جماجم في المنفى.. عودة الشهود على الماضي “الداعشي” لفرنسا

خاص-الوثائقية

قسما بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات..”.

قليلون هم الذين يعرفون قصة هذا القسم الذي يردّده الشعب الجزائري منذ 65 عاما، أي منذ اشتعال لهب الثورة من أجل الحرية والاستقلال.
ورغم أن جزءا من الجواب يأتي في فقرة لاحقة من النشيد الوطني الجزائري حين يقول: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب.. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب.. فاستعدي وخذي منا الجواب..”، فإن أبلغ تجسيد لهذا النشيد كان يوم 5 يوليو/تموز 2020، حين تابع العالم مراسيم جنازة رسمية مهيبة لـ24 جمجمة فصلها الجيش الفرنسي عن أجساد أصحابها المقاومين لغزوه الاستعماري قبل نحو 170 عاما، وحملها معه إلى الديار الفرنسية كتذكار في واحدة من أبشع عمليات “النفي السياسي” التي عرفها تاريخ البشرية.

 

متحف التاريخ الطبيعي الوطني.. ٥٠٠ جمجمة جزائرية

في يوم الأحد 5 يوليو/تموز 2020 الذي يصادف ذكرى عيد الاستقلال، قامت الجزائر بتنظيم مراسيم جنازة رسمية لـ24 من شهداء حرب التحرير، وقد جرت هذه الجنازة بعد نحو 170 عاما من مقتل الشهداء على يد المستعمر الفرنسي، ولم تكن في النعوش سوى الجماجم التي قام جيش الاحتلال بقطعها وحملها إلى بلاده، في سلوك وحشي لا نظير له.
تقدّم المشيّعين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وذلك في مقبرة العالية التي تضم مربعا خاصا بشهداء حرب التحرير الوطني، وتضم رفات كبار قادة الثورة الجزائرية الذين قتلوا بين 1954 و1962 .
كانت الجماجم الـ24 قد عادت إلى وطنها قبل يومين فقط من تلك المراسيم، في واحد من أغرب المنافي السياسية في العصر الحديث، حيث كان الجيش الفرنسي يعمد إلى التمثيل بجثامين الشهداء وقطع رؤوسهم ونقلها إلى بلاده كدليل على النصر.
قبل عودتها كانت هذه الجماجم مخصصة للعرض في متحف التاريخ الوطني الطبيعي لفرنسا، كما لو أن الأمر يتعلّق بجماجم ديناصورات منقرضة عثر عليها بعد حفريات علمية، وقد وقعت هذه “العودة” بعدما قدّمت الجزائر بشكل رسمي طلب استرجاعها إلى جانب عشرات الملفات من الأرشيف الرسمي، وذلك في يناير/كانون الثاني 2018.
ففي رسالة وجهها الرئيس الجزائري إلى الشعب بمناسبة الذكرى الـ75 لمجازر الثامن من مايو/أيار 1945 التي ارتكبها جيش الاستعمار الفرنسي بحق متظاهرين جزائريين، قال عبد المجيد تبون إن الاستعمار الفرنسي قتل على مدار 132 عاما (1830- 1962) نصف سكان بلاده وقتها، أي قرابة خمسة ملايين ونصف من الشعب الجزائري.
من جانبه قال رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز جراد إن أكثر من 500 جمجمة تعود لمقاومين ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده لا تزال في متحف بباريس.
وتذهب بعض المصادر الجزائرية أبعد في تقدير عدد ضحايا الوحشية الفرنسية، حيث تعتبر الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان أن عدد شهداء الجزائر يتراوح بين 9 و10 ملايين جرى قتلهم خلال قرن ونصف من الزمن.
كما تصرّ الرابطة على أن لفرنسا جرائم أخرى من بينها التجارب النووية التي تقول إن فرنسا أجرتها في الصحراء الجزائرية بالاشتراك مع الكيان الصهيوني، وتسبّبت في مقتل أكثر من 42 ألف جزائري وإصابة الآلاف بتأثيرات الإشعاع النووي[5].

 

رؤوس قادة الثورة.. مؤرخ يكتشف آثار الجرم الاستعماري

جاءت عودة “الجماجم المنفية” بعد شهور قليلة من مطالبة الرئيس الجزائري بذلك، حيث تعهد عبد المجيد تبون في فبراير/شباط 2020، بـ”محاسبة الدولة الفرنسية على جرائمها في الجزائر”، وذلك بمناسبة اليوم الوطني للشهيد، بينما كان أول من كشف عن وجود هذه الجماجم في متحف فرنسي هو المؤرخ الجزائري علي فريد بلقاضي، فقد اكتشف وجود جماجم لمقاومين جزائريين عندما كان بصدد بحث تاريخي حول المقاومة الشعبية الجزائرية للاستعمار الفرنسي[6].
علي فريد بلقاضي قال في عمود رأي نشره على الإنترنت إن الجماجم ملفوفة وموضوعة في علب كرتونية عادية تذكر بعلب محلات الأحذية، وهو ما رفضه مدير المتحف، مشيرا إلى أن العلب مخصصة لهذا الغرض ومكلفة، موضحا أن هذه الجماجم مصفوفة في خزائن مقفلة في صالات مقفلة، وأنه منذ أن تولى رئاسة المتحف في نهاية 2015 قرر أنه ليس من حق أحد أن يرى هذه الجماجم احتراما لرفات بشرية جرى التعرف على أصحابها[7].
يتعلّق الأمر بجماجم مدرجة ضمن حوالي 18 ألف جمجمة محفوظة بمتحف الإنسان في باريس، 500 منها فقط منها وقع التعرف على هويات أصحابها، ومن ضمنهم 36 قائدا من المقاومة الجزائرية قتلوا ثم قطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي في أواسط القرن التاسع عشر. وبالنظر إلى الجدل القائم مع الجزائر، فقد عزلت جماجم مقاوميها في خزائن بعيدا عن مرأى العموم[8].

 

متحف الجماجم في عاصمة الأنوار.. سهر الشهداء في أرض العدو

بعد توالي المطالبات الجزائرية باسترجاع “الجماجم المنفية”، أعلنت فرنسا استعدادها لإعادة البقايا البشرية التي تحتفظ بها في المتحف الوطني، وأكد مدير المتحف الوطني الفرنسي للتاريخ الطبيعي “برونو دافيد” أنه يدرك تماما أهمية عمليات إعادة البقايا نظرا للإطار التاريخي للقضية، وأضاف أن هذه البقايا البشرية دخلت إلى المجموعة الأنثروبولوجية للمتحف الوطني في نهاية القرن التاسع عشر بعد فصول عديدة من الغزو الفرنسي للجزائر[9].

وقد قال “دافيد” إن لائحة بـ41 جمجمة ثبت أنها من الجزائر سلمت إلى قصر الإليزيه، وبينها جماجم لمقاومين جزائريين قاتلوا الفرنسيين مع آخرين محكومين بارتكاب جرائم.

بلغ التعامل ببرودة من جانب فرنسا مع مآسي الشعب الجزائري سنة 2012 درجة محاولة تنظيم مزاد علني لبيع أدوات قتل وتعذيب استخدمت خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد قررت دار فرنسية للمزادات وقتها تنظيم المزاد في العاصمة الفرنسية باريس، ويشمل350  أداة تعذيب وقتل من بينها مقصلة أعيد تصليحها لتكون صالحة للاستعمال، وحبال استخدمت كمشانق وأغلال، لكن بعد ردود الفعل الغاضبة التي صدرت في الجزائر أُلغي المزاد[10].

ورغم الصمت شبه التام والتواطؤ بين السلطات والنخب الفرنسية في تجاهل الماضي الاستعماري الفرنسي، فإن العقد الأخير شهد حضورا متزايدا لهذا الموضوع في النقاشات العامة، فقيام الرئيس الفرنسي السابق الاشتراكي “فرانسوا هولاند”، للمقاتلين الجزائريين الذين انضموا إلى الجيش الفرنسي خلال الحرب الجزائرية، قبل التخلي عنهم من طرف فرنسا، كان ضمن الخطوات التي كسرت تدريجيا بعض محظورات الماضي الاستعماري في بلاد الأنوار[11].

 

مواجهات الحملة الرئاسية.. اعتراف لحاجة في نفس يعقوب

كانت الحملة الانتخابية لرئاسيات العام 2017 مسرحا لمواجهة علنية بين الرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون”، ومنافسته الرئيسة في السباق نحو قصر الإليزيه، “مارين لوبين”، وذلك بخصوص الجرائم الفرنسية في حق الجزائريين.

كان الأمر يتعلّق بمخاطبة قسم من الناخبين المنحدرين من أصول جزائرية، وهو ما منح هذا الجدال نكهة خاصة. ففي سعي منه لتهيئة معركته الانتخابية كان “ماكرون” قد زار الجزائر في  فبراير/شباط 2017، ليعلن من هناك أن على فرنسا أن تعتذر عن ماضيها الاستعماري[12].

“ماكرون” قال يومها إن الاستعمار في حد ذاته أمر موجب للاعتذار، باعتباره جريمة في حق الإنسانية، وبدا الرئيس الفرنسي الحالي وقتها كما لو يحاول تجاوز تأنيب الضمير الذي يخلّفه استحضار ما لا يقل عن 300 ألف جزائري قتلوا ما بين 1954 و1962، أي أثناء حرب التحرير الوطني التي خاضها الجزائريون ضد المحتل الفرنسي، بعد مرور أكثر من قرن وربع على مجيء هذا الاستعمار[13].

وحشية فرنسا ضد نفسها.. جريمة التعاطف مع الجزائر

في سبتمبر/أيلول 2020 صدر أول اعتراف فرنسي رسمي بارتكاب تعذيب ممنهج في حق الجزائريين خلال فترة حرب التحرير التي انتهت باستقلال الجزائر أواسط القرن الماضي. وتحدث الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في ارتباط بقضية عالم الرياضيات “موريس أودان” الذي كان يعتنق الفكر الشيوعي ويؤيد مطلب الجزائريين بالاستقلال عن فرنسا، وقد لقي حتفه في قبضة الجيش الفرنسي.

أقر “ماكرون” بكون “أودان” فارق الحياة متأثرا بما تعرّض له من تعذيب ممنهج كانت فرنسا تنزله بالثوار الجزائريين ومن يؤيّدهم[14].

وأوضح بيان رسمي صدر عن الرئاسة الفرنسية وقتها، أن “ماكرون” مستعد للكشف عن جزء من الأرشيف الفرنسي الذي يحتوي معطيات مفصلة حول نظام القمع والتعذيب الذي أقامته فرنسا في الجزائر، مشيرا إلى مرسوم صادق عليه البرلمان الفرنسي عام 1950، وقد سمح للقوات الفرنسية باعتقال واستجواب المتهمين بطرق تتضمن ممارسة التعذيب في حقهم. وجاءت خطوة الرئيس الفرنسي هذه نزولا عند رغبة عدد من العائلات الفرنسية التي اختفى بعض أفرادها في الجزائر وبقي مصيرهم مجهولا، مما فتح الباب أمام كشف مصائر الضحايا الجزائريين أيضا[15].

وفي الوقت الذي تذهب فيه بعض التقديرات إلى الحديث عن أكثر من مليون ونصف مليون شهيد جزائري خلال فترة حرب التحرير، تعود أكبر خطوة رسمية فرنسية في اتجاه الاعتراف بالماضي الإجرامي إلى العام 1995، لكن تلك الخطوة كانت تهم الجرائم المنسوبة إلى فرنسا في حق اليهود، فقد تحدّث الرئيس الفرنسي حينها -وهو الراحل “جاك شيراك”- عن مسؤولية كاملة لفرنسا عن تجميع قرابة 76 ألف يهودي، وإرسالهم إلى معسكرات الموت النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد اعتبر “شيراك” وقتها أن “الحماقات الإجرامية” التي ارتكبها الاحتلال النازي لفرنسا وقعت بدعم من الشعب والسلطات الفرنسية[16].

 

مصادرة الأوقاف الإسلامية.. إخلاف الوعد الأول للمستعمر

يصف بعض المراقبين طبيعة العلاقة بين فرنسا والجزائر، بكونها تجسيدا واقعيا لـ”غياب الثقة”، وتختلف الاجتهادات بعد ذلك في تفسير هذا الأمر. وبينما يحرص البعض على التذكير بالجرائم الفرنسية ضد الجزائريين، يعيد البعض هذا الغياب المزمن للثقة بين البلدين إلى النكث الفرنسي بالعهد الأول الذي أعطته لحظة وصولها إلى الجزائر عام 1830، حيث قال الجنرال “بورمون” لحظة دخوله الرسمي إلى الجزائر العاصمة يوم 5 يوليو/تموز 1830، إن بلاده تتعهّد بضمان الممارسة الحرة للدين الإسلامي، وضمان حريات مختلف الطبقات الاجتماعية، بما في ذلك ممارستها الدينية وتجارتها وممتلكاتها، لكن جاء أول القرارات الفرنسية في الجزائر متمثلا في نزع ممتلكات الأوقاف الإسلامية[17].

وقد خصصت مجلة “لونوفيل أوبسيرفاتور” الفرنسية أحد ملفاتها منتصف آب/أغسطس 2019، لكسر محظورات الحرب التي شنتها فرنسا على الإسلام في الجزائر منذ القرن 19، خوفا من تحوله إلى أداة للمقاومة. وهي حرب تمثلت في مسارعة السلطات الفرنسية إلى وضع يدها على ممتلكات الأحباس والأوقاف الإسلامية وتحويل القضاة والأئمة إلى موظفين لديها يتقاضون رواتب على غرار مسؤولي باقي الديانات في فرنسا، بينما اعتبر التمسك بالدين الإسلامي من موجبات رفض منح الجنسية الفرنسية للجزائريين[18].

تمكن الجيش الفرنسي بعد عمليات تقتيل واسعة من عزل الجزائريين عن معاقل ثورتهم وعن منافذ الدعم الذي كان يصلهم عن طريق تونس والمغرب، وذلك من خلال لجوئه إلى أسلوب حقول الألغام الفتاكة، فقد أمر وزير الدفاع الفرنسي “أندري موريس” بإقامة خط شائك مكهرب في الحدود مع تونس أواخر العام 1956، وقد اكتمل بعد عام تقريبا وأطلق عليه اسمه، كما أقيم خط مماثل في الحدود المغربية الجزائرية، ثم سرعان ما دعم هذا الخط بآخر يحمل اسم “شال” بدءا من العام 1958[19].

علاوة على ما خلفته من قتلى ومعطوبين كانت لحقول الألغام الفرنسية انعكاسات أخرى، ذلك أن إنشاءها كان يستدعي القيام بترحيل جماعي لسكان المناطق الحدودية وتحريم الدخول إليها، مع ما يعنيه ذلك من سلب للممتلكات وتخريب للمزروعات وقطع لطرق التجارة والحصول على مصادر العيش، مما حوّل بعض المناطق الحدودية إلى سجون مغلقة تحاصرها المعتقلات ومراكز التعذيب والتقتيل[20].

 

 

واحة الزعاطشة.. فخر وتخليد لجريمة تطهير عرقي

من بين الرؤوس البشرية التي استرجعتها الجزائر من مستعمرها السابق، تلك التي تعود إلى واحد من أبرز وأشهر قادة المقاومة الشعبية الأولى ضد طلائع الاحتلال الفرنسي، وهو القائد المعروف باسم “الشيخ بوزيان” قائد ثورة “الزعاطشة”، وهي واحة تقع بضواحي بسكرة في الجنوب الجزائري.

دامت هذه الثورة طيلة شهور العام 1849، حيث كانت اندلعت مباشرة بعد إخماد ثورة الأمير عبد القادر التي كانت شهدت إبادة الجيش الفرنسي لجميع من وجدتهم يقيمون في تلك الواحة، ومجموعهم أكثر من 13 ألف جزائري، وكان الشيخ بوزيان من بين من أسرهم الجيش الفرنسي، ثم أعدمهم بكل برودة وقطع رؤوسهم لتنقل إلى فرنسا بكل افتخار[21].

وتعتبر مجزرة واحة الزعاطشة أبرز الجرائم التي ارتكبت إبان الاستعمار الفرنسي وتعود وقائعها إلى الـ26 من نوفمبر/تشرين الأول 1849 عندما هاجم الجيش الفرنسي الواحة التي كانت معقل الشيخ بوزيان قائد ثورة الزعاطشة، بقوات بلغت 8 آلاف عسكري[22].

تحكي سجلات التاريخ كيف خضعت الواحة ليومين من الحصار الشامل بعد نحو 4 أشهر من التطويق، قبل أن تتمكن القوات الفرنسية من تدمير الواحة بالكامل وقطع 10 آلاف نخلة وإحصاء 800 جثة لشهداء جزائريين وعدد آخر غير معروف تحت الأنقاض، بينما بلغت خسائر الجيش الفرنسي مقتل 165 جنديا وإصابة 790 آخرين[23].

وبينما تتحدث بعض المصادر الجزائرية عن “إبادة” سكان “الزعاطشة” بالكامل في هذه العملية، فإن المؤكد أن نسل الشيخ بوزيان انقطع، إذ قتل معه في ذات المعركة ابنه وعمره 16 سنة، وقطع رأسه هو الآخر، وتكتفي بعض المصادر بالحديث عن نجاة 3 أشخاص من بين سكان الواحة[24].

 

كهوف الغاز.. جريمة فرنسا التي ألهمت النازية

كان سلوك قطع الرؤوس ونقلها إلى فرنسا عادة مألوفة طيلة ١32 عاما، فتتحدث بعض المصادر التاريخية عن محاولة فرنسية لإبادة سكان الجزائر بالكامل كما وقع مع السكان الأصليين لأمريكا اللاتينية، وقد كتب الجنرال الفرنسي “توماس بوغود” -وهو حاكم فرنسي للجزائر في أربعينيات القرن الـ١٩- إلى صديق له بعد استسلام أحد مقاتلي المقاومة الجزائرية البارزين: لقد سئموا القتال، ولا عجب في ذلك مع الخراب والدمار[25].

كان الغزو الفرنسي للجزائر يقوم على محو آثار الوجود البشري لإقامة واقع ديموغرافي واجتماعي واقتصادي جديد، وكان حرق المحاصيل وقطع الأشجار وتسميم الآبار سياسة ممنهجة وصفها المؤرخ “جيمس ماكدوغال” في كتابه “تاريخ الجزائر” بأنها إهدار للقاعدة البيئية الجزائرية. كما كتب السياسي والمؤرخ الفرنسي المشهور “أليكسيس دي توكفيل” في تقرير إلى مجلس النواب في باريس سنة 1834 قائلا: لقد تجاوزنا في البربرية البربر الذين أردنا قيادتهم إلى الحضارة، ثم نشتكي من عدم قدرتهم على التحضّر[26].

أثناء حديثه في ضيافة برنامج تلفزيوني فرنسي جرى بثه أواسط 2020، أكد الصحافي الفرنسي “جان ميشيل أفاتي”، أن الجنرال الفرنسي الشهير “توماس روبير بيجو” كان وراء اختراع تقنية القتل بواسطة غرف الغاز، وذلك أثناء قيادته عمليات الجيش الفرنسي في الجزائر في النصف الأول من القرن الـ١٩.

تكمن هذه التقنية في قتل أشخاص عالقين داخل كهف عبر إشعال النار في مدخله وجعلهم يختنقون. الصحافي الفرنسي قال إن هذا المارشال كان يعمد إلى تنفيد هذا القتل الوحشي في حق نساء وأطفال لائذين ببعض الكهوف هربا من آلة القتل الفرنسية، وهي التقنية التي سوف تستعملها النازية الألمانية لاحقا لتصفية ضحاياها، ومن بينهم اليهود[27].

هذا الصحافي الفرنسي المعروف بجرأته قال إن جيش بلاده اعتمد أسلوب “الأرض المحروقة” في حربه على الجزائر لاحتلالها، مشددا على أن وجه فرنسا في العالم يتسم بكثير من الأنانية، داعيا بالتالي إلى تحمّل المسؤولية أمام التاريخ والاعتراف بالأخطاء[28].

 

“لجنة توبير”.. تقرير سري يفضح مليشيات المستوطنين

بعد مرور أكثر من قرن على الاحتلال الفرنسي للجزائر وقبل اندلاع حرب التحرير الجزائرية، يتضمن السجل الفرنسي قوائم طويلة من الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين، ومن أحدثها وأكثرها ثبوتا ما ارتكبته القوات الفرنسية في قسنطينة في مايو/أيار 1945، وهو الحدث الذي يطلق عليه البعض لقب “8 ماي الآخر”. ويعتبر تقرير لجنة التحقيق الفرنسية المسماة “لجنة توبير” المرجع الأكثر شمولا ومصداقية حتى الآن، وهي لجنة شكّلت في عهد الرئيس الفرنسي “شارل ديغول”[29].

ويتحدّث هذا التقرير الذي بقي خاضعا للسرية سنوات طويلة عن السياق العام الذي جرت فيه تلك الأحداث، ويرتبط برد الفعل العنيف لفرنسا مند تقديم الراحل فرحات عباس عريضة مطالب الشعب الجزائري عام 1943، وتوضح الوثيقة كيف أن المستوطنين الفرنسيين رفضوا الإصلاحات التي أقرت في هذا السياق، حيث خرجت مظاهرات سلمية جزائرية للمطالبة بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، ليواجهها الفرنسيون بتقتيل وحشي قامت به ميلشيات فرنسية غير نظامية[30].

خلاصات هذا التقرير بقيت محتشمة ومنضبطة لسقف منخفض بسبب حرص الرئيس الفرنسي السابق الجنرال “شارل ديغول” -الذي قاد حرب التحرير الفرنسية ضد الاحتلال النازي- على حماية مقربين منه في الجيش الفرنسي، ممن كانت لهم مسؤوليات مباشرة في مجازر منطقة قسنطينة، وخاصة في منطقة قالمة.

تاريخ 8 مايو/أيار 1945 يؤرخ لمجازر بشعة ارتكبها الجيش الفرنسي في مناطق سطيف وقالمة وخراطة شرق الجزائر العاصمة، وقد ذهب ضحيتها حسب تقديرات رسمية 45 ألف شهيد خرجوا بمظاهرات للمطالبة باستقلال بلادهم. ووصف الرئيس الجزائري جرائم الاستعمار بأنها “ضد الإنسانية وتخالف القيم الحضارية، لأنها قامت على التطهير العرقي لاستبدال السكان الأصليين واستقدام غرباء”[31].

 

انتفاضة سبتمبر.. قاعدة الشعب التي ورثت جبهة التحرير

وثّق عالم الاجتماع الفرنسي “ماتيو ريجوست” -في كتاب شامل أصدره حديثا- لبعض الفصول من ثورة الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي منتصف القرن 20. ويخصّ “ريجوست” بوقفة خاصة انتفاضة ديسمبر/كانون الأول 1960 التي اندلعت بعد أن ظن الجيش الفرنسي أنه فكّك جبهة التحرير الوطني التي كانت تقود الثورة في كبريات المدن الجزائرية[32].

يحكي “ماتيو ريجوست” كيف أنه بعد قضاء فرنسا على النخب الجزائرية التي كانت تقود الثورة، بادرت الطبقات الشعبية إلى إحياء المقاومة، وخرجت في نهاية العام 1960 لتسيطر على الشوارع وتطرد المحتلين مما كان يوصف بالأحياء الأوروبية، رافعين شعار “بطل واحد هو الشعب” الذي لفت الأنظار خلال الحراك الشعبي في الجزائر عام 2019[33].

تزامن هذا الحراك الشعبي مع زيارة كان الجنرال “شارل ديغول” رئيس فرنسا وقتها يقوم بها إلى الجزائر، مما جعل القوات الفرنسية تقوم برد فعل عنيف أسقط العشرات من القتلى. وبعد إصداره الكتاب عاد “ماتيو ريجوست” ليحكي قصة ما وقع في ديسمبر/كانون الأول 1960 في حوار له مع صحيفة “ميدل إيست آي”، موضحا أن الأمر تعلق بتطوّر نوعي في نضال الجزائريين، حيث خرج المواطنون للاعتصام في الشوارع، ومكثوا فيها ثلاثة أسابيع كاملة، حاملين أعلام الاستقلال ومرددين أناشيد الانعتاق ضد المستوطنين الذين لم يترددوا في إخراج أسلحتهم وتوجيهها نحو صدور الجزائريين[34].

كان الأمر يتعلّق بمحاولة لشلّ النظام الاستعماري القائم وحمله على إعادة الحقوق الأساسية للجزائريين، وكانت المسيرة عارمة بشكل سمح لها باجتياح الشوارع التي كانت ممنوعة على السكان الأصليين، فكان الأمر يتعلّق بـ”تحرير للأجساد” وإطلاق أعنتها، وهو ما مهّد لتحرير شامل للبلاد بعد أقل من عامين من هذا الحراك، وكانت طريقة الجزائريين الخاصة للالتفاف على طرق القمع الوحشي التي واجهتهم بها فرنسا منذ قدوم جيوشها مطلع القرن 19[35].

 

المصادر

[1] https://www.lexpress.fr/actualite/l-algerie-enterre-ses-premiers-martyrs-anti-coloniaux-et-souhaite-des-excuses-francaises_2130078.html

[2] https://www.lexpress.fr/actualite/l-algerie-enterre-ses-premiers-martyrs-anti-coloniaux-et-souhaite-des-excuses-francaises_2130078.html

[3] shorturl.at/dhirE

[4] https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/الجزائر-أكثر-من-500-جمجمة-لمقاومين-لا-تزال-في-فرنسا/1899929
[5] shorturl.at/bcisP

[6] shorturl.at/ivQX7

[7] shorturl.at/hvyPU

[8] shorturl.at/uBHP8

[9] shorturl.at/AEFL4

[10] https://www.aljazeera.net/news/international/2012/3/31/فرنسا-تلغي-مزادا-لأدوات-قتل

[11] https://theconversation.com/its-time-for-france-to-face-its-past-and-debate-crimes-against-humanity-74886

[12] https://theconversation.com/its-time-for-france-to-face-its-past-and-debate-crimes-against-humanity-74886

[13] https://theconversation.com/its-time-for-france-to-face-its-past-and-debate-crimes-against-humanity-74886

[14] https://www.theguardian.com/world/2018/sep/13/france-state-responsible-for-1957-death-of-dissident-maurice-audin-in-algeria-says-macron

[15] https://www.theguardian.com/world/2018/sep/13/france-state-responsible-for-1957-death-of-dissident-maurice-audin-in-algeria-says-macron

[16] https://www.theguardian.com/world/2018/sep/13/france-state-responsible-for-1957-death-of-dissident-maurice-audin-in-algeria-says-macron

[17] https://histoirecoloniale.net/conquete-de-l-Algerie-crimes-de-guerre-et-crimes-contre-l-humanite.html

[18] https://www.nouvelobs.com/afrique/20190815.OBS17193/l-algerie-francaise-est-longtemps-restee-taboue-entretien-avec-l-historien-benjamin-stora.html

[19] The crimes of French colonialism in Algeria between the reality of crime and the challenge of revolution1954-1962 “Minefields are a model”, Dr.Boutra Ali,

aculty of Humanities and Social SciencesUniversity of Khanshala, Algeria.

[20] The crimes of French colonialism in Algeria between the reality of crime and the challenge of revolution1954-1962 “Minefields are a model”, Dr.Boutra Ali, aculty of Humanities and Social SciencesUniversity of Khanshala, Algeria.

[21] https://www.lexpress.fr/actualite/l-algerie-enterre-ses-premiers-martyrs-anti-coloniaux-et-souhaite-des-excuses-francaises_2130078.html

[22] https://www.eremnews.com/news/world/576110

[23] https://www.eremnews.com/news/world/576110

[24] shorturl.at/loxY4

[25] shorturl.at/loxY4

[26] shorturl.at/loxY4

[27] https://www.voixdeloranie.com/index.php/fr/culture/histoire-memoire/8625-crimes-coloniaux-en-algerie-le-marechal-bugeaud-a-invente-les-chambres-a-gaz

[28] https://www.voixdeloranie.com/index.php/fr/culture/histoire-memoire/8625-crimes-coloniaux-en-algerie-le-marechal-bugeaud-a-invente-les-chambres-a-gaz

[29] https://plan-paix-onu.blogspot.com/2020/05/algerie-crimes-coloniaux-lautre-8-mai.html

[30] https://plan-paix-onu.blogspot.com/2020/05/algerie-crimes-coloniaux-lautre-8-mai.html

[31] shorturl.at/bluQY

[32] https://www.middleeasteye.net/fr/entretiens/algerie-france-independance-1960-crimes-coloniaux-rigouste

[33] https://www.middleeasteye.net/fr/entretiens/algerie-france-independance-1960-crimes-coloniaux-rigouste

[34] https://www.middleeasteye.net/fr/entretiens/algerie-france-independance-1960-crimes-coloniaux-rigouste

[35] https://www.middleeasteye.net/fr/entretiens/algerie-france-independance-1960-crimes-coloniaux-rigouste