ثورة الياسمين.. حريق البوعزيزي الذي أسقط أعتى الأنظمة البوليسية

لم تحرق النيران جسد محمد البوعزيزي وحده، لقد امتدت النيران التي أشعلها الشاب الغاضب في جسده لتحرق جسد نظام سياسي واجتماعي واقتصادي غرز أنيابه وأظافره أكثر من خمسين سنة في الجسد التونسي الزاهر الأخضر.

كانت صفعة الشرطية التي رسمت بها ملامح قسوة النظام الأمني في تونس على وجه محمد البوعزيزي، كافية لأن تؤكد أن الظلم والإهانة قد بلغا حدا لم يعد يطيقه ذلك الفتى الثلاثيني الذي يعيش من عربة خضار يدفعها بثقلها في مواجهة عالم من الغلاء والديكتاتورية والفقر وانعدام الفرص.

 

لم يطل التونسيون النقاش هل مات البوعزيزي منتحرا، أم مات شهيدا، بل سرت نيران احتراقه في المشاعر غضبا لاهبا، كما سرت خورا وضعفا في جسد النظام الذي لم يكن يتوقع أن يكون غضب الشباب بذلك العنفوان الذي سيرغم زين العابدين بن علي على أن يركب طائرته هاربا من البلاد، بعد أن تدفق الآلاف باتجاه مقرات ومؤسسات النفوذ في الدولة، واستلوا هيبتها من أعماق النفوس ليرموا بها إلى أقصى ما يبلغه هتاف الثورة وفوران الغضب.

في دفاتر الذكرى لم تكتمل بعد صفحات الثورة، وفي سجلات الغائبين كثير من الضحايا والجرحى الذين كانت دماؤهم وقود الثورة، بعد نظام يوصف على نطاق واسع بأنه دكتاتوري دموي، لم يرع إلًّا ولا ذمة في التونسيين، فرمى الآلاف منهم خلف قضبان وزنازين الموت البشع، أو أجبرهم إما على عبور الضفاف فرارا من الموت والإرهاب السلطوي، أو الركوع إلى حين قيام لم تتحمل السلطة العنيفة الصبر على هتافه.

صفعة الشرطية.. يوم أحرق الغضب جسد الإنسان التونسي

في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2010، أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، أراد أن تنصفه الولاية، وأن تستقبل شكواه بعد أن صفعته شرطية، ومزقت ممتلكاته البسيطة التي لا تزيد على عربة خضار يعيش منها، رفض المسؤولون سماع شكواه، رفضوا مجرد الإنصات له، فخرج وسكب الزيت والنار على جسده، تألم جدا وصرخ، لكن النار قد أكلت الجسد الذي لفظ الروح في مستشفى المدينة، ورغم ذلك فإن النار لم تكتفِ، بل واصل اللهب الارتفاع.

كان اليوم الموالي يوم غضب يتقد، ويوم جسد يغالب لهب النيران، ويتشبث بالأرض، بينما قررت الروح الصعود والرحيل من عالم يضيق بسماع شكوى بائع خضار، وفي اليومين المواليين بعد ذلك انطلق الحراك الغاضب في سيدي بوزيد، وواجهت الجموع الهائجة عنف الدولة الغاضبة دائما، فكانت توسّع القمع ضربا وسحلا واعتقالا للعشرات.

بعد أربعة أيام وتحديدا في الرابع والعشرين من الشهر ذاته، خرج الغضب عن السيطرة من جديد، وضغط عناصر الشرطة على الزناد، فسقط قتيلان في مدينة منزل بوزيان التابعة للولاية، وأصبح الشهداء ثلاثة، وتوسعت دائرة الغضب، كما توسعت دائرة القمع والتنكيل، غير أن الشرارة أخذت في الاتساع كما تأكل النار الهشيم عادة، فانتقلت في 27 من نفس الشهر إلى القصرين ومناطق أخرى عدة من الولايات.

اندلاع الثورة.. ضوء النار يصل إلى شرفات القصر

بدأ لهب النيران يظهر من بعيد لساكن القصر الرئاسي في تونس، ومن أجل تلافي الأمر المخوف الذي لم يظهر منذ عقدين على الأقل، أقال بن علي والي سيدي بوزيد، ورأى المتظاهرون في ذلك انتصارا لهم، كما رأوا فيه شرفة تسقط من هيبة السلطة، فانتقلوا إلى الخطوات الموالية، لتستعر الثورة والغضب في سائر مدن سيدي بوزيد.

عشرون يوما من حياة البوعزيزي كانت كافية لأن تلهب الشعب التونسي ضد جلاديه

ظل لهب الحريق يسري في جسد البوعزيزي نحو عشرين يوما، وكانت النار تكتب قصة النهاية، وفي الخامس من يناير/كانون الثاني، أسلم الروح لبارئها وغادر تاركا أكثر من سبب لاشتعال نيران الغضب.

في نفس الأيام انتقلت عدوى الغضب الجماهيري إلى ولاية القصرين، وزاد المتظاهرون من جرعة التحدي، حين أحرقوا بعض المقرات الرسمية، وبعض مراكز حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يرأسه زين العابدين بن علي، أو الزين كما يسميه أنصاره، وهو من سيحمل بعد ذلك لقب الرئيس الفار أو المخلوع.

كان سعار الثورة يتسع ويحصد قتلى من الجماهير المتظاهرة، لكنه كان يرتفع إلى الشرفات المحمية، ويتقد بقوة أمام أعين رؤوس السلطة ومراكز القوة فيها، كان باختصار يغرس الهلع بشكل كبير في نفوسهم، فهذا التونسي الصابر على الويلات طيلة خمسة عقود، ها هو قد اكتسى جلد نمر، وقفز نحو النار لا يبالي لظاها.

سياسة العصا والجزرة.. هدير الجماهير يغلب خطابات الرئيس

أخذت الدهشة والغضب بتلابيب زين العابدين، فهؤلاء الذين طالما هتفوا باسمه يرفعون اليوم شعار “ديگاج” (ارحل – Dégage)، يطالبونه بالرحيل، خرج في العاشر من يناير/كانون الثاني 2011 ليخطب عبر التلفزيون العمومي، رافضا الغضب الجماهيري، واصفا إياه بأنه أعمال إرهابية تمارسها عصابات ملثمة.

كان ذلك جزءا من سياسة العصا التي لم تعد ترهب الجماهير، وأكمل الخطاب بتحريك الجزرة، ليعد باستحداث 300 ألف وظيفة للعاطلين عن العمل وخصوصا حملة الشهادات التي لم تكن تسمن ولا تغني من جوع كان يعصف بالشعب التونسي الهائج.

غير بعيد من حيث ترددت أصداء الخطاب، خرجت المظاهرات في اليوم الموالي في 11 يناير/كانون الثاني، في العاصمة التونسية، واكتسحت معظم مناطق البلاد، وفي اليوم الموالي خرج الوزير الأول محمد الغنوشي ليعلن أن الرئيس بن علي قرر إقالة وزير الداخلية رفيق بالحاج قاسم الذي كان كبش الفداء الأول، وتتابع بعد ذلك سقوط القطيع.

ولمواجهة الغضب أفرج الغنوشي عن كل الموقوفين بسبب التظاهر، مستبقيا من أسماهم المتورطين في أعمال العنف، ولكن الاحتجاجات الغاضبة تواصلت دون جدوى، فكل تنازل من الحكومة، وكل حركة للترغيب أو الترهيب تزيد اتقاد الغضب اللاهب، ليسقط أثناء ذلك الأستاذ الجامعي الفرنسي من أصل تونسي حاتم بالطاهر الذي كان أول “أجنبي” قتلته أعمال العنف والقمع.

خلال ثلاثة أيام من خطاب بن علي لم يتوقف هدير الجماهير، وتوسع الغضب، وانتشر الجيش التونسي في العاصمة التونسية، والأحياء المحيطة بها، وسقط من القتلى قرابة ثمانية، بينما لجأت الدولة المهتزة إلى فرض حظر التجول ليلا، ولكن بدا أن الأمور خرجت عن السيطرة، فقد بدأ الحرق والنهب يطال مؤسسات عمومية ومقرات حزبية، كما توسع الاعتقال ليشمل عددا من السياسيين والحقوقيين.

وعود الديمقراطية.. غصن زيتون في الوقت بدل الضائع

في 13 يناير/كانون الثاني انسحب الجيش من وسط العاصمة، وترك مواقعه لقوات أمنية خاصة، محتفظا بحماية المنشآت العمومية، بينما توجه غاضبون إلى منشآت تجارية مملوكة لعائلة بن علي وزوجته في منطقة الحمامات السياحية، وكان الحرق والنهب تعبير الغاضبين عن دهشتهم أمام ثروة العائلة الحاكمة.

في تلك الأثناء خرج بن علي من جديد ليلوح بغصن زيتون آخر، فأعلن في خطاب له أنه لن يترشح للرئاسيات القادمة، وسيفتح الباب أمام إصلاحات ديمقراطية واسعة، ووعد برفع سقف الحريات، لكن الغضب لم يعد يهتم لخطابات الرئيس الذي فهم شعبه متأخرا، وفي الوقت الضائع.

خطابات بن علي لإقناع شعبه بتعديلات دستورية لم تزد الشعب إلا ثورة

في اليوم الموالي وفي صباح الرابع عشر من يناير/كانون الثاني كانون 2011، أعلن بن علي عن حل الحكومة ونيته إجراء انتخابات جديدة، كانت إعلاناته هذه قبل أن يفر خارج البلاد بساعات قليلة، فقد كان يخشى مصيرا مثل مصير “نيكولاي تشاوشيسكو”، ولم يكن شيء يمنع من ذلك، غير عبور الأجواء والبحث عن ملاذ وجده في السعودية.

في اليوم نفسه أعلنت حالة الطوارئ، وعاد الجيش بقوة واضحة إلى الشوارع التي تحولت إلى مرجل غليان يفور في كل لحظة، وبدأ التوتر والخلاف بين القوتين العسكرية والأمنية واضحا، فالأمن متهم في تلك الأيام بحرق ونهب مقرات عمومية والدفع بالعنف إلى أقصى اتجاه.

“بن علي هرب”.. صرخة تملأ الشارع العربي أفراحا

في ذلك المساء المفعم باللهب والغضب، أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد معتمدا على الفصل 56 من دستور البلاد، غير أن الثورة الهائجة لم تتوقف.

خرجت من فم الرجل الستيني الغاضب عبارة “بن علي هرب”، فشقت الليل العربي بشكل عام، ودخلت كل بيت، قبل أن تنضاف إليها أختها، “لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة”.

في تلك اللحظة كان بن علي يبحث عن ملجأ، وكانت زوجته وبعض أبنائه الصغار يرافقونه في الطائرة، ظهرت لاحقا تسجيلات لمكالمات صوتية بثتها البي بي سي، يسمع فيها صوت بن علي يستشير قائد الجيش هل يمكث خارج الحدود أم يعود قريبا، وينصح القائد رئيسه الهارب في الأجواء بأن يتريث قبل العودة.

شغور منصب الرئيس.. عودة سرب المغضوب عليهم إلى تونس

وفي صباح الخامس عشر من يناير/كانون الثاني، يعلن المجلس الدستوري رسميا شغور منصب الرئيس، ويحيل الحكم إلى رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع الذي كلف الوزير الأول محمد الغنوشي بتشكيل حكومة جديدة، بالتشاور مع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، لكن الغضب أيضا لم يتوقف، في حين كانت عناصر محسوبة على النظام السابق تجوس خلال الشوارع وتواصل النهب والحرق.

ومع خيوط المساءات القادمة بدأ لهب الثورة يخمد شيئا فشيئا، وحياة المجتمع التونسي تستعيد شيئا من يومياتها العتيقة، فتدفق مئات السياسيين عائدين إلى البلاد التي غادرها بن علي، وبعد نحو 10 أشهر كانت البلاد على موعد مع انتخابات المجلس الوطني التأسيسي المكلف بكتابة الدستور، ليتقاسم الواجهة السياسية أطراف من المغضوب عليهم في زمن بن علي، ففازت حركة النهضة الإسلامية بأغلبية أعضاء المجلس التأسيسي، وفاز المنصف المرزوقي برئاسة الدولة مؤقتا، ليكون أول رئيس للبلاد بعد بن علي.

 

بعد 9 سنوات، من هروبه من تونس إلى السعودية، رحل بن علي إلى ضريح في ذلك البلد الذي لم يكن يتوقع أن يحل فيه لاجئا طيلة تسع سنوات عاشها الرجل في غياب تام عن الحياة السياسية في بلاده، رغم الأحكام التي صدرت ضده وضد زوجته وأفراد من عائلته، وما صودر من أموالهم، لتنتهي بذلك أسطورة حكم آل زين العابدين وآل الطرابلسي.

صراعات تعصف بالساحة السياسية.. حين تأكل الثورة أبناءها

كان اسم زين العابدين وليلى الأكثر ترددا وإثارة للغضب والحنق في عهد ما بعد الثورة التي أكلت بعد ذلك أبناءها الواحد تلو الآخر، لتبرز أسماء جديدة متحكمة في المشهد السياسي والأمني في تونس التي تولى رئاستها الباجي قائد السبسي منذ 2014 إلى حين وفاته في 2019.

قيس سعيد دكتاتور جاء بانتخابات ديمقراطية

وفي تونس اليوم صفعة أخرى من التوتر، وثورة تحت اللهيب، وخلافات بالغة العمق بين أطراف المشهد السياسي والاجتماعي، ولئن كانت قد حلت بالثورة معضلتها مع زين العابدين وليلى، فهي اليوم في عمق أزمة أخرى عنوانها قيس سعيد.

وبين ليلى وقيس كتبت الثورة والسياسة والأمن صفحات عشر سنين من الطموح والإخفاق والثورة والثورة المضادة.