القدس.. ألوان الحضارة والأديان والأعراق في أم المدائن المقدسة

على مسارب الهواء ومدارج النسيم في الأفئدة، يعبر اسم القدس فضاءات الشغف في العالم العربي والإسلامي، ويتهادى بين مشاعر التقديس والإكبار، كما تتهادى السور والآيات القرآنية بين فؤاد وشفتي شيخ مقدسي عرف القرآن، واستقى منه عنفوان المقاومة والنضال.

القدس في حقائب التاريخ صفحات لا تطوى من الجمال، وفي شغاف المؤمنين صوت من السماء يرن في الأسماع ويهز نبضات القلوب، وفي زند المقاومة هي آخر الحصون التي يصطف الجميع دفاعا عنها، وهي في الطموح الإسرائيلي أورشليم والموعد المأمول لإقامة الحلم الصهيوني وبناء الهيكل المزعوم.

وبين هذا وذاك كانت القدس قصة عذراء فتّانة عبرت فجاج التاريخ وشغفت الإنسان، فلم يزل مقاوما يحميها بصدرها العاري إلا من حبها، أو معتديا غاصبا يمني نفسه بحكم زهرة المدائن.

سرة مدائن الشرق الأوسط.. تراث إنساني كامل

تعتبر مدينة القدس واحدة من أقدم الحواضر الدينية والأثرية في العالم، وبحسب تصنيف لجنة التراث العالمي في اليونسكو، فإن مدينة القدس هي تراث إنساني كامل، ورغم ذلك فإن هذا التراث التي يجمع الديانات السماوية الثلاث ظل منذ أكثر من 70 سنة عرضة لتخريب ممنهج من الدولة الإسرائيلية التي لا ترضى بغير هدمه وتجريف معالمه، وتحطيم أي صلة ربط بينه وبين الإسلام خصوصا.

تقع مدينة القدس في وسط فلسطين كما تتوسط سرة جسم المقدسي المقاوم، بل تتوسط أيضا منطقة الشرق الأوسط، حيث تبعد 60 كلم شرق البحر المتوسط، وتحد البحر الميت غربا على بعد 35 كلم منه، بينما تبعد 250 كلم شمالا عن البحر الأحمر، وبين عواصم دول الطوق تقف القدس على مسافة، غير بعيدة حيث يبعد صدى مآذنها 88 كلم عن عمّان، غربا وعن دمشق 290 كلم في الجنوب الغربي، ولها عن بيروت مدى لا يتجاوز 388 كلم.

وهي في كل ذلك سرة المدائن، وفي وسطها كموقع القلادة من النحر والترائب يقع المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وينام التاريخ في كنف القداسة، ليستيقظ كل صباح على وقع أقدام الجنود الإسرائيليين، وهم يجوسون خلال الديار.

يقطن القدس الآن حوالي مليون شخص، غالبيتهم من اليهود، وهم في تناقص متزايد، وبقية السكان من العرب في تزايد متواصل، نظرا لمؤشرات الإنجاب والتمدد الديمغرافي في صفوف اليهود الذي يتناقص باستمرار، والسكان العرب الذين تزيد أعداد مواليدهم كل سنة، حيث يبدو أن الديمغرافيا ستكون لصالح الفلسطينيين، بعد أن حكم لهم التاريخ والعدالة والقانون.

مدينة الإلم سالم.. مهجر الكنعانيين ومملكة الأنبياء

يحفر التاريخ عند أقدام القدس منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وتغتسل الحقب والأيام من مياه المدينة المقدسة، وتنساب قوافل الأمم والشعوب بين أزقتها العتيقة، وتضج حوادث السنين من حصبائها وزخرف مدائنها وهي تردد للعالم “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”.. أجساد الملوك والسوقة، والأنبياء والقديسين والصالحين، والغواني الحالمات، والأمهات الكادحات، وأحاديث الرعاة، وترانيم الصيادين على شواطئ الأيام المتضاربة الأمواج.

حملت القدس في رحلتها في أرحام الحياة أسماء مختلفة، فسماها الكنعانيون الذين هاجروا إليها في الألف الثالثة قبل المدينة أور ساليم، أي مدينة الإله سالم أو مدينة السلام، ثم انتقلت بعد ذلك إلى اسم أورشليم الذي يتشبث به اليهود حاليا، ويعني بالعبرية البيت المقدس، وقد وردت هذه التسمية أكثر من 680 مرة في نسخ التوراة المتعددة، أما في العصر اليوناني فقد حملت القدس اسم إيلياء أو إيلية، وتعني بيت الله.

ومن تلك الأسماء كلها كانت القدس بيت الله وبيت السلام، وكانت الصبغة الدينية تفوح من أسمائها المتعددة، على ضفاف القداسة وألحان الجلال الإلهي.

وقد انتقلت القدس أيضا إلى الحكم المصري الفرعوني في القرن السادس عشر قبل الميلاد، حيث كانت ضمن الأراضي الفلسطينية التي مد الحكم الفرعوني سلطانه عليها بين النيل والأبيض المتوسط لقرون، قبل أن تنتقل إلى الحكم اليهودي في عهد الملك نبي الله داود عليه السلام، ثم لنجله الملك سليمان عليهما السلام الذي أكمل مع والده 73 سنة من حكم المدينة المقدسة.

جحافل الغزاة.. مصارع الروم والفرس حول أم المدائن

مع منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، أصبحت القدس تحت سيطرة الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني الذي قضى على مملكة اليهود التي كانت بقيادة الملك صدقيا بن يوشع، وانتقل اليهود إلى أسرى معذبين تحت سطوة البابليين.

الصليبيون يدخلون القدس ويحتلونها لقرابة 90 عاما

تتوالى سلاسل الحكام والملوك، وهي تجول وتؤوب ويعقب بعضها بعضا في حكم القدس، حيث استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين كلها، بما فيها القدس سنة 333 قبل الميلاد، وواصل خلفاؤه من المقدونيين والبطالمة حكم المدينة، حتى سقطت في يد الحكم الروماني سنة 63 قبل الميلاد، وانتقلت بذلك إلى سيطرة حكام القسطنطينية، وبلغت تلك السيطرة أوجها مع بناء كنيسة القيامة سنة 326 م، إثر تحول الإمبراطورية الرومانية إلى الديانة المسيحية، وتحويل عاصمتها من روما إلى بيزنطة.

غير أن قدر القدس مع الغزاة لم يتوقف، فسيطر عليها الفُرس ما بين 614-628 م، مستغلين في ذلك الصراع المرير الذي نشب بين حكام بيزنطة، وانقسامهم إلى فئتين متناقضتين، لكن الرومان عادوا من جديد إلى القدس، فاحتلوها سنة 628 م، وظلت في عهدتهم حتى بدأت عهدا وزمنا جديدا مع الفتح الإسلامي سنة 636 للميلاد.

معراج الرسول.. تمهيد للتاريخ الإسلامي في المدينة

في سنة 621 م (قبل الهجرة بسنة) كانت القدس على موعد مع حدث من أعظم أحداث الزمان، بل من أعظم وقائع الدنيا، حيث زالت المسافة بين الأزمنة، وتقلصت عباءة الأيام، لينتقل الرسول الكريم محمد ﷺ من فراشه في مكة المكرمة على صهوة البراق، إلى المسجد الأقصى، وليصلي بالأنبياء إماما، ثم يرقى بعد ذلك إلى السماء السابعة في رحلته الخالدة المعروفة برحلة الإسراء والمعراج.

لم يكن الإسراء والمعراج إلا بداية تاريخ جديد من الحكم العربي الإسلامي للقدس، حيث دخلها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، بعد أن امتنع قساوستها من تسليمها لغيره، مؤكدين أنهم يعرفونه بصفته التي يجدونها مكتوبة عندهم في أناجيلهم ورواياتهم المقدسة.

الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب يفتح القدس ويعطي أهلها عهدا، ويبني فيها مسجده

جاء الحاكم الأهم في التاريخ يومها يركب بعيره ومعه خادمه، (عام 15 للهجرة، 636 للميلاد)، كان الرجلان يتناوبان على ركوب الجمل بدون حراسة ولا موكب، فيركب الخليفة عمر فترة، قبل أن ينتقل ويترك لخادمه رحل الجمل، ويمشي على قدميه، ولم يكن ثوبه زاهي الألوان ولا مطرزا بنياشين وقلائد الملوك في عهده، بل كان جبة مرقعة.

وعندما أطل الخليفة الراشد على القدس، وعاين القس الأكبر المشهد، ورأى الأمير يسير إلى جانب جمل يركبه خادمه، ورأى ثوبه المرقع، صاح بأعلى صوته “إنه هو”، وفتح باب المدينة المقدسة أمام عمر بن الخطاب وجنده الفاتحين، وكتب لأهل إيلياء “وثيقة العهد العمري” سنة 636 ميلادية، وشهد عليها كبار الصحابة، ومن بينهم قائد الفتح الإسلامي الصحابي الجليل أبو عبيدة الجراح، وضمنت تلك العهدة كل حقوقهم الدينية والسياسية والاجتماعية، إلا أنهم اشترطوا أن لا يساكنهم فيها اليهود.

ومنذ العهدة العمرية أخذت القدس طابعها الإسلامي، وحملت اسمها العربي الذي استقر معها إلى اليوم، وارتفعت فيها مآذن الإسلام وآثاره، ومن أبرزها مسجد قبة الصخرة الذي بناه عبد الملك بن مروان، وسار على ذات الطريق الخلفاء من بعده، ومن مختلف الدول والإمارات التي تعاقبت على حكمها طيلة 1300 سنة أو تزيد.

سنوات الصليبيين.. أقسى أيام القدس في التاريخ

في أحضان الدولة الإسلامية عاشت القدس كل مراحل الزهو والضعف التي مرت على الدولة الإسلامية، فعاشت تحت الصراعات والتحالفات والحروب التي نشبت بين مختلف الدول والزعامات، وخصوصا بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، ثم آل الحكم فيها إلى السلاجقة الذين استمر ملكهم لها حتى 1071.

صلاح الدين الأيوبي يدخل القدس محررا في عام 1187 بعد 90 سنة من احتلال الصليبيين لها

وقد كان من أصعب فترات العسف على القدس أيام احتلال الصليبيين وتدنيسهم معالمها، قبل أن يتدخل صلاح الدين الأيوبي مستجيبا للنداء الذي أرسله أحد الشعراء المقادسة:

يا أيها الملِك الذي .. لمعالم الصلبان نكَّس
جاءت إليكَ ظُلامةٌ .. يَشكو بها البيت المقدَّس
كل المساجد طُهِّرت .. وأنا على شرفي أُدَنَّس

وقد استمر الحكم الصليبي للقدس من 1099-1187 م، حيث حررها صلاح الدين الأيوبي بعد حوالي 90 سنة من الحكم الصليبي العنيف الذي راح ضحيته أكثر من سبعين ألف قتيل مقدسي، غير أن الصليبين عادوا من جديد إلى احتلال القدس في عهد المماليك، ولكن لفترة أقل لم تتجاوز 11 سنة، وانتهت بطردهم منها شر طرد، واستقر الحكم في القدس وفلسطين للمماليك المصريين، قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى الخلافة العثمانية التي ظلت الراعي الرسمي للقدس، حتى سقوطها بيد الاحتلال البريطاني 1917-1948 م.

“وعد بلفور”.. من الاحتلال إلى الاستيطان الصهيوني

في سنة 1917 وأثناء عمق الحرب العالمية الأولى وقعت القدس وفلسطين بشكل عام تحت سيطرة الاحتلال البريطاني بقيادة قائده الجنرال “إدموند ألنبي” الذي وضع سيطرته على المدينة المقدسة، وفي تلك الأثناء صدر “وعد بلفور” أيضا.

جاء هذا الوعد متوجا للحراك اليهودي الساعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد كان “ثيودور هرتزل” حريصا إلى أقصى درجة للحصول على إذن من السلطان عبد الحميد آخر سلاطين الدولة العثمانية.

وبوعد بلفور الذي يعتبر أبرز صفعة للتاريخ والإنسانية، دخلت القدس حقبة مظلمة ومؤلمة من تاريخها، وظلت في الفترة ما بين 1917-1948 تستقبل آلاف المهاجرين الصهاينة الذين أخذوا في برنامج واضح لتهويد الأرض المقدسة وتحويل معالمها وسرقة تراثها الخالد.

“دونالد ترامب”.. إعلان القدس عاصمة للاحتلال

مع إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين سنة 1948 أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “ديفيد بن غورويون” القدس الغربية عاصمة للكيان المحتل، وبقيت القدس الشرقية تحت وصاية المملكة الأردنية الهاشمية.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل

سارت الأيام حبلى بعد ذلك بكل مؤلم للمقادسة، فأصبح اليهود أغلبية في مدينة لا يعرفون معالمها، وبدأت الحفريات الإسرائيلية تحت جدران المسجد الأقصى ومساجد المدينة المقدسة وبقية آثارها.

ومع نكسة يونيو/حزيران المؤلمة 1967، وضعت إسرائيل يدها بالكامل على شقي المدينة المقدسة، وبدأ مسار جديد مع منتصف العقد المنصرم، من أجل جلب اعتراف عالمي بأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وبلغ الأمر مداه في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووجه أوامره بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة.

ألاعيب الاحتلال.. سوسة خبيثة تلتهم أراضي القدس

لم يدخر عمداء القدس أي فرصة لحمايتها، وخصوصا في فترة الانتداب البريطاني، وبعده في فترة ما قبل نكسة يونيو/حزيران 1967، حيث عملوا بشكل كبير على توسيع المدينة وحماية آثارها، ومع سيطرة الاحتلال أخذ مسار التهويد أبعادا مختلفة.

من بين أساليب الاحتلال على سبيل المثال تقنين انتزاع الأراضي من السكان الأصليين، فبموجب قانون الأراضي الصادر سنة 1943، استولى الاحتلال على مساحات واسعة من أراضي القدس تحت دعوى التملك من أجل المصلحة العامة، كما أقام كثيرا من المستوطنات داخل القدس، لتتمدد فيها عشرات آلاف الوحدات السكنية.

كما استخدم الاحتلال أيضا قانون البناء والتنظيم الذي أعلنت بموجبه مناطق حول البلدة القديمة مناطق خضراء، واعتبرت احتياطا إستراتيجيا لبناء المستوطنات عليها، كما حدث لاحقا.

ثم جاء قانون الغائبين الذي يسمح للاحتلال بمصادرة أملاك المهاجرين أو المهجرين والمنفيين، ليزيد من تمدد الاستيطان والاحتلال في جسم المدينة المقدسة.

وأخيرا جاء الجدار العازل أو جدار الفصل العنصري، ليقضم أجزاء من القدس، ويخنق أجزاء أخرى منها، ضمن عملية تهويد وقتل بطيء لرئة التاريخ في أقدس مدائن فلسطين.

أرواح الحضارة.. وهج الخلود يكسر حلم الهيكل المزعوم

على مآذنها ومحاريبها ونواقيس كنائسها وأحيائها القديمة ومياهها العذبة، تقف القدس راسية راسخة في أعماق التاريخ والقداسة، ينظر إليها الجميع بإجلال وإكبار وتقديس، وحتى أولئك الذين يقطعون أوصالها، ويسقون أرضها بالدم كل حين، ويقتلون فيها النسل، ويحرقون الحرث، يبحثون خلف كل ذلك الدمار عن هيكل مزعوم، وحلم مفقود.

أما الذين تستقي من دمائهم نبع الحياة، من المقادسة المرابطين في أنحائها، فهم أرواح الحضارة العابرة للتاريخ، وإكسير الخلود الذي ظلت القدس تستقي منه عظمتها وخلودها ورحلتها المتوهجة بالجلال والجمال، منذ أن كانت مهبط الأنبياء، ومعراج الرسل ومحراب الملائكة، والقديسين والأولياء.