حرب الديموغرافيا.. كيف يتلاعب نظام الأسد في تركيبة البلاد؟

حبيب مايابى

تذكر المصادر التاريخية أن دمشق بُنيت قبل الميلاد بتسعة آلاف عام، وأنها كانت واحدة من المدن الآمنة التي رحل إليها إبراهيم عليه السلام عندما نجا من الحرق في العراق وأراد أن يعبد ربه بعيدا عن ظلم الحكام وطغيانهم.

وعلى مرّ القرون ظلت سوريا وطنا تتناغم فيه الديانات والأعراق، وتعاقبت عليها دول وإمارات، وكانت عنوانا للرخاء، وكثيرا ما شدّ الناس إليها الرحال بحثا عن الرزق والأمان.

لكن المبدأ الذي قامت عليه الحضارة السورية تغيّر منذ سبعينيات القرن العشرين، إذ تبنّى النظام الجديد يومها سياسات ديموغرافية لإحلال طوائف مكان أخرى، وجعل الأقلية تتحكم في المشهد وترسم مصير الأغلبية.

وضمن سلسلة “الصندوق الأسود”، أنتجت الجزيرة فيلما بعنوان “حرب الديموغرافيا في سوريا” يسلط الضوء على الانتهاكات والتجاوزات الخطيرة التي ينتهجها نظام الأسد في حق بعض الطوائف السورية من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في البلاد.

سوريا الأسد

في عام 1970 وصل حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا وتبنى “عملية التلاعب الديموغرافي” فكان يقدم تسهيلات لاستقرار الطائفة العلوية في سوريا وتجنيسها.

وفي إفادته بفيلم الجزيرة قال القاضي السوري السابق مصطفى القاسم “النظام ركز على حمص ودمشق في التغيير الديموغرافي، فجلب الكثير من العوائل وسجلها في قيود الأحياء القديمة لإعطائهم قدما تاريخية وقامت الإدارة بإعطائهم تسهيلات كبيرة”.

وبعد أن تولى بشار الأسد رئاسة البلاد عام 2000 أكمل خطة والده في نقل الأسر العلوية إلى المدن الرئيسية في سوريا وتوطينهم فيها.

وحسب إحصائية قام بها المكتب المركزي للإحصاء في عام 2010 بلغ عدد السكان 23.5 مليون نسمة، لكن النظام لم يذكر التشكيلة الطائفية للمواطنين.

بيد أن إحصائية رسمية نشرت عام 1985 تحت عنوان “سوريا بالأرقام” أشارت إلى نسبة توزع الطوائف في الدولة، فجاء السُنة في المرتبة الأولى حيث بلغ عددهم ما نسبته 76%، بينما شكلت الطائفة العلوية 11.5% والمسيحيون 8% في حين لم يبلغ حجم الطائفة الدرزية سوى 3% وقد كانت الطائفة الشيعية في المركز الأقل بنسبة بلغت 1.4%.

في عام 1970 وصل حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا وتبنى "عملية التلاعب الديموغرافي"
في عام 1970 وصل حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا وتبنى “عملية التلاعب الديموغرافي”

تشييع البلاد

وفي عهد الأسد الابن أظهر النظام السوري تقاربا كبيرا مع إيران وفتح الباب أمام نشاطات السفارة الإيرانية في دمشق لنشر مبادئ التشيع والثوابت التي قامت عليها الثورة الإسلامية في طهران.

وبعد فترة وجيزة من قيادته للبلد فُتِحت المزارات وأُقِيمت الحوزات الشيعية، وأصبح مقام السيدة زينب من أهم الأماكن التي يتوافد عليها الشيعة من جميع أنحاء العالم.

ولاحقا، بدأ يتضح أن السفارة الإيرانية من أهم اللاعبين على صعيد السياسة الداخلية في الجمهورية العربية السورية.

يقول المستشار السياسي لعائلة الأسد قبل اندلاع الثورة “أندرو تابلر” للجزيرة “السفارة الإيرانية في دمشق كانت مكانا نشطا وتزايد ذلك كثيرا بعد تولي بشار الأسد السلطة، فأيام حافظ الأسد كانت هنالك مسافة بينه وبين إيران، وقد أبقى على مسافة أيضا بينه وبين حزب الله اللبناني”.

ويرى المتخصص في العلاقات الدولية “عمر باكير” أن بشار الأسد كان متأثرا برجال الدين الشيعة وفتح الأبواب أمام النفوذ الإيراني.

وقد جاء في تقرير للسفارة الأمريكية في دمشق بتاريخ 2007 حصلت الجزيرة على نسخة منه، أن “سمير التقي” مستشار وزير الخارجية التقى بالقائم بالأعمال في السفارة الأميركية “مايكل كوربن”، وعبر له عن قلقه من التحركات الإيرانية في سوريا.

وقد نقل التقرير عن التقي قوله إن النظام السوري له تاريخ في تعيين أشخاص من الأقلية الشيعية في أماكن حساسة من الدولة وتقديمهم للعامة على أنهم من الطائفة السنية حتى لا يُعين السُنة في هذه المناصب.

إحصائية رسمية نشرت عام 1985 تحت عنوان "سوريا بالأرقام"
إحصائية رسمية نشرت عام 1985 تحت عنوان “سوريا بالأرقام”

إيران في وجه الثورة

في مطلع مارس/آذار 2011 خرج السوريون للشارع متأثرين برياح الربيع العربي التي هبت في المنطقة حينها، فقابلهم النظام بوحشية وقمع عنيفين.

ولم يكتف النظام بقواته في التصدي للمتظاهرين، بل استعان بمليشيات شيعية مسلحة من خارج سوريا. وتشير التقارير إلى أن هذه العناصر المسلحة بلغ عددها ما يقارب 30 فصيلا.

وتدخلت إيران بطريقة مباشرة إلى جانب نظام الأسد الابن وجعلت سوريا بعد اندلاع الثورة محجا لأقدام المقاتلين الشيعة من كل مكان لحماية مصالحها ونفوذها.

وفي حديثه للوثائقي قال المتخصص في الدراسات الإسلامية الشيعية الدكتور خالد السندواي “الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني وأعداد أخرى كبيرة وصلت لسوريا بعد قيام الثورة الإيرانية، كما أن طهران حسب تصريحات بعض قادتها تعتبر سوريا واحدة من محافظاتها”.

وتحدث للوثائقي أيضا أحد المقاتلين الشيعة من غير السوريين يدعى “عباس جواد قاسم” وقال إنه قدِم من العراق للقتال في صف الأسد ومعه آخرون من شيعة أفغانستان ولبنان وإيران.

تدخلت إيران بطريقة مباشرة إلى جانب نظام الأسد الابن وجعلت سوريا بعد اندلاع الثورة محجا لأقدام المقاتلين الشيعة
تدخلت إيران بطريقة مباشرة إلى جانب نظام الأسد الابن وجعلت سوريا بعد اندلاع الثورة محجا لأقدام المقاتلين الشيعة

تهجير السنة

وبعدما أطلق بشار الأسد مفهوم “سوريا المفيدة” بدأ في ترحيل مدن بكاملها، وكانت أماكن الطائفة السنية هي الهدف الرئيسي لتغيير تركيبة السكان.

وفي تصريحه للوثائقي قال المستشار الإعلامي والمعارض السوري “أحمد كامل” إن التشابه مذهل بين ما يحدث في سوريا وما جرى في فلسطين، فقد تمت عملية اقتلاع سكان واستجلاب آخرين مكانهم بناء على رؤية طائفية وعرقية.

وارتكب النظام الكثير من المجازر التي صنفت على أنها تطهير طائفي في حمص وريف دمشق والتي انتهت بتهجير أهلها للمدن المجاورة مما أحدث تغيرا كبيرا في خارطة السكان.

وحسب أندرو تايلر فإن ما حدث في حمص مثال لحرب التغيير الديموغرافي حيث تم تهجير أحياء بالكامل قسريا إلى لبنان وجاء سكان آخرون للمنطقة من غير السنة.

وفي منطقة الزبداني بريف دمشق المحاصرة من قبل قوات حزب الله والنظام السوري تمت مفاوضات بين السكان المعارضين والنظام الإيراني بعيدا عن حكومة الأسد.

واشترط الإيرانيون تفريغ البلدة بالكامل من السكان ونقلهم إلى شمال سوريا، بينما تم نقل السكان الشيعة إلى المناطق المفيدة على حد وصف النظام السوري. ورفضت المعارضة هذا المقترح لما فيه من تلاعب بتركيبة السكان.

وفي مشاركته بفيلم الجزيرة قال “علي العمر” القائد العام لحركة أحرار الشام الإسلامية وعضو لجنة التفاوض مع النظام الإيراني “الإيرانيون كانوا يريدون إفراغ الزبداني والدفع بسكانها نحو الشمال مقابل خروج الشيعة من مدينتي كفرية والفوعة تجاه مناطق النظام”.

وتعتبر داريا مثالا حيا لسياسة تغيير التركيبة السكانية، فبعد أن تواصل حصارها أربع سنوات انتهى بخروج أهلها في أغسطس/آب 2016 وتم نقلهم إلى إدلب في الشمال السوري.

وحسب تقديرات صادرة من الأمم المتحدة فإن عدد السكان في سوريا تراجع من 23 مليونا إلى 18 مليون نسمة، وأن خمسة ملايين سوري غالبيتهم من السنة أصبحوا لاجئين حول العالم.

لم يكتف النظام بقواته في التصدي للمتظاهرين، بل استعان بمليشيات شيعية مسلحة من خارج سوريا
لم يكتف النظام بقواته في التصدي للمتظاهرين، بل استعان بمليشيات شيعية مسلحة من خارج سوريا

سياسة بيع العقار

في عدد من الأحياء التي يهجرها المواطنون السنة بسبب الحصار المفروض من النظام السوري يتم تغيير ملكية الأرض إما ببيعها لمستثمرين أو منحها لعائلات تنتمي للطوائف الشيعية أو العلوية.

وحسب تقارير صحفية دولية فإن النظام الإيراني أصبح نشطا في سوق العقارات السورية، وقد أُصدِرت مراسم تسمح بإنشاء أحياء سكنية شيعية في أماكن سنية.

وحسب الناشط في حقوق الإنسان عبيدة فارس فإن الوجود الشيعي أصبح واضحا في أحياء دمشق وربما تم تغيير هويات المجتمع في بعض المدن وهو أمر لم يكن موجودا في الماضي.

وقد استعرض الفيلم مقاطع من نشاطات تقوم بها السفارة الإيرانية في دمشق تخليدا لذكرى المناسبات السياسية والدينية للشيعة، وتعكس بشكل واضح مستوى التغيير الديموغرافي للعاصمة.

في عدد من الأحياء التي يهجرها المواطنون السنة يتم تغيير ملكية الأرض إما ببيعها لمستثمرين أو منحها لعائلات تنتمي للطوائف الشيعية
في عدد من الأحياء التي يهجرها المواطنون السنة يتم تغيير ملكية الأرض إما ببيعها لمستثمرين أو منحها لعائلات تنتمي للطوائف الشيعية

استيراد السكان

لم يكتف النظام بتهجير السكان ونقل مواطنين آخرين يختلفون معهم في العقيدة والانتماء السياسي، وإنما قام بجلب الكثير من العوائل من العراق ولبنان وقام بتجنيسهم عبر مراسيم رئاسية بعد عجزه عن ملء الفراغ من المواطنين العاديين.

ويعتبر مراقبون أن قانون الجنسية في أصله هش وضبابي حيث ينص في المادة السادسة على أنه يحق لرئيس الجمهورية أن يمنح الجنسية لأي شخص بعد طلب من وزير الداخلية، ودون المرور بأي قيد أو شرط.

وفي الفقرة الثانية من المادة المذكورة يمكن منح الجنسية لأي شخص قدم خدمات جليلة للدولة أو للأمة العربية.

وقال الأسد إن الوطن ليس لمن يحمل جنسيته وإنما لمن دافع عنه؛ في إشارة إلى إمكانية تجنيس “المرتزقة” من أي مكان على حد تعبير غزوان قرنفل رئيس رابطة المحامين السوريين الأحرار.

وفي وثائق سرية حصلت الجزيرة عليها قام النظام السوري بإشراف الأمن والمخابرات بتعميم يقضي بتسهيل الجنسية لمكتومي القيد من “الأصدقاء” القادمين من خارج سوريا.

وينتهي الفيلم بمسح قام به فريق العمل للمناطق التي كان يوجد فيها السنة قبل الثورة وبعدها في محافظة حمص والعاصمة دمشق، وبدا جليا حجم التغيير الديموغرافي الذي طال المناطق السنية حيث تناقص عددهم بشكل ملفت للانتباه.

يقول الناشط الحقوقي عبيدة فارس “من أراد أن يعرف مستوى التغيير الديموغرافي الممنهج في سوريا عليه أن يذهب لمخيمات اللاجئين في أي مكان ليكتشف أن التهجير طال طائفة خاصة ومناطق معينة”.