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى استحداث منصب وزير شؤون الأزهر يتولاه أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ويكون له السلطة على شيخ الأزهر ووكيله.

المضحك المبكي في هذا القانون هو طريقة إعداده وإقراره، فقد تمت صياغته بالكامل من خلال أجهزة السلطة الحاكمة دون أي تدخل أو استشارة من الأزهر أو أيٍ من مشايخه، ودُعي أعضاء مجلس الشعب لإقراره في الساعة الرابعة قبل الفجر، وحضرت السلطة الحاكمة بقضها وقضيضها، وحين شعر رئيس مجلس الشعب آنذاك محمد أنور السادات أن عدداً من الأعضاء يتململون لمناقشة بعض مواد القانون، قاطعهم بلهجة صارمة وقال: إن الذين حاولوا الوقوف في وجه الثورة سابقاً دِيسوا بالنعال، وإن الذين تسول لهم أنفسهم أن يوقفوا تقدم قطار الثورة الآن سوف يداسون بالأقدام كذلك.. ليتم إقرار القانون بما يشبه الإجماع.

الحقيقة التي يجب عدم إغفالها منذ قيام الثورة، أن الزعماء الذين تعاقبوا على السلطة لم يكن الدين مرجعية أي واحد منهم، وبالتالي فإن نظرتهم للأزهر كانت نظرة مصالح مجردة عن أي تقدير لتاريخ هذا الصرح الثقافي والحضاري والديني، فكان الأزهر يتعرض للإغفال والتهميش والتحجيم، إلا في الفترات العصيبة التي تتعرض فيها السلطة لاختبار حقيقي، ولذلك تجد أن الهزيمة المذلة في عام 1967 كان لها أكبر الأثر في عودة شيوخ الأزهر لتصدر واجهة الأحداث والظهور مع الجنود على طول القناة لرفع الروح المعنوية لديهم، واستمر هذا الحضور المتميز حتى 1973.

جمال عبد الناصر كان يعرف قيمة الأزهر وثقله في المجتمع المصري، فكانت البداية بالتودد والتقرب لهذه المؤسسة
جمال عبد الناصر كان يعرف قيمة الأزهر وثقله في المجتمع المصري، فكانت البداية بالتودد والتقرب لهذه المؤسسة

السادات.. الأزهر تحت العباءة

ثم جاء السادات وسار على نهج سلفه في التعامل مع الأزهر، بل وزاد على صاحبه بأن استخدم الأزهر في صراعاته مع سائر القوى التي كانت تسبب إزعاجاً لاستقراره على كرسي السلطة، فتارة تجده يستصدر فتاوى الردة على القوى اليسارية والاشتراكية، ومرة يستخدمه في تكفير الجماعات الإسلامية الراديكالية، وكان الحضور الأميز للأزهر يوم أصدر فتوى جواز الصلح مع الكيان الصهيوني في كامب ديفد سنة 1978، ثم قام بالتغطية على زيارة السادات المشينة للكنيست ومن خلالها الاعتراف الضمني بالقدس عاصمة للكيان الغاصب.

في العام 1981 تمت تصفية السادات على أيدي ثلة من عناصر الجيش الذين يدينون بالولاء لجماعات إسلامية كان للسادات معها صولات وجولات. ومهما كانت الأسباب والدوافع وراء اغتياله، فإن هذا الرئيس كان مثار جدل في تعامله مع كافة الشرائح السياسية والدينية في البلاد، وكان تعامله مع الأزهر لا يقل غرابةً، فهو كان يتعامل مع شيوخ الأزهر بصفتهم الشخصية بغير الموازين التي يتعامل بها مع الأزهر كمؤسسة تابعة للنظام، وليس أدل على هذا القول من تعامله مع الشيخ الأزهري عبد الحميد كشك، وتغييبه في السجون، إلى أن أُفرج عنه بعد مقتل السادات.

استخدم السادات الأزهر في صراعاته مع سائر القوى التي كانت تسبب إزعاجاً لاستقراره على كرسي السلطة
استخدم السادات الأزهر في صراعاته مع سائر القوى التي كانت تسبب إزعاجاً لاستقراره على كرسي السلطة

مبارك.. بين جاد الحق وطنطاوي

وجاء الدور على محمد حسني مبارك ليتصدر المشهد المصري، وعلم الرئيس الجديد كسابقيه قيمة الدين في نفوس المصريين، ولذلك كان يميل إلى المؤسسات الدينية الرسمية ليأخذ منها شرعيته في كل مرة يحس بالحاجة لذلك، وكان من الطبيعي أن يكون الأزهر هو المرجع الرئيسي كلما حزبه أمر.

غير أن شيخ الأزهر آنذاك جاد الحق علي جاد الحق، لم يكن في كل الحالات مهادناً للرئيس، ويتذكر الجميع كيف طلب منه الرئيس مداعباً أن يكون ليناً مع الضيوف في مؤتمر السكان الذي استضافته القاهرة، فما كان من الشيخ جاد الحق إلا أن توجه إلى مكتبه وكتب استقالته ودفع بها إلى من يوصلها للرئيس، فردها مبارك وقال: قل له فليفعل ما يشاء. ولذلك كان كثير من المحللين يصفون الشيخ جاد الحق بأنه عصيٌّ على الهضم ولا يمالئ السلطة في كثير من الأحيان.

فطن مبارك إلى عدم تكرار ظاهرة جاد الحق، فاستعمل على الأزهر الشيخ “السهل الهضم” محمد سيد طنطاوي الذي كان شديداً على الأزهر وأهله، هيناً ليناً مع رجال السلطة والسياسة، وكانت الخطوات التطبيعية التي قام بها بعض شيوخ الأزهر باستقبال حاخامات يهود في باحات الأزهر بتوجيهات من الطنطاوي محل سخط واستهجان الجماهير الرافضة للتطبيع مع العدو، يضاف إلى هذا كثيرٌ من المواقف والفتاوى المثيرة للجدل التي استمرت على مدى ثلاثين عاما من فترة حكم مبارك، وكان الأزهر في معظمها في عهدة الشيخ سيد طنطاوي. وقد كان البعض يجد العذر للشيخ في أنه كان يسعى للتوسيع على الأزهر وأهله وعدم التصادم مع السلطات في غير جدوى.

كان الحضور الأميز للأزهر في عهد السادات يوم أصدر فتوى جواز الصلح مع الكيان الصهيوني في كامب ديفد
كان الحضور الأميز للأزهر في عهد السادات يوم أصدر فتوى جواز الصلح مع الكيان الصهيوني في كامب ديفد

الأزهر يريد إسقاط النظام

وفي آخر عهد مبارك تم تعيين الشيخ أحمد الطيب إماماً للأزهر، وهو رجل مستنير ووسطي معتدل، كما وصفه كثير من المراقبين، جاء بخطة وبرنامج لتطوير الأزهر واستعادة مكانته، ولكن ثورة يناير 2011 جاءت وأعادت ترتيب الأولويات لدى الأزهر ومشيخته، حيث كان موقف الأزهر في بدايات الثورة موقف المترقب المرتاب، وحاول الشيخ ألا يتصادم مع الطرفين السلطة أو الثوار، فكان يصدر بيانات تدعو إلى عدم التظاهر، ولكن دون أن يهاجم المتظاهرين أو يُخَوِّنهم، ثم كان القول الفصل الذي قطع قول كل خطيب: عمائم الأزهر تزيّن الميدان، وحناجر الأزهريين تطغى على المكان، عادت صورة الأزهر البهية إلى الأذهان، واستدعت الذاكرة موقف الشيوخ في الحملة الفرنسية في مواجهة المدافع.

في آخر عهد مبارك تم تعيين الشيخ أحمد الطيب إماماً للأزهر
في آخر عهد مبارك تم تعيين الشيخ أحمد الطيب إماماً للأزهر

الأزهر في عيون المتفائلين

وعلى الرغم من التبعية الواضحة من شيوخ الأزهر للسلطة الحاكمة منذ 1952 فإن الدكتور محمد عمارة يفرق بين قيادة الأزهر وتلامذته، فيقول إن تلامذة الأزهر هم جزء من الشعب، ولهم نفس مواقف الشعب، ويتعرضون لنفس الضغوط التي تمارس على عامة الناس، ولذلك ليس ضروريا أن نضع كل الأزهريين في سلة واحدة ونحكم عليهم بنفس المقياس.

ويؤكد المؤرخ حلمي النمنم على إعادة النظر في دور الأزهر وفهمه لحركة المجتمع وتطلعاته، وكذلك إعادة تقييم علاقته بالأنظمة الحاكمة، ليكون على مسافة من الرئيس والحكومة والأدوات التنفيذية في الدولة والهيئات السياسية والأحزاب وعلى رأسها الحزب الحاكم أياً كان اسمه.

ويرى الأستاذ محمد كمال إمام أنه يجب تجديد الأفكار والمناهج واللوائح القانونية، وكذلك تجديد البنية الهيكلية الداخلية، ومواجهة تحديات العولمة والانفتاح، ومواكبة التطورات العلمية والمعرفية، حتى يستعيد الأزهر قيادة الدفة الثقافية للأمة.

ويضيف “ينبغي للأزهر أن يضطلع بدوره الريادي في قيادة المجتمعات العربية والمسلمة نحو الصدارة من جديد، وأن يكون حصناً للدفاع عن الإسلام السني في كل أنحاء العالم”.

أما الدكتور عمار علي حسن فيقول “ينبغي أن يهيئ الأزهر نفسه لخوض نضال جاد ومرير من أجل استعادة استقلاله وصدقيته لدى الناس، وإلغاء قرار 1961”.

عمائم الأزهر تزيّن الميدان، وحناجر الأزهريين تطغى على المكان في ثورة يناير 2011
عمائم الأزهر تزيّن الميدان، وحناجر الأزهريين تطغى على المكان في ثورة يناير 2011

ليست نهاية القصة

بقي الأزهر ألف عام، تغيرت الوجوه، مات الزعماء والسلاطين، وتحطمت على أسواره الحملات والغزوات، وقضى الأئمة والشيوخ والمجاهدون، وما زال الأزهر شامخاً، وربما يبقى لألف عام مقبلة، وقد تزيد أو تقل، من يدري؟

ولكن الذي يعلمه الأحياء والميتون أن الأزهر كان على الدوام شاهداً على مصر، بل وشاهداً ومنارة للعالم العربي والإسلامي على الدوام، عليه تجتمع الآراء، وله تنحني الأعناق، وعنه يصدر الصادي رياناً.

وإذا كانت مصر هبة النيل على حد قول هيرودوت، فإن مصر باتت هبة الأزهر برأي كثير من العلماء.