“جانيتو”.. حنين إلى الماضي البريء في جزائر ما قبل العشرية السوداء

أمين حتو هو شاب جزائري من مواليد أواخر السبعينيات، عاش في الجزائر قبل العشرية السوداء وبعدها، ورأى بعينه كيف تبدلت الأحوال، ولم يعد يرى الجزائر بريئة ومفعمة بالحب والحياة كما كانت، فقرر أن يخوض تجربة جريئة، يستنطق فيها ذلك الماضي الجميل، من خلال أغنية عاشها ورددها الملايين من أبناء الجزائر في السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين.

قرر أمين إخراج فيلم وثائقي عن أغنية “جانيتو” التي تردد صداها العذب في أجواء الجزائر منذ 1972. كانت الأغنية من فلم هندي يحمل اسمها.

الجزيرة الوثائقية كانت حاضرة مع أمين، وشاركته إنتاج هذه المادة الوثائقية الطريفة، ولاحقا بثت هذه التجربة بشكل وثائقي بنفس الاسم، وتحت عنوان “جانيتو”.

“قتله الإرهابيون”.. ما جمعته الطفولة فرقته العشرية السوداء

يخاطب أمين أمه الستينية: “أمي.. أريد أن أتفرج على الصور القديمة التي عندك، هلّا أحضرت صندوق الصور؟”.

تأتي والدته تحمل عددا من الألبومات القديمة، “هذه الصورة بعد حفل زفافي مباشرة”،

“لماذا تبدين حزينة؟”

“نعم، لقد توفي والدي قبلها بقليل، هذه الصورة التقطت في منزلنا في بوفاريك”.

“أمي: كيف تعرفتِ على أبي؟”

“كنا نعمل معا في معهد تدريب لتخريج المعلمين، كنت طالبة، وكان هو يعمل في الإدارة، وصادف أن طلبت منه معلومات عن منحتي، وبعدها تعارفنا وتزوجنا”.

“كم تبدين جميلة يا أمي، وأبي كذلك”.

“هذه صورة جماعية لي ولرفقائي في المدرسة، والدتي تعرف الكثير من أسمائهم، وتعرف أيضا عن أخبارهم، هذا كرفي، لقد توفي، قتله الإرهابيون في حدود عام 1996، أي في العشرية الجزائرية السوداء، وهذا رابح، توفي هو الآخر مع ثلاثة من إخوته، كانوا مع “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، كانوا -وهم صغار­- لطيفين، ولكن يبدو أنهم اتخذوا قرارات خاطئة لمّا كبروا”.

أمين وأمه يقلبان ألبومات الصور القديمة ويشاهدون صور أولاد وبنات الجيران

“في هذه الغرفة تحديدا شاهدتُ فيلم جانيتو لأول مرة”

“يا إلهي، هذه أحلام، أتذكرينها يا أمي؟ لقد كنت أحبها، كانت تأتي لتلعب معنا، كانت شقراء، وعيناها الزرقاوان ساحرتان، كانت أول فتاة أحبها يا أمي”.

ضحكت أمي من قلبها وهي تقول: “لقد كنتَ صغيرا على هذا يا ولدي. كان عمرك وقتها ست سنوات أو أقل بقليل”.

يقلب أمين النظر في صورة قديمة: “انظري يا أمي، هذا منزلنا القديم في بوفاريك، في هذه الغرفة تحديدا شاهدتُ فيلم جانيتو لأول مرة، كان التلفاز في هذه الغرفة، وكذلك الكثير من الأفلام الهندية، كنا نشاهدها مع أقاربنا سويا، الأولاد والفتيات، لقد كان محتواها بريئا، وكان يُسمح لنا بمشاهدتها سويا”.

“أما أغنية جانيتو هذه، فقد شاهدتها مرارا في الثمانينيات، كان عمري وقتها عشر سنين، كنت أنا والملايين من أبناء الجزائر نحب هذه الأغنية، ونحفظها أكثر من النشيد الوطني. هذه الأغنية تذكرني بأيام الطفولة، وتذكرني بالجزائر التي أحببتها، والتي اختفت تماما بعد أحداث العشرية السوداء. لذا قررت أن أدرس هذه الأغنية، ولماذا كنا نحبها، ثم ما الذي بقي لنا وما الذي تلاشى”.

الحاجة وردية ذات الـ103 عاما في مداخلة لها عبر الراديو تتحدث عن ذكرياتها مع فيلم جانيتو

“تصالحا لأعود إليكما”.. عجوز جاوزت القرن تسرد قصة الفيلم

في إحدى الإذاعات المحلية يتحدث المذيع عن أمين حتو، هذا الشاب الذي نذر نفسه لإعداد مادة وثائقية عن هذا الفيلم أو الأغنية “جانيتو” التي أحبها كل الجزائريين، ويوجه سؤالين للمستمعين، أولهما عن ما إذا كانت لدى أحدهم ذكريات أو قصص ملهمة من وحي هذه الأغنية، والثاني حول ما إذا كان أحدهم يود أن يؤدي الأغنية أو أي مشهد من الفيلم من خلال هذا البرنامج الإذاعي “شادي مادي”.

هذه مداخلة تلفونية للبرنامج من الحاجة وردية التي يبلغ عمرها الآن 103 أعوام، وبدأت تتحدث عن طفل ظهر في الفيلم، ويبدو أنه كان معاقا ويحمل عكازين، وينظر إلى والديه المنفصلين نظرة توسل أن يعودا إلى بعضهما، ثم صار يغني لهما “جانيتو يا مانينا”، “تصالحا كي أعود إليكما”. كم هي رائعة القصة من بين شفتيك يا حاجة وردية.

وهذه نادية تتصل بالبرنامج من مكان عملها في “البليدة”: كنت صغيرة عندما شاهدت “جانيتو”، وكنت أحب صبيا اسمه خير الدين، كان وسيما وكان يحبني ويطاردني من مكان لآخر، ويغني لي أغنيات من “جانيتو”، ويرسم اسمي وشما على ذراعه. لم يُكتب لحبنا النجاح وتفرقنا، ولا أدري إن كان ما يزال هنا في البليدة، ولكنني أتذكره كلما سمعت أغنية “جانيتو”.

في صالون حلاقة يستذكر الحاضرون فيلم جانيتو بحنين عظيم

“كنا نبكي كثيرا عندما نشاهده”.. غوص في ذاكرة الأمهات

في محل حلاقة على الناصية يتجمع بعض الشباب ينتظرون دورهم في قص الشعر وهم يتفرجون على مباراة كرة قدم يبثها التلفاز، ولا يخفي البعض تذمرهم من اجتماع الناس على فرجة كهذه، ويقطع حديثهم أحد الحاضرين بقوله: كنت أقلب مقاطع على اليوتيوب، واحزروا ماذا رأيت؟ لقد شاهدت مقاطع من أغنية “جانيتو”. وتعلو الدهشة الممزوجة بالحنين وجوهَ الحاضرين.

يقول إلياس: “لم نكن نعي تفاصيل الفيلم، لقد كنا صغارا وقتها، ولكننا فهمنا قصة الفيلم بالإجمال، كنا نحس أن القصة كانت حزينة، وكنا نبكي كثيرا عندما نشاهده”، لا بد أن الجيل الصاعد لم يسمع به، أما أبناء ما قبل العشرية فهم يعونه تماما. ثم يأخذ الحديث منحى آخر عن الحب والزواج والاستقرار.

عاد إلياس إلى بيته، وراح يسأل أمه عن ألبوم صوره وهو صغير، ويقول إنه سيشارك في فيلم عن ذكريات “جانيتو”، ويستفسر منها عن ما إذا كانت قد رأته في السينما، فتجيبه بالنفي، ولكنها تؤكد أن والده رحمه الله ربما يكون شاهده في السينما في تندوف سنة 1972 أو 1973، “وقد سجّل لي الأغنية على شريط كاسيت سرا، لأن التسجيل كان محظورا”.

لكثرة تعلقه بأغنية “جانيتو” أصبحت أم إلياس تناديه بهذا الاسم

“كانت أمي تناديني جانيتو لأني أشبه الهنود”.. ذكرى فرح في بيت حزين

يقول مخرج الفيلم أمين حتو: “جانيتو” هي قصة حب قبل كل شيء، تذكرني بالمشاعر والنظرات الأولى، وبشباب جزائري يحب الحياة دون أن يتعلق بموروثات الوطن، وذكريات ثورة مليون ونصف من الشهداء، شباب يحب امرأة جميلة ولا يتعلق بشيخ مجاهد. كم أتمنى أن يعود كل الجزائريين إلى تلك الحياة البريئة، الخالية من الهموم والأكدار.

واستكمالا لحديث الذكريات زرنا أم مهدي، فكان حديثها ينساب بِرقّة: أذكر أن “جانيتو” قد عرض على شاشة التلفزة أيضا، وكان ابني مهدي يغني طوال الوقت “جانيتو جانيتو”، مهدي أحب الفيلم كثيرا، حاله مثل حال الملايين من أبناء الجزائر.

يقول مهدي: أحب أن أراه كلما أتيحت لي الفرصة، إنه فيلم يذكرني بطفولتي، ويذكرني بأخي الشهيد فؤاد رحمه الله الذي اغتيل فداء للجزائر عام 1994. كانت أمي تناديني “جانيتو” لأني أشبه الهنود، وأذكر أنها عندما سافرت للحج رفقة أبي اتصلت بي من المطار لتخبرني أن أشغل التلفاز، لأنهم سيبثون لقاء يتحدث فيه الحجيج، وهي منهم، فتحت التلفاز وكانت أمي تتحدث إلى المذيع، وفي النهاية أرسلت سلامها لإخوتي وأقاربي جميعا، ولكنها لم تذكر “جانيتو”، وهو اسمي، وأذكر أنها استدركت وطلبت من المذيع أن يتصل بي ليبلغني سلامها.

ثم طفقت أم مهدي تبحث في ألبوم أسطواناتها الموسيقية عن أغنية “جانيتو”، وفرحت بطفولية عندما وجدتها، ولكن من المؤسف أنها ليس عندها مشغل أسطوانات قديمة لتسمعها، فأخبرتني أنها ستشتري واحدا. كانت صور ابنها الشهيد فؤاد تلاحقنا في أرجاء البيت. بينما كان ابنها مهدي يتمتم: في هذه البلاد نكره بعضنا، ولكننا نحب بعضنا أيضا، نحن مثل إخوة مختلفين، ولكن تجمعنا أم واحدة، هي الجزائر.

الأم مع ابنها الشهيد رضا، حيث جاء خبر استشهاده يوم كان إلياس في السينما يحضر فيلما

“جاءني ابن الجيران ليخبرني أن أخي مات”.. ذكرى السينما المؤلمة

يتحدث إلياس بحرقة عن ذكريات التسعينيات، يتذكر أخاه الشهيد رضا، ويتذكر الرئيس المقتول محمد بو ضياف قائلا: كنت ابن 16 عاما، وكنت يومها في السينما عندما جاءني ابن الجيران ليخبرني أن أخي رضا مات، وقد أجهشت بالبكاء، وكرهت من لحظتها الفيلم والسينما وبطل الفيلم، كانت هذه أول فاجعة بالموت يشهدها بيتنا.

ويبدو أن إلياس وهو في عمر الأربعين يعيش قصة حب، فهو لم يحب من قبل ولم يرتبط بفتاة، وعندما سألناه إن كانت حبيبته قريبة أجابنا: “هي قريبة وبعيدة، أحسها قريبة، ولكن عندما أطلبها أجدها بعيدة جدا”. ثم يسحب نفسا عميقا من سيجارته التي لا تنطفئ، وعندما نظرتُ إليه وجدت أنهار الدموع تنساب على خديه بغزارة.

هل يغني شريط الذكريات عن الواقع المؤلم؟ لماذا نهرب دائما إلى الوراء؟ ربما أثقلت كواهلنا أعباء المسؤوليات، ولذلك فنحن نتخفف من هذه الأثقال بالعودة إلى الماضي، حيث كنا خفافا نطير كالفراشات. هل صقيع الحاضر يدفعنا إلى الاحتماء بدفء الأمهات؟ أم أن حنين الماضي المعلوم يعفينا من هاجس الخوف من مستقبل غامض؟