ثلاثة أعداء.. أيهم قتل كمال جنبلاط؟

عندما غادرت سيارة المرسيدس القصر القرميدي بالمختارة، كان هناك من يترصدها في الطريق، وما إن وصلت ساحة بعقلين وانحرفت باتجاه بيروت حتى تكلم لكلاشينكوف وأسكت واحدا من أعلى الأصوات دويا في لبنان.

في السادس عشر من مارس/آذار 1977، ودّع اللبنانيون رجلا بعدة أوصاف: زعيم طائفي، وسياسي وثوري، وقومي وكاتب ومفكر.

هذا الرجل هو الزعيم الدرزي كمال جنبلاط المعروف بانحيازه لفلسطين ورفضه للاستعمار ومخلفاته في لبنان.

وبعد مرور 40 عاما على اغتياله، أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما تحقيقيا يجيب على سؤال: من قتل جنبلاط؟

ينطلق التحقيق من قرى وبلدات جبل لبنان ويغوص في ملفات سياسية وأمنية في بيروت وبغداد ودمشق، ليتتبع خيوط الجريمة بأشخاصها وأدواتها ودوافعها.

يتحدث في الوثائقي العديد من رجال القضاء والسياسة والأمن، ومن بين هؤلاء العميد عصام أبوزكي، وهو أول رجل أمن حقق في الجريمة، قبل أن تتشعب خيوطها ويتوقف التحقيق في طريق مسدود، ليقرر القضاء إسقاط التهمة وإغلاق الملف إلى الأبد.

ويروي زكي “ضربنا طوقا على السيارة وبدأنا التحقيق. أستبعد الشبهة الجنائية. دافع سياسي محض. مؤامرة مدبرة” .

ويقدم وثائقي الجزيرة خلفيات عن مواقف كمال جنبلاط السياسية وعن علاقته بثلاث جهات كانت تناصبه العداء وتتهم كل منها بالوقوف خلف اغتياله.

العدو الماروني

الخصم المحلي، لكمال جنبلاط تمثله الطائفة المارونية المتهمة بالهيمنة على مقدرات الدولة في لبنان وتهميش بقية مكونات البلد الاثنية والدينية.

كمال جنبلاط نفسه يؤكد هذه الخصومة في إحدى مقابلاته مع قناة أجنبية إذ يصف وضع المارونيين في لبنان بأنه شبيه بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وقد عارض المارونيون الانتقال الفلسطيني للبنان وكان ذلك سببا في اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 ، أما كمال جنبلاط فكان في الجبهة الموالية لفلسطين.

أصابع الاتهام وجهت إلى المارونيين عندما وُجد كمال جنبلاط قتيلا ومرميا على قارعة الطريق

وبما أن الجبهة المارونية اللبنانية تتهم بقتل شقيقته ليندا في هولندا، فإن أصابع الاتهام وجهت إلى المارونيين عندما وجد كمال جنبلاط قتيلا ومرميا على قارعة الطريق.

ويلاحظ السياسي الماروني كريم بقادوني أن عصر الاغتيالات في لبنان بدأ مع تصفية الزعيم كمال جنبلاط.

لكن الوثائق والتقارير والمعلومات التي كشفها الفيلم، لا تقود إلى مسؤولية المارونيين عن قتل غريمهم السياسي.

الخصم الإسرائيلي

الخصم الثاني لجنبلاط كان إسرائيل، وذلك بحكم نصرته للفدائيين الفلسطينيين ورفضه لأن يظل لبنان معقل نفوذ للدول الغربية.

تشير الشهادات والمقابلات التي وردت في الوثائقي إلى إمكانية تورط إسرائيل في تصفية الزعيم كمال جنبلاط.

ويعزز هذا الطرح أن جنبلاط نجا سابقا من محاولة اغتيال إسرائيلية، ومن الوارد أن تستهدفه إسرائيل مرة أخرى ضمن مشروع أوسع لتصفية الشخصيات الوحدوية الوطنية في الدول العربية.

لكن مجهر الجزيرة الوثائقية لم يعثر على ما يربط إسرائيل بالجريمة، فكان على المحققين تفتيش الصندوق الأسود للعدو الثالث.

مخالب الأسد

هذا العدو هو نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. فرغم أن جنبلاط كان قوميا عربيا، فإنه رفض التدخل السوري في لبنان “وبدأ الصدام”.

كان كمال جنبلاط رئيسا للحركة الوطنية اللبنانية. ويرى أن لبنان يتعرض لمؤامرة ثلاثية من سوريا وإسرائيل والولايات المتحدة.

عبد الحليم خدام الذي كان نائبا لحافظ الأسد يتحدث في الوثائقي قائلا “له الحق في الرفض. كان يرانا دولة قوية تبلع لبنان ونحن لنا رؤية خاصة تهدف لمنع تفتت لبنان وانقضاض إسرائيل عليه”.

صورة تجمع جنبلاط مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فقد كان الخصم الثاني لجنبلاط إسرائيل، وذلك بحكم نصرته للفدائيين الفلسطينيين

تكشف شهادات في وثائقي الجزيرة أن القوات السورية في لبنان ضايقت كمال جنبلاط كثيرا وأن تفتيشه الدائم عند الحواجز دفعه للتخلي عن معظم حراسه.

وقد حصلت الجزيرة الوثائقية على تقرير استخباري أميركي كتب قبل سبعة أشهر من الاغتيال، وجاء فيه “السوريون مصممون على سحق كمال جنبلاط”.

تعقيدات التحقيق

تولي التحقيق القاضي حسن القواس، ويروي نجله أنه تعرض للتهديد ومحاولة القتل .. و”اخترقت رصاصة غرفة نومه وحرقت البيت . ومرة حاولوا اغتياله رفقة زوجته”.

وفي تقرير بملف التحقيق “ظهرت سيارة أميركية الصنع بداخلها أربعة مسلحين وتجاوزت سيارة كمال جنبلاط عند ساحة بلدة بعقلين ثم أرغمتها على التوقف”.

بقي جنبلاط في مكانه وقادها أحد المسلحين. قتلوا المرافقيْن ثم أطلقوا النار” على جنبلاط.

وقد خلصت التحقيقات والتحليلات إلى أن المسلحين كانوا ينوون خطفه. ولكن لما ذا تغيرت الخطة؟

تقرير استخباري أمريكي كتب قبل سبعة أشهر من اغتيال جنبلاط  “السوريون مصممون على سحق كمال جنبلاط”

يقول العميد أبو زكي “لعل كمال حاول وقفهم والتصدي لهم فصدمته السيارة من الخلف. وهناك “صدمات على السيارتين تؤكد هذه الفرضية”.

لكن الكشف الطبي أظهر الجمجمة محطمة، وهذا يعني أن الرصاص أطلق عليه من مسافة قريبة. والنتيجة هي أنهم ارتبكوا عندما حرف المقود، فأطلقوا عليه النار”.

ويروي شاهد عيان “رأيتهم عندما اقتربت من المنعطف وشاهدت سيارة أميركية متوقفة فنظرت بداخلها”.

“وعند باب السيارة الذي كان مفتوحا من جهة السائق شاهدت شخصا وبيده رشاش كلاشينكوف وقد أطلق ثلاث رصاصات على شاب يرتدي قميصا أبيض”.

ويمضي في شهادته “بعد أن تجاوزتهم نظرت من الخلف إلى المرآة فإذا بهم يسحبون الشخص الذي كان بجانب السائق ويلقون به على قارعة الطريق وبعدها شاهد سيارة جنبلاط متوقفة”.

تحليل هذه الشهادة ووثائق التحقيق، يؤكد أن المسلحين قتلوا مرافقي جنبلاط بعد تصفيته.

لغز السيارة

لكن المسلحين ما لبثوا أن واجهوا عقبة كأداء فقد تعطلت سيارتهم الأميركية وتركوها وسط الطريق لتتصدر صورتها الصحف العربية والعالمية في اليوم التالي.

كانت سيارة أميركية من نوع بونتياك وتحمل لوحة عراقية تتبع لمحافظة بغداد ورقمها 72719 .

ترك المسلحون السيارة وراءهم متعطلة، لكنها ظلت تلاحقهم حتى اليوم، فقد قُدمت شهادات حول المناطق التي كانت تمر منها وتتوقف فيها وظروف دخولها إلى البلاد.

يروي أحد الشهود أنه رآها متوقفة عند حاجز عسكري سوري وبجانبيها عنصرا أمن.

وهناك رواية أخرى تقول إن سيارة البونتياك مرت من أمام مركز المباحث العامة في رأس بيروت بعكس اتجاه السير، وقد أوقفها الرقيب محمد الحسن وقدم له سائقها نفسه على أنه من قوات الردع السورية فأرشدها للطريق وسجل رقمها .

سيارة الجريمة كانت أمريكية من نوع “بونتياك”، وتحمل لوحة عراقية تتبع لمحافظة بغداد

أما أبو طالب -وهو صاحب محل زهور شهير في بيروت، فروى أنها رآها قرب فندقي موزارت ولورانسو …

وفي شهادته بالوثائقي يقول مالك فندق موزارت إن رجلا سورياّ استأجر منه الفندق عام 1975.

لكن موظف استقبال في فندق لورانزو قدم شهادة من شأنها تعقيد مسار التحقيق.

يقول موظف الاستقبال إن سائق السيارة نزل في الفندق بتاريخ 11 مارس عام 1977 ودون اسمه: حسين كاظم جعفر جواد، من مواليد بغداد 1947 ، وظل يبيت في الفندق منذ ذلك التاريخ حتى صبيحة الاغتيال .

وتقول شهادة أخرى إن الأربعة توزعوا على الفندقين واثنان رفضا تدوين اسميهما لأنهما عسكريان، والآخران مدنيان أحدهما عراقي والآخر من سوريا يدعى ساهر الجبيلي.

سجلات العراق

فتش محققو الجزيرة في السجلات المدنية العراقية ولم يعثروا على أي أثر لحسين كاظم جعفر محمود. أما ساهر الجبلي فقد تكشف أنه عنصر من المخابرات السورية.

مجددا، يسير التحقيق في اتجاه نظام الأسد ولم يبق إلا حل لغز اللوحة العراقية وكيفية وصول السيارة إلى لبنان.

ينقل الوثائقي رواية لرجل عراقي يقول إن اللوحة انتزعت من سيارته عندما كان في زيارة إلى سوريا وأنه لا علاقة له بالسيارة الأميركية المتعطلة في لبنان.

الوثائقي يقدم خلفيات عن مواقف كمال جنبلاط السياسية، وعن علاقته بثلاث جهات كانت تناصبه العداء وتتهم كل منها بالوقوف خلف اغتياله

تتبع المحققون سجل السيارة وتاريخ شحنها من مرفأ نيويورك إلى بيروت، حيث ضبطتها الجمارك واتهمت شخصين باستغلالها لإدخال شحنة من المخدرات.

لكن محاضر الجمارك اللبنانية تكشف أن قوات الردع السورية استلمت المتهمين والسيارة، مما يعني أن كل طرق الاشتباه تؤدي لدمشق.

لكن التأكد من وضع القوات السورية يدها على السيارة الأميركية لا يكفي للتوصل لنتيجة أن النظام السوري هو من قتل كمال جنبلاط.

إلى القاتل

عند هذه النقطة، يتوقف المحققون عن تتبع مسار السيارة وتاريخها، ويتتبعون خطوات المسلحين لكشف الجهة التي هربوا إليها.

حصل المحققون على إفادة صاحب مركبة يروي أن مسلحين اعترضوه في الطريق وأنزلوا ركابا كانوا معه وأرغموه على نقلهم لمكان تبين لاحقا أنه مركز للمخابرات السورية.

وفي الوثائقي، تعرف أشخاص لبنانيون على البناية التي كان يقع بها المركز، وقالوا إنهم يذكرون أن رئيسه كان يدعى إبراهيم حويجة، وهو رائد سوري ترقى لاحقا إلى أن أصبح لواء وقائدا للمخابرات الجوية.

وليد جنبلاط تحدث في نهاية الفيلم قائلا: “النظام هو من قتل والدي”

يعتبر حويجة مقربا من النظام السوري ولا تتوفر عنه معلومات كافية، وعندما اتصل به فريق التحقيق لم يرد على هاتفه.

ويقول العماد عصام أبو زكي “ربما تورط ضابط آخر” في عملية القتل، فيما يتهم البعض رفعت الأسد بالوقوف خلف تصفية الزعيم كمال جنبلاط .

لكن الوثائقي تضمن تسجيلا صوتيا لرفعت الأسد نفسه قال فيه إن “حويجة هو من قتل كمال جنبلاط ولا يستطيع إنكار ذلك وعندنا 100 شاهد على هذه الحادثة”.

لكن هذا التضارب لا يعني شيئا لابن الرجل ووريثه في الزعامة، إذ يقول وليد جنبلاط “في النهاية النظام هو من قتل” والدي.