جائحة كورونا.. فرصة الطبيعة لالتقاط أنفاسها

مراد بابعا

في الوقت الذي يعاني فيه البشر حول العالم من مخلفات انتشار جائحة “كوفيد 19” على الصحة العامة والاقتصاد، يتنفس كوكب الأرض الصعداء، فقد تراجع تلوث الهواء إلى مستويات غير مسبوقة، وانخفض استهلاك الطاقة الأحفورية، وتعافت جزئيا طبقة الأوزون.

وأكدت أبحاث عديدة أن الطبيعة هي المستفيد الأكبر من أزمة فيروس كورونا، التي تسببت في توقف غير المسبوق للأنشطة البشرية حول العالم، وملازمة نصف سكان الكوكب على الأقل لمنازلهم، في إطار إجراءات الإغلاق والحجر المنزلي للحد من انتشار الفيروس.

وأكد باحثون أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ستنخفض بأكثر من 5% هذه السنة، وهي أكبر نسبة منذ الحرب العالمية الثانية، ويفوق الانخفاض المسجل بعد الأزمة المالية في عام 2008، والذي لم يتعد 1.4%.

وتم تخليد اليوم العالمي للأرض هذه السنة في 22 من أبريل/نيسان في ظروف استثنائية وغير مسبوقة منذ بداية الاحتفال بهذه المناسبة قبل 50 عاما، فالكرة الأرضية التقطت أنفاسها بسبب هذا التوقف الاستثنائي. وكشفت وكالة “كوبرنيكوس” الأوروبية لمعلومات تغير المناخ، عن التئام ثقب الأوزون التاريخي فوق القارة القطبية الشمالية، خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان 2020.

في هذا التقرير سنسلط الضوء على تأثير توقف نشاط البشر على الطبيعة، كما سنرصد أهم التغيرات التي طرأت على المناخ خلال فترة الحجر المنزلي، وأهم الجوانب التي يمكن استغلالها مستقبلا للحد من التلوث الذي يهدد مستقبل الكرة الأرضية.

قبل بضعة شهور،  أُعلنت نيودلهي عاصمة شديدة التلوث، فجاءت كورونا فرصة لتنقية أجوائها

 

إجراءات الحجر المنزلي.. خمود الأرض ينعش السماء

أكدت بعض الصور التي التقطتها مؤخرا وكالة ناسا الأمريكية من الفضاء، تحسنا ملحوظا في جودة الهواء فوق عدة مناطق من المعمورة التي تشهد مستويات عالية من التلوث، وفي أوروبا أظهرت دراسة لمركز أبحاث الطاقة والهواء النقي في “فنلندا” تسجيل بعض المدن الأوروبية انخفاضا بما بين 37-10 % في مستوى ثنائي أكسيد النيتروجين الذي يعتبر مؤشرا أساسيا لتحديد جودة الهواء، كما أدت الإجراءات المتخذة لمكافحة الوباء إلى تباطؤ هائل في الاقتصاد الأوروبي، مما قلل إنتاج الكهرباء من الفحم بنسبة 40%، واستهلاك النفط بنسبة الثلث تقريبا.

وبحسب الدراسة التي نشرت أواخر شهر أبريل/نيسان الماضي فإن الانخفاض الكبير في تلوث الهواء في أوروبا من شأنه إنقاذ حياة 11 ألف شخص، وتجنب آثار صحية أخرى، بما فيها ستة آلاف حالة جديدة من الربو لدى الأطفال، و1900 عملية نقل إلى أقسام الطوارئ بسبب نوبات الربو.

أثر أزمة وباء كورونا على الكرة الأرضية الإيجابي يظهر في نقاء الهواء من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون

 

الهند والصين.. فرصة ربانية

وفي الهند كانت نيودلهي -المعروفة بأنها الأكثر تلوثا في العالم- تسجل مستويات تلوث هواء تتعدى بـ32 مرة توصيات منظمة الصحة العالمية، ولكن منذ دخول إجراءات الحجر الصحي في الهند حيز التطبيق في الثاني والعشرين من مارس/آذار، تراجعت مستويات تلوث الهواء بشكل كبير بحسب المجلس المركزي لمكافحة التلوث في الهند، وانتقلت من حوالي “82 ميكروجرام” من الجسيمات الدقيقة في كل متر مكعب من الهواء نهاية السنة الماضية، إلى حوالي “44 ميكروجرام” أواخر مارس/آذار، ويرجع ذلك أساسا إلى تراجع الازدحام المروري، وتوقف ورشات البناء، وإغلاق 11 محطة حرارية تعمل بالفحم من أصل 12 محطة توجد في محيط 300 كلم حول العاصمة الهندية.

ولا شك أن تدهور جودة الهواء، لا يقل خطورة عن فيروس كورونا الذي يثير الرعب في العالم، إذ أظهرت دراسة نشرتها مجلة أبحاث القلب والأوعية الدموية، أن تلوث الهواء في أنحاء العالم يقلل من متوسط العمر المتوقع ثلاث سنوات، ويتسبب في 8.8 ملايين حالة وفاة مبكرة كل عام.

 

انبعاثات الكربون.. أكبر انخفاض منذ الحرب العالمية

ترافق تحسن جودة الهواء في العالم مع تراجع انبعاثات غاز ثنائي أكسيد الكربون إلى مستويات غير مسبوقة، وكشف الموقع المتخصص في علوم المناخ “كاربون بريف” (Carbon Brief) أن إجراءات الحجر المنزلي يمكن أن تؤدي إلى انخفاض انبعاثات الكربون بما يعادل 5.5% من مجموع الانبعاثات للعام 2019، وهو أهم انخفاض يسجل منذ الحرب العالمية الثانية، لكنه يبقى أقل من المستوى المطلوب (7.6% سنويا) لإبقاء الاحتباس الحراري في حدود 1.5 درجة مئوية.

وقد مكنت إجراءات الإغلاق بسبب كورونا المستجد في الصين من خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 25% على الأقل، وفي الولايات المتحدة من المتوقع أن تنخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هذا العام بنسبة 7.5% وفقا لتقديرات رسمية حديثة.

وساهم التوقف شبه الكامل لأسطول الطائرات حول العالم، في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الطائرات بحوالي 31% خلال شهر مارس/آذار الماضي، أي ما يعادل إيقاف حركة 6 ملايين سيارة لمدة سنة كاملة، بحسب تحليل قامت به مجلة “فاينانشال تايمز” استنادا إلى بيانات الموقع المتخصص في مراقبة حركة النقل الجوي “فلايت ريدار 24” (FlightRadar24).

ولأن النفط يمثل حوالي 40% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، فإن التراجع الكبير في الطلب عليه بما لا يقل عن 20 مليون برميل يوميا، أي نحو خُمس الاستهلاك في الأحوال العادية، مكن من تقليص هذه الانبعاثات بشكل ملحوظ، سواء تعلق الأمر بوسائل النقل أو نشاط المصانع. وكشفت معطيات لشركة “آي إتش إس ماركيت” (IHS Markit) الأمريكية أن مبيعات البنزين في الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 48% على أساس سنوي، وهو أدنى مستوياتها منذ ثلاثة عقود على الأقل.

حيوانات برية تطوف شوارع المدن الخالية من البشر بعد إحساسها بالأمان والحرية

 

طبقة الأوزون.. تعافي درع الأرض الواقي

تصدّر انغلاق ثقب الأوزون فوق منطقة القطب الشمالي عناوين وسائل الإعلام حول العالم مؤخرا، كإحدى الانعكاسات المباشرة لإجراءات الإغلاق والحجر المنزلي للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، خصوصا بعدما نشرت مجلة “نيتشر” (Nature) العالمية دراسة جديدة في 25 من مارس/آذار الماضي كشفت فيها عن تعاف غير مسبوق لطبقة الأوزون التي تحمي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الشمس، وتعتبر الدرع الواقي الذي تستحيل الحياة بدونه فوق هذا الكوكب.

وجاءت وكالة “كوبرنيكوس” الأوروبية بعد ذلك لتؤكد هذ المعطى، لكن دون أن تربط انغلاق هذا الثقب غير المسبوق في طبقة الأوزون، بتراجع تلوث الهواء وانخفاض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون خلال فترة الحجر الصحي التي يعيشها العالم، وهو ما يصعب تأكيده على اعتبار أن هذه الانعكاسات المرتبطة بفيروس كورونا لم يمر عليها الوقت الكافي لتظهر بهذا النتيجة الباهرة على الغلاف الجوي.

من جهتها أكدت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة انغلاق الثقب الذي ظهر في طبقة الأوزون فوق القطب الجنوبي، بعدما بلغ مستوى قياسيا بداية شهر مارس/آذار 2020 اعتبرته الأكبر منذ 2011.

لكنها أوضحت أن الظاهرة تحدث عادة في الربيع بنصف الكرة الأرضية الجنوبي، وهي ناجمة عن المواد التي تستنفد الأوزون في الجو، وعن الانخفاض الكبير في درجات الحرارة خلال فصل الشتاء في الطبقة العليا الهادئة من الغلاف الجوي “الستراتوسفير”، واعتبرت المنظمة الأممية أن ذلك غير مرتبط على الإطلاق بانتشار جائحة “كوفيد-19”.

كائنات مائية تسبح في قنوات البندقية بعد خلو مائها من التلوث الذي لطالما سببه البشر

 

أسماك البندقية.. عودة الحياة الطبيعية في عالم الحيوان

لاحظ سكان البندقية في إيطاليا تغيرا لم يعهدوه يوما في مدينتهم، فالقنوات المائية التي تعبر الشوارع والأزقة أصبحت مياهها تنضح صافية بعدما توقفت فيها حركة الزوارق السياحية، حتى صار من السهل على المارة مشاهدة الأسماك بشكل واضح في قاع القناة، وغير بعيد من البندقية في جزيرة سردينيا ظهرت الدلافين مطلة على ميناء “كالياري” بعد غياب العبّارات التي تملأ المكان ضجيجا وحركة.

ومنحت أيضا فترة الحجر المنزلي هدنة قصيرة للأسماك والأنواع البحرية المهددة بالانقراض للتكاثر والعودة إلى مكانها الطبيعي، كما حدث للشُّعب المرجانية بجزيرة هاواي الأمريكية، واستغلت أيضا السلاحف البحرية الوضع على شواطئ البرازيل، لتفقس وتزحف فوق الرمل دون إزعاج المصطافين.

وعلى اليابسة تناقلت العديد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي صور الحيوانات البرية تتجول داخل المناطق الحضرية، مستغلة غياب البشر عن الشوارع، والتقطت عدسات الكاميرا قطيع غزلان يسير بكل حرية في شوارع “هاريدوار” الهندية، كما شوهد الخنزير البري يتجول في وسط برشلونة بإسبانيا، بينما أثار الماعز الجبلي الفوضى في إحدى مدن “ويلز”، وفي “تايلاند” خرجت ثورة للقردة الجائعة في “لوبوري” بسبب غياب السياح الذين دأبوا على إطعامها.

وكما هدأ الصخب الذي كان يملأ الشوارع والساحات في أكبر العواصم العالمية مع أزمة كورونا، وفسح المجال أمام العصافير والطيور لتشنف الآذان بأصواتها التي لم يعتد على سماعها الكثيرون.

وفي الصين، أصدرت الحكومة قرارا باستثناء القطط والكلاب من قائمة الحيوانات القابلة للاستهلاك الآدمي لأول مرة في تاريخها، تمهيدا للحد قانونيا من تربية الحيوانات البرية لغرض الأكل، وهو ما يمكن أن ينقذ حوالي عشرة ملايين كلب تُقتل سنويا في الصين بهدف استهلاك لحمها، وذلك بعدما تحدثت تقارير عن تسبب استهلاك لحم هذه الحيوانات في انتقال العديد من الفيروسات القاتلة إلى البشر، وهو ما حدث أيضا على الأرجح مع كورونا المستجد.

وسائل التواصل الاجتماعي كان لها الأثر الكبير في التواصل عبر المحاضرات والاجتماعات المرئية

 

عمل المنزل.. هدية الاقتصاد العالمي إلى البيئة

لا شك أن أزمة فيروس كورونا غيرت العديد من الأفكار والعادات التي كانت سائدة من قبل، وكان ينظر إليها على أنها من البديهيات أو الأساسيات، ومن بينها العمل في المكاتب وعقد الاجتماعات داخل قاعات مكيفة، مع ما يتطلبه ذلك من تنقلات وتكاليف واستهلاك للطاقة وتلويث للبيئة.

فمع ظروف الإغلاق القسري الحالية في العديد من الدول اضطرت مجموعة من المؤسسات والشركات للعمل عن بعد وعقد اجتماعاتها عن طريق تقنية الفيديو، من أجل الحفاظ على مستقبلها وإنتاجية موظفيها، وأعطت هذه التجربة نتيجة إيجابية بحسب العديد من التقارير الأولية التي أنجزت حول نجاعة هذا الأسلوب في العمل، إذ لوحظ في بعض المجالات أن العمل عن بعد لم يؤثر على المردودية، بل على العكس من ذلك ازدادت الفعالية في الأداء والسرعة في الإنجاز، كما تراجع الضغط المرتبط بالتنقل والازدحام المروري والاحتكاك مع الناس.

ويشجع هذا الأمر العديد من المؤسسات للتفكير مستقبلا في اعتماد هذا النمط من العمل -ولو جزئيا- بعد انتهاء هذه الأزمة، وتنبأ استطلاع للرأي أنجزه مكتب الاستشارات الأمريكي “غلوبال ووركبليس أناليتكس” (Global Workplace Analytics) أن يعمل مستقبلا ما لا يقل عن 30% من الأمريكيين عدة أيام في الأسبوع من البيت.

وستكون الطبيعة أكبر مستفيد من بقاء هذه العادة الجديدة، وأثرها سيكون إيجابيا بحسب “مجموعة المناخ (The Climate Group) التي تتوقع أن يقلل العمل من المنزل من انبعاثات الكربون بأكثر 300 مليون طن سنويا.

كما أن اعتماد تقنية العمل عن بعد دفعت بالعديد من الإدارات والمؤسسات للاستغناء تماما عن الورق ورقمنة تعاملاتها، خوفا أيضا من إمكانية انتقال الفيروس عن طريق الأوراق، وهذا سيمكن من تخفيف الضغط على الورق الذي يستهلك منه العالم في الوقت الحالي 400 مليون طن سنويا، ويعتمد في صناعته على الخشب، مما يتسبب كل سنة في تدمير 100 مليون هكتار من الغابات، أي ما يعادل مساحة دولة كمصر.