“تحرير العملة”.. وانهيار الاقتصاد الوطني

اضطرت مجموعة من الدول في السنوات الأخيرة لتحرير عملاتها الوطنية بشكل جزئي أو كلي بسبب وضعها الاقتصادي أو بضغط من المؤسسات الدولية المانحة، من أجل ضبط توازناتها الاقتصادية.

ونقصد بتحرير العملة أو تعويمها، تركُها خاضعة لقانون العرض والطلب، دون أي تدخل من الدولة أو بنكها المركزي لتحديد سعرها.

ودفع تدهور التوازنات الماكرو-اقتصادية مجموعة من الدول -من بينها دولا عربية- لخوض هذه التجربة مرغمة، كمصر التي حررت سعر الجنيه فأدى إلى انخفاض قيمته بشكل كبير مقارنة بالدولار، وتسبب ذلك في ارتفاع التضخم وغلاء الأسعار، رغم التحسن المسجل في ميزان الأداءات.

فيما اختار المغرب “التدرج” في تنزيله لمشروع تحرير الدرهم، عبر نهج سياسة مرنة كمرحلة أولى، تعطي للبنك المركزي حق التدخل إذا تجاوز سعر الصرف النطاق المحدد على أساس سلّة من العملات المرجعية، تضم كلا من اليورو والدولار.

فلماذا تلجأ بعض الدول إلى تحرير عملاتها الوطنية؟ وما الذي تستفيده من هذا الإجراء؟ وما هي انعكاساته المحتملة على اقتصاداتها الداخلية؟

التحرير.. الخبراء منقسمون

تحرير العملة أو تعويمها، يعني ببساطة عدم تحديد سعر محدد ثابت لها من قبل البنك المركزي، وإخضاعها لقانون العرض والطلب، بحيث يؤدي ازدياد الطلب على العملة إلى ارتفاع سعرها والعكس صحيح، وهو المنطق الذي يخضع له مثلا الذهب أو النفط في السوق العالميةّ، إذ يخضعان لتغييرات يومية بحسب السياق الجيوستراتيجي.

ويرتبط نجاح عملية التحرير بقوة الاقتصاد المحلي، وتوفر البلد على قدرة تصديرية معتبرة، تجعل من العملة مطلوبة في السوق الدولي، لكن العكس هو الذي يحصل في غالب الأحيان، إذ أن الدول لا تلجأ إلى تحرير سعر الصرف إلا حينما تسوء الأمور، وتتعقد الوضعية الاقتصادية، ويكون هذا الحل مفروضا في الغالب من قبل المؤسسات المانحة الدولية، على رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

وينقسم الخبراء والمحللون الاقتصاديون بخصوص انعكاسات التعويم على الاقتصاد، إذ يركز بعضهم على أثاره الايجابية على التوازن الاقتصادي، من خلال إعطاء العملة قيمتها الحقيقية في ميزان الأداءات، وبالتالي التخفيف من الضغط على احتياطي العملة الصعبة.

كما يساعد على جذب الاستثمارات الخارجية، ومنح الشركات المصدرة تنافسية أكبر بالأسواق الخارجية. بالإضافة إلى تنشيط السياحة، إذ تتراجع كلفة الإقامة بتراجع قيمة العملة في البلد المضيف.

فيما يعتبر آخرون التعويم نقمة على الاقتصاد الداخلي؛ فتراجع قيمة العملة يساهم في زيادة معدلات التضخم، وارتفاع كلفة الاستيراد، وبالتالي تشتعل أسعار المواد الأساسية وتؤدي إلى غلاء المعيشة، كما أن قيمة الديون الخارجية تصل إلى مستويات قياسية، كما حدث مثلا في مصر مؤخرا.

تجربة تعويم “مُرة” في مصر

عانى المستهلكون في مصر من ارتفاع كبير في الأسعار، منذ أن قررت الحكومة المصرية تحرير سعر صرف الجنيه المصري، في إطار خطتها للإصلاح الاقتصادي، التي مكنتها من الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار.

واتخذ قرار التحرير في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بشكل مفاجئ دون مقدمات بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور، إذ كانت البنوك خالية من النقد الأجنبي وانتعشت تعاملات السوق السوداء، كما وصل التضخم إلى نسبة 35%، ونزل احتياطي البلاد من العملة الصعبة إلى أقل من 20 مليار دولار.

ووجدت الحكومة المصرية نفسها مضطرة لخوض هذه التجربة، التي نزلت كالصاعقة على المواطنين، بسبب ارتفاع الأسعار بشكل كبير، نتيجة انخفاض قيمة الجنيه أمام كافة العملات، خصوصا الدولار الذي وصلت قيمته إلى 17.86 جنيها، عوض 8.88 جنيهات قبل التعويم.

جاءت عملية تعويم الدرهم المغربي جزئية وبحذر شديد، وحدد البنك المركزي المغربي سعر صرف الدرهم داخل نطاق تقلّب نسبته 5 في المائة

وبعد أزيد من ثلاث سنوات من قرار البنك المركزي تعويم الجنيه، تباينت النتائج على أرض الواقع، فالحكومة تقول إن القرار ساهم في تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي، من خلال تباطؤ معدلات التضخم، وبلوغ احتياطات النقد الأجنبي أعلى مستوياتها، ونمو الاقتصاد بأكثر من 5.6% خلال 2019.

لكن المراقبين الاقتصاديين يحذّرون من الارتفاع الكبير لمستوى المديونية الذي قارب 110 مليار دولار مع نهاية هذه السنة 2019، مقابل 79 مليار دولار في الفترة نفسها من 2017. كما أن المواطنين المصريين لم يلحظوا أي تحسن على أوضاعهم الاجتماعية، خصوصا أن سعر الدولار لا زال مرتفعا -في حدود 16 جنيها.

الدرهم المغربي.. استقرار بعد تحرير جزئي

التجربة المغربية في تحرير العملة، كانت مختلفة عن نظيرتها المصرية، فعملية التعويم كانت جزئية وجرت بحذر شديد، وحدد البنك المركزي المغربي في منتصف يناير/كانون الثاني 2018 سعر صرف الدرهم داخل نطاق تقلّب نسبته 5 في المائة، نزولا أو صعودا بنسبة 2.5%، عوّض نسبة 0.3% التي كان معمولا بها في السابق تحت نظام سعر الصرف الثابت.

وتبقى هذه النسبة قليلة، ولكنها مكّنت من معرفة قوة العملة وقيمتها الحقيقية، خصوصا أن الدرهم الذي يحدد سعره على أساس سلة من العملات تضم كلا من اليورو -بنسبة 60%- والدولار -بنسبة 40 %-  ظل في مستواه السابق، ولم يتأثر كثيرا بعد التحرير الجزئي، مما شجع السلطات المغربية على المضي قدما في الإصلاح نحو نطاق تقلب أوسع قد يصل إلى 20 %.

أدى التحرير بقيمة الريال الذي أقدمت عليه البرازيل سنة 1999 إلى انخفاضه

وأوصى خبراء صندوق النقد الدولي بعد مرور سنة على انطلاق التعويم الجزئي، بعدم التأخر في توسيع الهامش المحدد لتحرك الدرهم، للاستفادة –كما يقول خبراء الصندوق- أكثر من مزايا هذا الإصلاح.

وبعد حوالي سنتين على اعتماد القرار لم تتخذ السلطات النقدية في المغرب أية خطوة في هذا الاتجاه، وبررت ذلك بعدم كَون قرار التحرير قسريا كما وقع لبلدان أخرى، بل تم ذلك بشكل اختياري وباستعداد تام من طرف السلطات المعنية. ومدة الانتقال نحو نظام عائم بشكل كامل قد تستغرق 15 عاما من أجل تمكين البنيات الاقتصادية للبلاد من مواكبة التطور الذي سيعرفه الدرهم.

تجربة ناجحة في الصين وماليزيا.. وقاسية في البرازيل

انتهجت العديد من الدول مثل الصين والهند والبرازيل والأرجنتين وماليزيا، سياسة التعويم منذ سنوات وحررت سعر صرف عملاتها، لكن التباين في النتائج هو الذي طبع كل هذه التجارب.

فالصين والهند مثلا نجحتا في العملية إلى حد كبير نتيجة اعتماد اقتصادهما على التصدير، وتدني أسعار المنتجات ما عزز الإقبال عليها خارجيا ومحليا.

كما اعتُبرت تجربة ماليزيا أيضا ناجحة، إذ أوقفت العمل بربط عملتها “الرنجيت” بالدولار منذ 2005، بعدما كانت حددت سعر “الرنجيت” عند 3.8 دولار سنة 1998، إثر الأزمة المالية الآسيوية. وظلت رغم ذلك العملة الماليزية تنافسية، واستطاعت الحفاظ على مكانتها الاقتصادية بفضل قطاعها التصديري القوي.

وفي الأرجنتين، تباينت نتائج خطة تحرير سعر الصرف، إذ اعتبر محللون اقتصاديون أن القرار الذي اتخذ في 2015 تسبب في زيادة تعرض البلاد للمخاطر، رغم أن الحكومة روّجت بأن البلاد قامت بما هو ضروري لتحقيق نمو اقتصادي أسرع وأكثر استدامة. لكن الأرجنتين عانت عوضا عن ذلك من الركود بدءا عام 2016، لتضطر بعد ذلك للاستدانة، وما صاحب ذلك من ارتفاع كبير في الواردات.

البرازيل بدورها تضررت كثيرا من التحرير الذي أقدمت عليه سنة 1999، خلال فترة اتسمت آنذاك بانخفاض قيمة الريال البرازيلي. وتسبب القرار في ارتفاع السلع المستوردة وزيادة التضخم، وهي الوضعية التي استمرت لحوالي 5 سنوات قبل أن تتحسن الوضعية تدريجيا بعد الإصلاحات الاقتصادية التي باشرها الرئيس البرازيلي السابق “لولا دا سيلفا”.

 في الولايات المتحدة..  تعويم بطعم مختلف

يعتبر الدولار الأمريكي حاليا أقوى العملات على الصعيد العالمي، إذ تحدد به أسعار الذهب والنفط، ويتم استعماله في أزيد من 80 بالمائة من المعاملات المالية، وبفضله تكرس الولايات المتحدة سيطرتها على العالم.

والتعويم الذي قامت به الولايات المتحدة كان استثنائيا بفصل الدولار عن الذهب، وكان ذلك في العام 1971 بقرار من الأمريكي ريتشارد نيكسون، فيما عرف آنذاك بـ”صدمة نيكسون” (Nixon Shock).

في العام 1971، وبقرار من الأمريكي ريتشارد نيكسون، تم فصل الدولار عن الذهب

وكانت أمريكا قبل ذلك التاريخ تنتهج سياسة استبدال الدولارات الأمريكية الخضراء بالذهب، وهو القرار الذي تم اعتماده منذ العام 1879، قبل التراجع عنه مؤقتا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، وتحديدا سنة 1933 في عهد الرئيس “فرانكلين روزفلت” للحد من تداعيات تلك الأزمة.

لكن سرعان ما تمت العودة مجددا إلى تغطية الدولار بالذهب إلى حين التوقيع عن اتفاقية “بريتون وودز” (Bretton Woods) سنة 1944.

وشكلت هذه الاتفاقية نقطة تحوّل مهمة في السياسة النقدية العالمية، إذ تم خلالها اعتماد الدولار الأمريكي كمرجع رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى، كما شكّلت نواة لقيام نظام الصرف الأجنبي الحالي، وتشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وبحلول عام 1973، أصبح التعليق المؤقت لربط الدولار بالذهب دائما، بعد أن قامت معظم الدول الأخرى بتحديد قيمة عملاتها بوسائل بعيدة عن معيار المعدن النفيس.