“جرائم الحرب في العراق وأفغانستان”.. دماء الأبرياء لا تسقط بالتقادم

دماء الأبرياء لا تسقط بالتقادم، ولا يخفيها غبار السنوات المتعاقبة، وعدسات الكاميرات دائما بالمرصاد تتعقب آثار الجريمة؛ لتميط اللثام عن حقائق أراد البعض إخفاءها.

وفي حلقة “فضيحة جرائم الحرب” ضمن برنامج “بانوراما” الذي تعرضه شبكة “بي بي سي” البريطانية عن جرائم الحرب في العراق وأفغانستان التي قد يكون الجيش البريطاني تستر عليها؛ سيجد المُشاهد الكثير من المعطيات التي تقود إلى الجاني وربما تنصف الضحايا.

تحولت الحلقة إلى وثيقة وشاهد إثبات نجح في لفت انتباه محكمة الجنايات الدولية التي تعاملت معه بالجدّية المطلوبة، وأعلنت عن قرار تاريخي وهو النظر في كل ما جاء في هذه العمل الذي مزج بين التحقيق الصحفي والعمل الوثائقي والتوثيقي، وربما يقود لأول محاكمة في التاريخ لبريطانيا أمام محكمة الجنايات الدولية. وها نحن الآن في انتظار أن تقول المحكمة كلمتها في هذا الملف الذي هز المملكة المتحدة، وأحرج وزارة الدفاع البريطانية.

وفت الصورة بوعدها في حلقة “فضيحة جرائم الحرب” عبر حبكة هي أقرب للقصص البوليسية، وتسلسل يعيد رسم وقائع الأحداث عبر شهادات إنسانية مؤثرة، وحبكة تشويقية تقدم المعطيات بشكل تصاعدي يجعل المُشاهد يستزيد إلى أن تكتمل لديه الصورة، ويصدر حكمه الأخلاقي إزاء ما تعرض له أشخاص أبرياء على يد جنود قيل إنهم دخلوا بلادهم لنشر الحرية والديمقراطية، إلا أن هذه الحلقة من “بانوراما” تظهر العكس.

إخفاء الأدلة.. التغطية على الجريمة

ينطلق الفيلم من فرضية أن الجيش البريطاني قام بالتغطية على عدد من حالات التعذيب أو القتل المتعمد لمدنيين خارج إطار القانون، من أجل حماية جنوده والتهرب من المساءلة القانونية. وتلك فرضية غذَّتها الشكوك حول جدية التحقيقات التي أطلقها الجيش البريطاني ووزارة الدفاع، فمن أصل أكثر من ألف حالة يشتبه في أن أصحابها تعرضوا للقتل بشكل غير شرعي، كانت حالة واحدة فقط هي التي صدر فيها حكم، وأدين فيها جندي بريطاني بالسجن.

ويتعلق الأمر بالمواطن العراقي “بهاء موسى” وهو موظف في فندق في البصرة قتل سنة 2003، وخلص تقرير رسمي إلى أنه تعرض إلى “حلقة مروعة من العنف غير المبرر، وخرق خطير للانضباط من قبل الجنود البريطانيين”.

واستمع رئيس لجنة التحقيق السير “وليم غيغ” إلى إفادات 348 شاهدا قبل إصدار التحقيق.

وقال القاضي “غيغ”: إن عددا من الجنود البريطانيين وفي مقدمتهم الكولونيل “جورجي ميندونكا” يتحملون مسؤولية كبيرة عن هذه المأساة.

هذا التقريع الذي أدى إلى حبس جندي واحد لمدة سنة وإعفائه من الخدمة، ربما دفع الجيش إلى محاولة طي هذا الملف المؤرق بعد توالي الشكايات من عائلات مواطنين عراقيين تعرضوا للتعذيب والقتل.

فجعلناه هباء منثورا.. في مهب الريح

وتعد نقطة القوة في البرنامج في إقناعه عددا من المحققين العاملين في لجنة التحقيق في الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق (IHAT) الذين أكد عدد منهم أن ما قام به الجيش البريطاني هو غض النظر عن خلاصات التحقيقات التي قام بها هذا الفريق، بل إن أحد المحققين قدم شهادة صادمة عندما أكد أن قادة الجيش ووزارة الدفاع لم تكن لديهم أبدا النية لمتابعة أي جندي ثبت تورطه في قضايا التعذيب.

ويتحدث أكثر من محقق، منهم من تحدث بوجه مكشوف ومنهم من فضل عدم الإفصاح عن هويته؛ يتحدثون بحرقة كيف أن عملهم الذي استمر لسنوات ذهب أدراج الرياح ولم يتم التعامل معه بجدية عندما تم إنهاء عمل الفريق دون أي محاكمة لأي جندي.

السباحة عكس التيار.. هدم رواية المنتصر

يقال إن المنتصر هو من يكتب التاريخ ويرسم الجغرافيا، وفي غزو العراق والحرب في أفغانستان، حاول من يعتقد أنه انتصر أن يحذف بعض الفقرات من تاريخ ما حدث.

وينطلق فيلم “جرائم الحرب” من رسالة واضحة حاول إيصالها عبر شهادات أسر الضحايا وشهود حضروا وقائع القتل.

ولعل هذه الرسالة يلخصها معد الحلقة عندما نقل على لسان أحد المسؤولين البريطانيين السابقين أنه “ليس فقط لأنهم أفغان فلا يجب تصديقهم”، ويقصد بذلك التخلص من النظرة الفوقية لكل الروايات القادمة من طرف ليس غربيا. وبالفعل يفتح الفيلم الباب أمام الضحية أو المهزوم من أجل تقديم روايته لما حدث.

وهنا ننتقل من التصريحات القوية والجافة للمسؤولين العسكريين والأمنيين البريطانيين التي كانت عبارة عن مواجهة مع معد الحلقة من أجل استخراج أكبر قدر من المعلومات، إلى مقابلات مشحونة بالكثير من العواطف والتأثر، يدخل معها المُشاهد في حالة من التعاطف مع الأم الأفغانية التي شهدت إعدام أربعة من أبنائها، والفتاة العراقية التي فقدت والدها وتسلمته جثة مشوهة كلها كدمات، والأخ الذي فقد أخاه وقد أرداه الرصاص جثة أمام بيت عائلته.

 

جيش بلادي بين الضمير والعاطفة.. عين المُشاهد الغربي

كان لمثل هذه الشهادات دور حاسم في ترجيح الكفة لصالح “المهزوم”، أو على الأقل تحقيق التوازن مع الرواية التي أرادها الجيش البريطاني من خلال تبرئة نخبته.

واعتمد التصوير على تقنيات “التبئير” (تقليص حقل الرؤية عند الراوي، وحصر معلوماته) والتركيز على الملامح والعيون، وحشرجات الصوت، والعفوية التي تحدث بها أهالي الضحايا، لكسر الحاجز النفسي مع المُشاهد البريطاني والغربي الذي قد يشكك أكثر من مرة قبل أن يفكر في إدانة جيش بلاده.

وبعد هذه التوطئة الإنسانية، يعود الفيلم ليسأل الضمير البريطاني، كيف لمثل هذه الجرائم أن تمر مرور الكرام دون حساب؟

ليأتي رد رئيس الادعاء العام البريطاني السابق اللورد “ماكدونالد”، حينما عُرضت عليه الأدلة في الفيلم، بأنه يعتقد أنه “من المذهل أنه لم توجه تهمة لأي جندي”، مضيفا بأن “النتيجة بدأت تصبح جلية، وأنه من المحتمل جدا أن الرجلين تعرضا لاعتداءات جسدية قبل وفاتهما”، ويقصد الرجلين العراقيين اللذين كانت ظروف وفاتهما من أهم فقرات الحلقة. فما هي هذه الأدلة التي تم عرضها؟

شاهد لم يحضر.. دماء شرطي تضيع هدرا

ينتقل الفيلم في رحلة داخل العراق، وتحديدا إلى مدينة البصرة التي عانت الويلات إبان الغزو الأمريكي للعراق، ومن هناك ستتكشف ملامح قضايا هي الآن معروضة على محكمة الجنايات الدولية.

ولأول مرة ينجح هذا العمل الوثائقي في الحصول على شهادة شقيق رجل شرطة عراقي يدعى “رائد” تم قتله أمام بيته من طرف جندي بريطاني، وتلك هي المرة الأولى التي تُعرض فيها رواية مناقضة لما قدمه الجيش البريطاني، فحسب تقرير الشرطة العسكرية البريطانية، كانت وفاة الشرطي بسبب تشكيله تهديدا محتملا، ما دفع بالجندي البريطاني للدفاع عن نفسه.

ويعضد التقرير روايته بشهادة جندي آخر كان قريبا من موقع الحادث، لكن المفاجأة أن محققي فريق الادعاءات التاريخية عندما بحثوا عن الشاهد، قال إنه كان بعيدا بأكثر من خمسين مترا عن الحادث ولم يشاهد ما حصل.

في المقابل تؤكد والدة الشرطي العراقي التي تعمد أصحاب هذا الفيلم التركيز على ملامح وجهها بشكل جعلها تتحول لأيقونة العمل، بتلك التجاعيد الشبيهة بأخاديد رسمت على وجهها، والعيون الغارقة في الدموع وهي تستذكر وداعها الأخير لابنها قبل أن تجده جثة هامدة أمام بيت المنزل، ويذهب دمه هدرا بتقرير كان الهدف منه تبرئة الجندي البريطاني.

الشرطي العراقي رائد الموسوي قتله جندي بريطاني أمام منزله في البصرة عام 2003 وأفلت من العقاب (بي بي سي)

معسكر ستيفن في البصرة.. المسلخ البشري

لم تكن حادثة قتل الشرطي العراقي في البصرة وحدها هي ما كشف البحث أنها كانت عرضة لتقرير مزور، بل انتقل الفيلم إلى النبش فيما كان يحدث داخل أسوار معسكر ستيفن في البصرة الذي كانت تديره “بلاك ووتش” و”الكتيبة الثالثة” و”الفوج الملكي الأسكتلندي”. هذه الحساسية العالية للمركز وقيمة الفرق العسكرية التي كانت تديره، جعلت الاقتراب منه أو اتهامه يضرب في الصميم نخبة النخبة في صفوف القوات البريطانية.

كان المعسكر حصنا لتجمع القوات البريطانية، وأيضا لاعتقال المشتبه بهم، قبل أن يظهر أن الكثير من المعتقلين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب من ضرب ورفس وتعليق من الأيدي والأرجل، ومنهم من قضى نحبه تحت هذا التعذيب.

فيلم “جرائم الحرب” ينطلق من رسالة واضحة حاول إيصالها عبر شهادات أسر الضحايا وشهود حضروا وقائع القتل

الموت الأليم.. الإجراءات الاعتيادية

وركزت حلقة “بانوراما” على حالتين؛ الأولى لأستاذ عراقي من سوء حظه أنه يشبه أحد المطلوبين للبريطانيين بتهمة دعم نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وقد تعرض بعد اعتقاله مباشرة للتعذيب إلى أن مات.

بعد الوفاة تصل رسالة لأسرته تخبرهم أن والدهم تعرض لأزمة قلبية كانت سبب وفاته، وهو ما تم تدوينه حتى في التقارير الرسمية البريطانية، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالرجل مات تحت التعذيب، وحسب شهادة أحد الجنود الذين تواجدوا في القاعدة، فإن الرجل كان يتوسل من أجل إطلاق سراحه أو الكف عن ضربه، لكن دون جدوى، إلى أن فارق الحياة.

نفس الأمر تكرر مع شخص آخر، وبنفس الطريقة يتم نقل الجثة إلى المستشفى واستخراج تقرير طبي يقول إنه مات بسبب أزمة قلبية.

والمثير أن أحد المحققين يتحدث عن كون حالات التعذيب والضرب كانت تتم بعلم القيادات العليا في المعسكر. هناك كان الضرب حتى الموت مجرد إجراء معتاد، لدرجة أن أحد المحققين في لجنة التحقيق في الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق، يشتكي كيف تم منعهم من مقابلة قادة كبار في الجيش، وكيف قامت السلطات بكل جهودها لحمايتهم من أي مساءلة أو تحقيق.

شقيق رائد الموسوي يصور كيف قتل الجندي البريطاني شقيقه أمام منزل العائلة (بي بي سي)

أفغانستان.. قتل الأطفال بدم بارد

تستمر الرحلة من العراق إلى أفغانستان، وكالعادة يختار الفيلم التركيز على حالات تحوم حولها الكثير من الشبهات بأنها كانت تصفيات خارج إطار القانون، ومن تلك التصفيات قصة لأربعة إخوة كانوا في منزلهم عند المساء، فإذا بفرقة من قوات النخبة البريطانية تقوم بإنزال في بيتهم، وتقتلهم أجمعين، والكارثي أن اثنين منهم ما زالوا أطفالا لم تتعد أعمارهم 14 سنة.

وكان مبرر الجيش البريطاني أن الإخوة الكبار من المنتمين لحركة طالبان، وبأن الأطفال حاولوا جلب الأسلحة لمقاومة القوات البريطانية.

وهنا ستدخل الكاميرا لتنسف هذه الرواية عبر العودة والتصوير في الغرفة التي كانت مسرحا لهذه الجريمة، حيث يظهر أن كل طلقات الرصاص اخترقت المستوى السفلي من الجدران، مما يعني أن من تم قتلهم كانوا جالسين ولم يقاوموا أبدا. كما يتحدث الفيلم مع شهود قالوا إن الجثث تم العثور عليها وهي مربوطة الأيدي.

يتعرف المُشاهد على خيوط الواقعة، سواء من أهالي الضحايا أو من المسؤولين الأفغان، ومنهم الحاكم لتلك المنطقة الذي أكد أن الشباب لم يكن لهم علاقة بحركة طالبان.

ويتحدث شاهد بريطاني آخر عن ظاهرة “الوشاية الكاذبة” حيث كان الجنود البريطانيون والأمريكيون يتعاملون مع أي وشاية تصلهم دون التدقيق فيها، كما يتحدث عن كمّ الضحايا الذين أُزهقت أرواحهم بسبب هذا الأمر، حيث كان الاعتماد على المخبرين المحليين، ومنهم من كان يريد تصفية حساباته فقط، فينقل خبرا بأن شخصا ما يعمل مع حركة طالبان أو مع القاعدة.

الفيلم لا يخاطب العاطفة فقط من خلال بناء قصص إنسانية مؤثرة، بل يتحدث مع العقل والضمير

في انتظار المحكمة.. أمل في الإنصاف ولو بعد حين

لا يخاطب الفيلم العاطفة فقط من خلال بناء قصص إنسانية مؤثرة، بل يتحدث مع العقل والضمير عبر تقديم حجج دامغة، يعززها بحبكة محكمة، وتقنيات تصوير تخلق نوعا من الحميمية بين المُشاهد وأسر الضحايا.

ويظهر الفيلم الحرص الأمني أثناء المقابلات مع المحققين والمسؤولين في الجيش البريطاني، من خلال تعمدهم عدم الكشف عن أماكن التصوير.

وقد حقق الفيلم المراد منه، عندما أعلنت محكمة الجنايات الدولية أنها تنظر في كل المعطيات التي عرضها “بانوراما”، وتتعامل معها بالجدية المطلوبة؛ وهو ما أثار غضب وزارة الدفاع البريطانية التي اعتبرت أن الاتهامات الموجهة إليها لا أساس لها من الصحة. وفي انتظار أن تقول المحكمة كلمتها يبقى الأمل في الإنصاف قائما، ولو بعد حين.