حرائق الغابات الأمريكية.. لماذا تتكرر الكوارث كل سنة؟

مراد بابعا

أصبحت حرائق كاليفورنيا خلال هذه الفترة من السنة طقسا سنويا، بل إن العالم اعتاد سماع اندلاع النيران وإخلاء مناطق في الولاية الأمريكية من السكان، وسقوط قتلى نتيجة هذه الحرائق الضخمة التي تحصد الأخضر واليابس.

ومنذ منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي تسببت الحرائق مجددا في دمار هائل في ولاية كاليفورنيا، أعنفها حريق “كينكايد فاير” شمالا قرب سان فرانسيسكو الذي دفع الآلاف إلى ترك منازلهم، وحريق “كال فاير”، ليعلن بذلك حاكم الولاية حالة الطوارئ، وصدرت أوامر بإجلاء عشرات آلاف السكان وسط انقطاع الكهرباء.

وتتسبب أيضا هذه الكوارث سنويا في خسائر مادية كبيرة تقدر بمليارات الدولارات، تنقسم بين الإضرار بالبينات التحتية والمنازل والمساحات الخضراء وميزانية إطفائها الضخمة، وبين كلفة التأمينات المتزايدة كل سنة مع تلقي شركات التأمين العديد من طلبات التعويض.

فما هي أسباب اندلاع هذه الحرائق في الولايات المتحدة وخصوصا في كاليفورنيا ومناطقها المجاورة. ولماذا تتكرر سنويا خلال هذه الفترة من السنة، وما هو حجم الأضرار التي تتسبب بها سواء البشرية أو المادية؟

 

لماذا تندلع النيران؟

لمعرفة أسباب اندلاع النيران في ولاية كاليفورنيا، يجب الرجوع إلى طبيعة مناخ وتضاريس هذه المنطقة الأمريكية التي تتميز بجو حار وجاف خلال فصل الصيف.

وهذا الوضع زاد حدة خلال السنوات الأخيرة، إذ وصلت معدلات الحرارة إلى مستويات قياسية تتراوح بين 30 و40 درجة، كما تراجع أيضا هطول الأمطار مما أدى إلى تكون غطاء نباتي شديد الجفاف وسريع الاشتعال خلال فصل الصيف.

وبالإضافة إلى الحرارة المرتفعة والجفاف، ساهم التمدد العمراني في وصول البشر إلى جوانب الغابات، وهو ما زاد من احتمال تسبب الإنسان –بقصد أو بدون قصد- في إطلاق شرارة النيران، والتي تؤججها بسرعة الرياح القوية التي تهب على المنطقة، خصوصا رياح “سانتا آنا” التي تجلب الهواء الجاف من الغرب الأمريكي إلى جنوب كاليفورنيا.

ووصلت سرعة هذه الرياح مثلا خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي -حسب خدمة الأرصاد الوطنية الأمريكية- إلى 130 كيلومترا في الساعة في شمال سان فرانسيسكو التي تتميز بأسطح شديدة الانحدار تسهل أيضا تمدد الحرائق.

وتواجه شركة “باسيفيك” للغاز والكهرباء -وهي أكبر شركات كاليفورنيا التي تقدم هذه الخدمات- اتهامات عديدة بالتسبب في تأجيج الحرائق، وذلك نتيجة تعرض بعض خطوطها لنقل الطاقة العالية الجهد لحوادث، أو بسبب إبقائها على هذه الخطوط مشتغلة رغم اندلاع النيران.

 

سيناريو 2018.. هل يتكرر؟

شهدت كاليفورنيا خلال هذه الفترة من العام الماضي أسوأ حرائق غابات في تاريخها أسفرت عن مقتل 86 شخصا.

فقد دمر حريق “كامب فاير” الأعنف، قسما كبيرا من مدينة “باراديس” التي تحولت إلى جحيم، وأتت النيران على أكثر من 60 ألف هكتار من الأراضي، و12 ألفا و600 منزل في شمال ولاية كاليفورنيا.

ولم يستطع نحو 2200 رجل إطفاء بمعداتهم التصدي لهذا الحريق الذي حوّل “باراديس” التي تبعد 130 كيلومترا عن “ساكرامنتو” عاصمة الولاية؛ إلى ركام وسواها بالأرض تقريبا. كما أجبرت النيران السلطات على إجلاء ربع مليون شخص من مقاطعتي “فينتورا” و”لوس أنجلوس” ومناطق ساحلية من بينها “ماليبو”.

وبالتزامن مع “كامب فاير” شهدت كاليفورنيا خلال فترة نوفمبر/تشرين الثاني 2018 موجة حرائق من أخطرها “وولزي فاير” الذي دمر أكثر من 500 مبنى قرب ساحل “ماليبو”، ودفع 200 ألف شخص إلى النزوح نحو الجبال والتلال.

وتتخوف السلطات من تكرار هذا السيناريو الكارثي في المستقبل، خصوصا وأن التغيرات المناخية ضاعفت خلال الثلاثين سنة الأخيرة المناطق المعرضة لخطر الحرائق في الغرب الأمريكي حسب الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم.

كما توقعت هيئات حكومية أن تتسع هذه الرقعة ست مرات بحلول منتصف القرن الحالي إذا استمر الوضع على ما هو عليه.

 

أزمة كهرباء.. انتعاش المولدات

تدفع الحرائق المشتعلة في الغابات والتي تهدد عشرات الآلاف من الأبنية؛ مسؤولي ولاية كاليفورنيا إلى قطع إمدادات الطاقة خصوصا الكهرباء كإجراء احترازي، وذلك كي لا تخلق خطوط التوتر العالي شراراتٍ كانت مصدر حرائق مدمّرة في السنوات الأخيرة، ويتوقع أن يؤثر هذا الوضع أيضا خلال هذه السنة على قرابة مليوني شخص.

وأظهرت خارطة نشرتها شركة “باسيفيك” للغاز والكهرباء أن الانقطاعات ستؤثر على مناطق واسعة تمتد على مسافة 430 كيلومترا شمال سان فرانسيسكو، كما حذرت شركة سان دييغو للغاز والكهرباء في أقصى جنوب الولاية 30 ألف مشترك يقيمون في مناطق معرضة للخطر من احتمال انقطاع الكهرباء إذا ساءت الظروف المناخية.

ويمكن أن تصل كلفة قطع الكهرباء 48 ساعة فقط إلى 2.6 مليار دولار، وفق ما صرح به أحد خبراء سياسة الطاقة والمناخ بجامعة ستانفورد لشبكة “سي إن إن”.

وتشكل هذه الأزمة في المقابل فرصة ضخمة لشركات المولدات الكهربائية التي تستثمر بشكل كبير في ولاية كاليفورنيا، مع الإشارة إلى أن تعزيز شبكة الكهرباء بالشكل الكافي لتفادي الانقطاع قد يستغرق عشرة أعوام.

وبحسب الرئيس التنفيذي لإحدى هذه الشركات التي يوجد مقرها في ولاية “ويسكنسون” شمال وسط الولايات المتحدة، فإن الدخل السنوي المتوقع من بيع هذه المولدات الكهربائية يتراوح بين 100 و200 مليون دولار، بوتيرة قد تستمر إلى غاية العام 2022.

 

خسائر فادحة.. استنزاف مالي

تتسبب الحرائق التي تجتاح الولايات المتحدة سنويا في أضرار جسيمة، مرتبطة بالضحايا الذين يسقطون بين قتيل وجريح نتيجة النيران، وبالمرضى الذين يتأثرون بتلوث الهواء بسبب الدخان الكثيف الذي يخيم على المنطقة لفترات طويلة، وخاصة انبعاث الغازات السامة مثل أحادي أوكسيد الكربون، بالإضافة إلى الأضرار الفادحة على الثروة النباتية والحيوانية.

كما تتكبد البلاد نتيجة هذه الحرائق خسائر مالية تقدر بمليارات الدولارات، تنقسم بين الضرر الذي يلحق بالمنازل والبنى التحتية وتكاليف الإطفاء المرتفعة، والخسائر التي تلحق بشركات التـأمين.

وتجاوزت تكاليف مكافحة حرائق الغابات في الولايات المتحدة ملياري دولار حسب آخر الأرقام الرسمية المتوفرة، والتي كشف عنها وزير الزراعة الأمريكي في 2017 واعتبرها آنذاك رقما قياسيا، وارتفعت هذه التكاليف حسب بعض التقديرات في 2018 إلى ثلاثة مليارات دولار وهي الأعلى حتى الآن، خصوصا وأن كاليفورنيا –وهي الأكثر تضررا- شهدت العام الماضي “أسوأ” كوارث الحرائق في تاريخها.

هذه الحرائق الأكثر دموية، وُصفت أيضا بالأعلى كلفة في تاريخ كاليفورنيا، إذ أنها تسببت بخسائر قدرت كلفتها بتسعة مليارات ونصف المليار دولار بحسب هيئة الإشراف على شركات التأمين في الولاية، والتي تلقت أكثر من 40 ألف طلب للتعويض عن الخسائر الناجمة عن حرائق شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018.

كما أكدت أيضا شركة التأمين الألمانية “ميونخ ري” (Munich Re) أن خسائر شركات التأمين بسبب حرائق العام الماضي في كاليفورنيا تتراوح ما بين 10 و15 مليار دولار.

وقامت الشركة الألمانية –الموجودة بقوة في الولايات المتحدة- لوحدها بأداء تعويضات للمتضررين قدرت بنصف مليار دولار.

 

خرائط وروبوتات.. هل تحد من لحرائق؟

أدت هذه الخسائر الكبيرة التي تتكبدها كاليفورنيا سنويا ومعها باقي مناطق الولايات المتحدة؛ إلى زيادة الأبحاث العلمية لإيجاد طرق مبتكرة لتفادي اندلاع الحرائق، والبحث عن وسائل تساعد في إطفائها بسرعة وبكلفة أقل.

وهدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي سلطات ولاية كاليفورنيا بحجب الأموال التي تدفعها الحكومة الفدرالية سنويا بسبب ما أسماه “سوء إدارتها لحرائق الغابات”، واعتبر أنه لا يوجد مبرر لاندلاع هذه الحرائق “المميتة والمكلفة”.

وهذا الوضع الذي استنفر أعلى هرم السلطة في الولايات المتحدة، دفع بالمسؤولين- في كاليفورنيا ومناطق أخرى- إلى الاستعانة بأحدث التقنيات لمنع نشوب الحرائق، واستعمال طرق جديدة لإطفائها بسرعة قبل انتشارها وخروجها عن السيطرة.

وبعد أن أصبحت حرائق الغابات مشكلة عالمية، لا تقتصر على الولايات المتحدة بل تتعداها إلى غابات الأمازون في البرازيل، وإلى جنوب أوروبا خصوصا إسبانيا والبرتغال واليونان، وحتى الشرق الأوسط كما حصل مؤخرا في لبنان، فإن الإسراع في إيجاد حلول فعالة أصبح ضرورة ملحة.

وبالإضافة إلى الوسائل التقليدية المعروفة التي تُستعمل في مثل هذه الكوارث الطبيعية، طورت الأبحاث العلمية في السنوات الأخيرة تقنيات الذكاء الاصطناعي لتفادي اندلاع الحرائق أو على الأقل الحد من انتشارها بسرعة.

ومن أبرز هذه التقنيات برامج تقييم حجم الأشجار والغطاء النباتي، عبر تحليل خرائط جوية معقدة تنجزها الأقمار الاصطناعية، ويساعد هذا التحليل السلطات في تحديد المناطق الأكثر عرضة لخطر الحرائق، وبالتالي التدخل بوضع حواجز وقائية، أو قطع الأشجار قبل وصول النيران إليها.

كما أًصبحت فرق الإنقاذ والإطفاء تستعين بـ”روبوتات” ذكية تتحمل الدخان الكثيف والحرارة المرتفعة، وقادرة على دخول المناطق المنكوبة للبحث عن ناجين، وأيضا الوصول إلى بعض بؤر الحرائق الملتهبة التي يستحيل على رجال الإطفاء البشر الوصول إليها.

ولاتزال الأبحاث العلمية متواصلة لتطوير هذا النوع من “الروبوتات” من أجل تعزير قدراتها على معالجة الصور بسرعة، واتخاذ القرار المناسب بالتدخل دون تحكم من الإنسان.