حركة طالبان.. رحلة الجمر والكهوف والمفاوضات

أمين حبلّا

لم يكن اللهب الفيّاض الذي صبته الولايات المتحدة الأميركية على الكهوف والتجمعات التي احتضنت كتائب وعناصر حركة طالبان الإسلامية أول علاقة لعناصر هذه الحركة بالجمر واللهيب، ففي المنطقة التي ولدت فيها طالبان من رحم المدارس الدينية يوجد تقليد راسخ؛ وهو حمل الجمر والسير به.

يقتضي التقليد الذي يتنافس فيه آلاف الرجال والشباب من أبناء ولاية قندهار التي انطلقت منها الحركة، على القبض على الجمر والسير به مدة أطول دون إظهار الألم، والفائز من يصبر كثيرا على الجمر المشتعل حتى ينطفئ في يديه.

لأفغانستان قصة من الجمر والثلج، وكأن تاريخها المعاصر ليس أكثر من رحلة الدم الفيّاض من النار إلى الثلج. فخلال السنوات الأربعين المنصرمة، استقبلت جبال وكهوف وسهول أفغانستان -على غير رغبة ولا ميعاد- ملايين القذائف الحارقة، انطلقت إليها من الأرض وانصبت عليها من السماء.

لقد أخذ الاحتلال الروسي لأفغانستان على عاتقه حرق أرض الثلج والعلماء والمدارس القرآنية والفن الأصيل، فجبال أفغانستان شهود من عصر الأزل على قصة الإنسان والحضارة.

انهزم الاحتلال الروسي على يد ما يعرف بالمجاهدين، وهم خليط بين أبناء الأرض المحروقة ومناصريهم من أقطار كثيرة أهمها البلدان العربية، زيادة على الدعم الدولي وخصوصا الأمريكي.

عندما خرج الروس مهزومين تحت ليل من الثلج الملتهب في روسيا، لم يبق أمام أرض الشتاء الحارق غير الاقتتال فيما بينهم، وهنا تعددت وجهات الرصاص قبل أن يستقر في صدور “المجاهدين المتصارعين”.

ضمن هذه المتغيرات المتعددة، اختبرت أفغانستان أسماء زعامات سياسية ودينية متعددة من بينها أحمد شاه مسعود وقلب الدين حكمتيار، كما اختبرت تنظيمات متعددة ومتنوعة في الأسماء والمقاصد والعلاقات الداخلية والخارجية، ولم تذب التمايزات القبلية والمناطقية تحت اللهب الحارق الذي تجرعته الأرض الأفغانية، فقد ظهر هو الآخر في تمايزات وانتماءات القادة والجنود.

 

علماء البشتون

من رحم هذه الأزمات المتعددة والصراعات المتفاقمة ولدت حركة طالبان، ولم تكن في البداية أكثر من تجمع لطلاب المدارس الدينية وخصوصا من قبائل البشتون التي تمثل أكثر من 37% من سكان أفغانستان البالغ عددهم أكثر من27 مليون نسمة.

ينتمي الجيل التأسيسي للحركة إلى المذهب الحنفي وإلى المدارس الدينية التقليدية، وقد مهدت لبروزه كثير من الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي سادت المجتمع الأفغاني مع نهاية الحرب الروسية، ولعل من أبرز تلك المظاهر:

– الفساد السياسي والأمني: فلم تستقر الأحوال في أفغانستان مع خروج الروس، بل أخذت طابعا آخرا من الاضطراب وانتشرت الرشوة والممارسات الإدارية الشائنة في صفوف الإدارة الأفغانية، كما تفاقم نفوذ المديريات الأمنية التي تحوّل كثير منها إلى جباة ضرائب وأتاوات على المواطنين مما فاقم مآسي المواطنين.

– انتشار الفساد الأخلاقي: فقد عاش المجتمع الأفغاني فترة من الانفتاح الهائل في عهد الروس، وهو ما أدى إلى انتشار دور الدعارة والممارسات الفاحشة بين كثير من الأفغان، ومع ظهور طالبان وحملها للواء التصدي للفساد الأخلاقي نالت تعاطفا كبيرا من الجماهير المتدينة في أفغانستان.

– التصدي لأثرياء الحرب: وهم طبقة من الأثرياء الجدد الذين حصلوا أموالا هائلة من تجارة الأسلحة والأحجار الكريمة والخردة التي نتجت عن الحرب، وقد أقام هؤلاء طبقة من الأثرياء المتحكمين في منافذ السلطة، واستطاعوا فرض طبقية خاصة بهم ضايقت الفقراء في أرزاقهم واستغلت نفوذ الدولة بشكل كامل في استنزاف ثروات ومقدرات البلد.

 

التـأسيس والمسيرة

في منتصف عام 1994 نشأت الحركة الإسلامية لطلبة المدارس الدينية المعروفة باسم “طالبان” (وطالبان جمع طالب في لغة البشتو) على يد الملا محمد عمر في ولاية قندهار جنوب غرب أفغانستان على الحدود مع باكستان عام 1994.

تطورت الأمور بعد ذلك حيث تمت مبايعة محمد عمر من قبل 1500 من علماء أفغانستان، وتمت تسميته أميرا للمؤمنين وفق مقتضيات الفقه الحنفي الذي يتمذهب به غالبية أنصار الحركة، وتتضمن هذه المبايعة إلزام الأمير محمد عمر بالحكم بالشريعة الإسلامية والالتزام بطاعته وعدم مخالفته أو عزله ما لم يظهر عليه عجز أو انحراف عن الشريعة الإسلامية.

وعمليا فقد بدأت أول خلية من طالبان عملها في يوليو/تموز 1994 في منطقة “سنج سار” بمدينة قندهار، وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني سقطت المدينة كلها بيد طالبان، وسرعان ما توالت بقية المدن والمناطق مثل حبات السبحة تتساقط بيد طالبان، قبل أن تسقط العاصمة كابل في 27 سبتمبر/أيلول 1996، وذلك بعد انسحاب القوات الحكومية إلى مناطق الشمال.

بعد أشهر قليلة بدأت دول إسلامية قليلة في الاعتراف بالنظام الإسلامي الجديد في كابل، وكانت البداية مع باكستان ثم تلتها السعودية والإمارات. ومع بداية العام 2000 كانت أكثر من 90% من أراضي أفغانستان تحت يد طالبان.

 

أهداف الحركة

نشرت حركة طالبان في سنة 1996 لائحة أهدافها التي تضمنت أهدافا دينية وأخرى سياسية مع أخرى اجتماعية وتنموية، ومن أبرز تلك الأهداف:

–       إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة.

–       أن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعا.

–       أن يكون قانون الدولة مستمدا من الشريعة الإسلامية.

–       اختيار العلماء والملتزمين بالإسلام للمناصب المهمة في الحكومة.

–       قلع جذور العصبيات القومية والقبلية.

–       حفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية.

–       توثيق العلاقات مع جميع الدول والمنظمات الإٍسلامية.

–       تحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية.

–       التركيز على الحجاب الشرعي للمرأة وإلزامها به في جميع المجالات.

–       تعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة.

–       قمع الجرائم الأخلاقية ومكافحة المخدرات والصور والأفلام المحرمة.

–       استقلال المحاكم الشرعية وفوقيتها على جميع الإدارات الحكومية.

–       إعداد جيش مدرب لحفظ الدولة الإسلامية من الاعتداءات الخارجية.

 

البنية والهيكلية

عانت طالبان من ضعف بنيتها الإدارية وكان قادتها يعلنون بين الحين والآخر أن حركتهم ليست حزبا تقليديا وإنما هي حركة “لنفع المسلمين”. وخلال مسيرتها السياسية والعسكرية مرت بأطوار إدارية عديدة، وأثناء سيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد انتظمت في تراتبية إدارية هذه أبرز معالمها:

– أمير المؤمنين: ويمثل رأس الهرم القيادي في طالبان، ويعتبر الملا محمد عمر أول أمير لحركة طالبان إثر بيعة العلماء له في سنة 1996، وبعد إعلان وفاته أعلنت الحركة مبايعة الملا محمد منصور الذي قتلته الولايات المتحدة في غارة استهدفته قبل أن تعلن الحركة بعد ذلك اختيار الملا هبة الله آخندزاده، وهو الزعيم الثالث لحركة طالبان الأفغانية، وقد انتخبته الحركة لهذا المنصب منتصف عام 2016.

– المجلس الحاكم المؤقت: ويتكون من ستة أعضاء ويتبع لأمير الحركة.

– مجلس الشورى العام: وهو مجلس معين بدأ عند تأسيسه بـ70 عضوا، وهو بمثابة برلمان مصغر.

– مجلس الشورى العالي: وهو تجمع لكل القيادات المعروفة في الحركة ولا يُعرف له عدد محدد.

– مجلس الوزراء: ويتكون هذا المجلس من الوزراء وينتظم في جلسات أسبوعية، وعند تأسيسه كانت غالبية أعضائه من الشباب.

– دار الإفتاء المركزي: وهي الهيئة الشرعية للإفتاء وتضم عددا من العلماء لاستفتائهم في الأمور الشرعية، ومقره قندهار الموطن الأصلي لحركة طالبان.

– مجالس الشورى في الولايات: منحت طالبان صلاحيات واسعة للولاة لإقامة حكم غير مركزي نسبي، ولكل ولاية مجلس شورى خاص بها ووال يتبع مباشرة لأمير المؤمنين.

– القيادة العسكرية: يمكن القول إن الملف العسكري في طالبان ظل متضخما بسبب الصراع المستمر بين الحركة والقوات المعارضة لها في الشمال عند تأسيسها، وكذلك في صراعها مع الولايات المتحدة الأميركية، وحكومات ما بعد سقوط نظامها.

 

الفكر والانتماء

يمكن اعتبار حركة طالبان حركة سلفية تقليدية من حيث مواقفها ورؤيتها للإسلام وتجسيدها لأنماط الحكم وعلاقاتها الخارجية بما فيها مواقفها من القوى الغربية. وقد تميز أعضاء الحركة بالشدة والصبر والصلابة ومواجهة الصعاب، وهي صفات يشترك فيها معهم غالبية الأفغان.

ويتركز الفكر السياسي لطالبان على ترجيحات مجلس علمائها، ويعتمد المجلس مبدأ الشورى، لكنه يعتبرها مُعلمة وليست ملزمة، ويمكن لأمير المؤمنين أن يتخذ قرارا مخالفا لرأي الأغلبية.

ورفض قادة طالبان عند تأسيسها وطيلة مسارها اعتماد الديمقراطية لفظا أو مضمونا معتبرين أنها تعني التشريع من دون الله.

وقد فرضت الحركة بعض قوانينها الخاصة بها على الأفغان حيث منعت دور الغناء والرقص وحرّمت الموسيقى كما حرمت عمل المرأة خارج بيتها، وفرضت على الرجال الالتزام بالشكل والزي الإسلامي كما تراه طالبان مجسدا في لبس العمامة وإطلاق اللحية.

كما منعت طالبان الفن والإنتاج الفني التفلزيوني والتصوير، ومنعت إقامة الأحزاب السياسية معتبرة أنها تدفع المسلمين إلى مزيد من التناحر والخلاف.

وفي مقابل تلك الإجراءات التعسفية تمكنت طالبان من تحقيق إنجازات على أرض الواقع من بينها توحيد الأراضي الأفغانية تحت نظام واحد، ومحاربة الفساد المالي والإداري في فترة حكمها التي استمرت أربع سنوات لا أكثر قبل أن تواجه غضب الولايات المتحدة إثر حادثة 11 سبتمبر/أيلول 2001 إذ إن الولايات المتحدة رأت أن طالبان كانت شريكة أساسية في تلك الهجمات.

لم يطل الانتظار كثيرا؛ فقد غزت الولايات المتحدة -مدعومة من دول أخرى- أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته (2001)، فيما قامت قوات تحالف الشمال (الجبهة الإسلامية القومية لتحرير أفغانستان) بخوض معارك برية أدت إلى إسقاط حكم طالبان.

 

من الحرب إلى المفاوضات

مع نهاية 2001 بدأت طالبان والولايات المتحدة جولات حرب مستمرة وطويلة ومؤلمة، تكبد فيها الطرفان خسائر فادحة.

وبعد 2010 توصلت القوات الأجنبية إلى أن الحل العسكري لن يحسم المعركة مع طالبان، وبدأت بعض قياداتها تميل نحو البحث عن حل سياسي.

والتقى لأول مرة مسؤولون أمريكيون بممثلي طالبان بمدينة ميونخ الألمانية بحضور شخصيات قطرية وألمانية في 28 نوفمبر/تشرين الأول 2010، واستمر الاجتماع حسب مصادر أفغانية 11 ساعة، واعتبرت جلسة جس نبض بين الطرفين الأميركي وطالبان.

بعد ذلك بادرت واشنطن بطلب لقاء مع طالبان في الدوحة، وجلسا للمرة الثانية في 15 فبراير/شباط 2011، ومثّل الحركة كل من طيب آغا المدير السابق لمكتب الملا عمر، والملا عبد السلام ضعيف السفير السابق لطالبان لدى باكستان.

وتعزيزا لتلك الخطوات سمحت دولة قطر لحركة طالبان في 18 يونيو/حزيران 2013 بفتح مكتب اتصال لها في العاصمة الدوحة، وأكدت أن فتح المكتب جاء تمهيدا لإيجاد حل للنزاع في أفغانستان.

وخلال السنة الحالية (2019) توالت جولات من المفاوضات العسيرة في الدوحة، وفي مطلع شهر سبتمبر/أيلول توصل الطرفان –بعد تسع جولات- إلى تفاهم مبدئي على اتفاق نهائي تريد منه طالبان ضمان خروج القوات الأميركية من أفغانستان وتريد منه واشنطن ضمانات تؤكد أن الأراضي الأفغانية لن تكون منصة لإطلاق النار والهجمات على الولايات المتحدة.

وبينما كان الجميع ينتظر توقيع الاتفاق خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليفاجئ العالم بالإعلان عن وقف المفاوضات مع حركة طالبان التي كانت على وشك أن تتوّج باتفاق ينهي حربا مستمرة منذ نحو 19 عاما، وذلك احتجاجا على قيام طالبان بهجوم أودى بحياة جندي أمريكي و11 أفغانيا.

ردت طالبان بالتهديد بمزيد من الهجمات، وبأن قرار ترامب سيؤدي إلى إزهاق أرواح مزيد من الأمريكيين وخسارة مزيد من الأصول الأمريكية.

وعلى الفور بدأ وفد من المكتب السياسي لطالبان جولات خارجية قادته حتى الآن إلى العاصمتين الإيرانية طهران والصينية بكين.

تدرك طالبان بعد 25 سنة على تأسيسها و18 على مغادرتها للسلطة؛ أن أمورا كثيرة تغيرت، سواء على جبهات القتال أو في الداخل الأفغاني أو حتى على مستوى المنطقة والعالم.

وتسعى استنادا إلى ذلك للتأكيد أن طالبان اليوم ليست هي طالبان الأمس، وأنها راجعت -بفعل اللهب والنيران والثلج والسجون والكهوف- كثيرا من مقولاتها ومبادئها السياسية وفرضت عليها متغيرات الأوضاع الميل إلى واقعية مرنة لكنها ما زالت صلبة.