“حلم الخلود”.. تلصص الإنسان على مهارات الكائنات الحية الخالدة

لجميع الكائنات الحية أجل محدود، فبعضها ينعم بالحياة لقرون، وبعضها يذوق طعم العيش لأيام فقط، لكن في النهاية فإن كل من عليها فان.

رغم ذلك، فإن هناك حيوانات تتحدى سطوة الزمن والموت نفسه، فلديها قوى خارقة حقيقية تسمح لها بمقاومة الأمراض والشيخوخة وتجديد شبابها، بل وإنعاش الحياة في عروقها. حيث يحرص العلم الحديث على كشف أسرارها، فهل يكمن سر الخلود في هذه الكائنات الحية المدهشة؟

يناقش فيلم “حلم الخلود” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الحلم المتجدد للجنس البشري بسبر أغوار أسطورة الحياة الأبدية، ففي القرون القليلة الماضية، سمح لنا العلم والطب باتخاذ خطوات صغيرة في مسعانا نحو تحقيق هذا الحلم.

 

لكن مخلوقا واحدا تفوّق على سواه في هذا المسعى، إنه “قنديل البحر” الذي تتكون حياته من مرحلتين متميزتين، مرحلة “السلائل الأولى”، وهي مرحلة السكون، حيث تشكل السلائل مستعمرات ملتصقة تماما مثل الشعاب المرجانية، ومع نموها تصبح قناديل بحر صغيرة، ثم تبدأ مرحلة حياة جديدة متمتعة بالحرية والخصوصية، فتترك نقطة ارتكازها، وتسمح للتيارات بحملها مدفوعة بضربات قليلة من أغطيتها، ومع تغذيتها على أي عوالق تقع في نطاق مجساتها، فإنها تستمر في النمو والتطور.

أحد أنواعها هو قنديل البحر الخالد الذي يحظى بمهارة فريدة في مملكة الحيوان، وتتمثل في إدامة هذه الدورة إلى ما لا نهاية. وإذا واجه خلال فترة بلوغه أي صعوبة كنقص الطعام أو تغير الظروف، فإن بإمكانه العودة في الوقت المناسب، وحينها تأخذ حياته اتجاها معاكسا إلى أن تعود إلى مرحلة “السلائل الأولى”. هذه القدرة على بدأ حياته من جديد تجعله شبه خالد.

حدود القدرات الخارقة.. اختبار ملكات البقاء

يُنسب إلى “تشارلز داروين” قوله إن البقاء ليس للأقوى أو الأذكى، بل للأكثر قابلية للتكيف مع التغيير، رغم أن “داروين” لم يكتب ذلك في الحقيقة، إلا أن هذا المبدأ ينطبق تماما على أحد أروع قاطني مملكة الحيوان، إنه هذا المخلوق الغامض الذي يختبئ في عالم متناهي الصغر.

قنديل البحر الخالد الذي تتكون حياته من مرحلتين متميزتين تجعلانه قادرا على بدء حياته من جديد ليكون شبه خالد

متوارية بين طحالب الغابة تعيش ثقيلات الحركة، وهي حيوانات يقل طولها عن نصف مليمتر، وتقتات على الكلوروفيل الموجود في الأوراق، فقد أكسبها مظهرها اللطيف لقب الدببة المائية أو الخنازير الطحلبية، لكن هشاشتها البيّنة تخفي طبيعتها الحقيقية كملكات للبقاء لا يُشق لها غبار.

وضع الباحثون ثقيلات الحركة في اختبارات قاسية لمعرفة حدود قدراتها، وتكشّفت لهم مجموعة فريدة من القدرات على مقاومة تحديات بيئتها، ففي مختبرهما في مونبلييه يعمل “سيمون غالاس” و”ميريام ريشو” على كشف أسرار هذه المخلوقات التي يمكنها النجاة من أي شيء.

ثقيلات الحركة.. صراع أول كائن بحري على سطح القمر

يقول البروفيسور “سيمون غالاس” إن ثقيلات الحركة تستطيع تحمل ضغط مرتفع للغاية، مثل ضغط يصل إلى 5.7 جيجا باسكال الذي يوجد على عمق 180 كيلومترا تحت سطح الأرض، كما يمكنها البقاء على قيد الحياة لمدة 10 أيام في فراغ الفضاء دون أكسجين عند التعرض للإشعاع المؤين والأشعة الكونية، ويمكنها أيضا تحمّل درجات الحرارة القصوى، بدءا من 250 تحت الصفر إلى 150 درجة مئوية، كما تستطيع مقاومة المذيبات والمؤكسدات والجزيئات الشديدة العدائية.

صورة لثقيلات الحركة التي تُعتبر أول كائنات أرضية تعيش على القمر

في العالم الطبيعي استعمرت بيئات تبدو غير صالحة للعيش كأعماق المحيطات وأعالي قمم الجبال، وقد وُضعت عينات منها في مدار حول الأرض لمدة 12 يوما، ورغم خضوعها لظروف كفيلة بالإبادة الفورية لأي مخلوق آخر فقد عادت سالمة، إلا أن بسالتها المكانية لا تنتهي عند هذا الحد، ففي عام 2019 تحطم مسبار على سطح القمر كان على متنه 1000 من ثقيلات الحركة، ويرى قادة البعثة أنها ربما تمكنت من النجاة، مما يجعلها أول كائنات أرضية تعيش على القمر.

ويرى البروفيسور “سيمون غالاس” أن العدو الأكبر لثقيلات الحركة هو غياب الماء، لأنها في الأصل مخلوقات بحرية، لكن بعضها تكيّف في الماضي القريب مع الحياة الأرضية، بينما ظل متشبثا بماضيه وتكوينه المائي، مضيفا أنه بمجرد أن تفقد ثقيلات الحركة طبقة الماء من أي جزء من سطح جسمها، فإنها تنتج رد فعل للدفاع عن نفسها.

سنوات السبات في انتظار الماء.. برزخ بين الحياة والموت

تجري الدكتورة “ميريام ريشو” تجربة على ثقيلات الحركة بتجفيفها، وعندما يتبخر الماء، تكشف ثقيلات الحركة النقاب عن قوتها الخارقة، حيث تفقد أكثر من 95% من الماء الذي تتكون منه أجسامها، لتتحول إلى كتلة عديمة الشكل، ثم تدخل حالة ليست في الحقيقة حياة ولا موتا، إنها حالة الحيوية الخفية أو الحالة غير المائية.

قطرة ماء واحدة تكفي لصنع المعجزة، ففي غضون دقائق قليلة تستعيد ثقيلات الحركة شكلها الأصلي وتعود إلى الحياة

مجرد قطرة ماء واحدة تكفي لصنع المعجزة، ففي غضون دقائق قليلة تستعيد ثقيلات الحركة شكلها الأصلي وتعود إلى الحياة. يقول البروفيسور “سيمون غالاس” إنه بمجرد استعادة ترطيبها ونشاطها تشرع ثقيلات الحركة فورا في البحث عن الطعام، وفي بعض الحالات تضع بيضها مباشرة لضمان نسلها، وفي حالات أخرى فإنها تستمر في حياتها الطبيعية إلى أن يشحّ الماء ثانية، ويتعين عليها من جديد العودة لوضع البقاء على قيد الحياة.

مع أن متوسط عمرها الطبيعي يبلغ 3-4 أشهر، فإن بمقدورها قضاء عدة سنوات على هذه الحالة. فمن خلال إزالة الجليد عن طحالب جُمعت من القارة القطبية الجنوبية؛ تمكن فريق من الباحثين اليابانيين من إيقاظ أفراد من ثقيلات الحركة كانت قد دخلت حالة الحيوية الخفية قبل 30 عاما.

الدودة المستورقة.. تكاثر الجيل الجديد من الأشلاء الممزقة

الإصلاح الذاتي والتشافي بدلا من الوقاية هما اختصاص حيوان آخر اسمه الدودة المستورقة التي تملك إستراتيجية أخرى للبقاء والتكاثر، فعند تقطيع دودة منها على ثلاثة أجزاء مثلا، فإن كل جزء يتجدد ليعطينا دودة بالغة. وبعد يومين فقط، تنمو الرؤوس المقطوعة من جديد وتعود للتحرك كما كانت تفعل من قبل، فاستعادة شكلها وحجمها الأصليين تستغرق 8 أيام فقط، وبعد أسبوعين تستعيد جميع أعضائها الداخلية قدرتها على العمل من جديد.

الدودة المستورقة تملك إستراتيجية أخرى للبقاء والتكاثر، فعند تقطيع دودة منها على ثلاثة أجزاء مثلا، فإن كل جزء يتجدد ليعطينا دودة بالغة

يمكن للدودة المستورِقة أن تحقق ذلك بفضل خلاياها الجذعية، حيث تتشكل كتلة من الخلايا تسمى الخلايا المأرمية عند الأطراف المقطوعة، وتبدأ بالتحول تدريجيا إلى الجزء المفقود من الحيوان إلى أن تُعيد تكوين رأس جديد كامل.

يقول العلماء إنه بمقارنة الحمض النووي لدودة مستورِقة حديثة، بحمض نسلها من قطع متتالية على مدى بضع مئات من السنين، فسنرى نسخا كاملة باستثناء بعض الطفرات.

في 2013 قامت دراسة في جامعة تافتس في ماساتشوستس على تدريب الديدان المستورِقة على إيجاد الطعام في جزء معين من صندوق، ثم خضعت الحيوانات للتقطيع بعد ذلك، واكتشف العلماء أن الكائنات التي نمت من الأجزاء المقطوعة كانت أكثر قدرة على إيجاد طريقها إلى مصدر الغذاء من الأخرى. ويعني هذا أن الديدان المستنسخة لها ذاكرة مشتركة موروثة من الدودة الأصلية، لذا يمكن تخزين ذاكرة دودة مقطوعة الرأس في مكان آخر غير الدماغ، لكن أين؟

هذا السؤال يبقى إلى الآن بلا إجابة.

جراد البحر.. عدو داخلي يفتك بالشباب الدائم

تستطيع ثقيلات الحركة والمستورِقات تحمل التغيرات في بيئتها أو الهجوم الجسدي، لكن بعض الأخطار لا تأتي من الخارج، فنحن ككائنات حية نتعرض إلى ضرر محتوم جراء آلية داخلية هي الشيخوخة.

جراد البحر  يعيش 20 عاما تقريبا، ويستمر في النمو طوال حياته عبر الطرح المستمر لقشوره

لا تتكشف حياة الإنسان أو الحيوان بطريقة مباشرة، فعندما نولد نكون مجرد كائنات نامية غير مكتملة، مع ذلك وفي هذه المرحلة تبدأ بعض الخلايا بالتقدم في العمر، تستمر هذه العملية الوئيدة طوال فترة نمونا، وتصبح أكثر وضوحا مع مرور السنين، حيث يحلّ الشعر الرمادي محل اللون الطبيعي، وتتدهور بعض وظائفنا تدريجيا على مستوى الخلايا والأعضاء والجسم كله. لكن هذا لا ينطبق على جراد البحر الذي يتمتع بشباب دائم، فما يحدّ من مدى حياة هذا الحيوان القشري ليس عمره، بل حجمه.

بخلاف مخلوقات أخرى كالثدييات، يستمر جراد البحر في النمو طول حياته عبر الطرح المستمر لقشوره، مما يجعل طوله يصل إلى 60 سنتيمترا، ففي العادة يعيش جراد البحر 20 عاما تقريبا، لكن البعض يتجاوز ذلك بكثير، إذ يعتقد أن أكبر جراد بحر جرى تسجيله على الإطلاق عاش 140 عاما، ولا يقل جراد بحر يبلغ عمره قرابة 50 عاما ويزن أكثر من 7 كيلوجرامات عن نظرائه الشباب قوة ولا نشاطا، فلم تتدهور أنظمته الصحية مع مرور الوقت، ويستمر في الدفاع عن مناطق نفوذه ومصادر غذائه.

إنزيم تيلوميرا.. مفتاح بوابة الشباب الأزلي

من الممكن أن يهلك سرطان البحر جراء المرض أو التلوث أو الصيد، لكنه لن يموت أبدا من الشيخوخة، فما سبب هذا الشباب الأزلي؟

أنزيم التيلوميرا الذي يعزز نشوء الخلايا السرطانية لدى بعض الحيوانات

يكمن السر في إنزيم يسمي تيلوميرا، والتيلوميرات هي أطراف الكروموسومات التي تظهر عند انقسام الخلية، ومع استمرار الحياة في مسارها تنمو التيلوميرات لتصل إلى حجم معين، وبمجرد أن تبلغ الحد الأقصى تتوقف الخلية عن الانقسام، وتفنى التيلوميرات تدريجيا، مما يؤدي إلى شيخوخة الخلايا ثم موتها.

في جراد البحر يرتبط نشاط إنزيم تيلوميرا بالنمو المستمر للحيوان، ويمكن للتليوميرات أن تستمر في النمو دون تدهور قوتها، لكن في النهاية يصبح حجم جراد البحر عائقا، وبعد فترة تصبح الطاقة اللازمة لسلخ قشوره أكبر بكثير من قدرته، وهو ما يجعل درعه عرضة للأمراض والهجمات.

لسوء الحظ، فإن لدى الحيوانات ذات النمو المحدود يكون لهذا الإنزيم تأثير جانبي خطير، فهو يعزز نشوء الخلايا السرطانية، كمعظم المخلوقات فإن علينا أن نخضع للتقدم في العمر حتى وإن حاولنا إبطاء ذلك قدر الإمكان.

حتمية الوحش الوراثي والبيئي.. عوامل الشيخوخة

بعض عوامل الشيخوخة يمكن السيطرة عليها، مثل نظافة الحياة والغذاء ومتطلبات العمل الجسدية والإجهاد، كلها عناصر تؤثر على كيفية شيخوختنا وطول العمر الذي قد نعيشه. فهناك عوامل داخلية أخرى تجعلنا نتقدم في العمر، وفهمها والتحكم فيها سيسمح لنا بتحقيق قفزة كبيرة نحو حياة أطول.

البروفيسور “سيمون غالاس” يُعرّف الشيخوخة بأنها الاستنفاذ التدريجي للوظائف الحيوية

يُعرّف البروفيسور “سيمون غالاس” الشيخوخة بأنها الاستنفاذ التدريجي للوظائف الحيوية، حيث تشكل العوامل الوراثية 30% من الأسباب التي تؤثر على عمر كائن حي مثل الإنسان، بينما تعود الـ70% الباقية إلى البيئة.

يمكن تصنيف النظريات التي تفسر الشيخوخة أو كيفية برمجة العمر الافتراضي أو مدى الحياة بشكل عام إلى مجموعتين كبيرتين، هناك نظريات تطرح السؤال حول الكيفية، وأخرى تحاول تفسير السبب، وقد أدت هذه النظريات إلى اكتشافات تستند إلى دراسة دودة أسطوانية تسمى الربداء الرشيقة.

الربداء الرشيقة.. نجمة البحث العلمي الناجية من حوادث الفضاء

نعرف كل شيء تقريبا عن هذا المخلوق المسمى الربداء الرشيقة، مما يعني أن بإمكاننا التخطيط لتجاربنا عليها بثقة تامة، فهي على سبيل المثال لديها 302 من الخلايا العصبية، و959 خلية، والجينوم لديها صغير نسبيا، و60% من تركيبتها الجينية متماثلة مع البشر.

هذه المعرفة بالربداء الرشيقة جعلتها نجمة حقيقية للبحث العلمي، بل إن هذه الديدان الأسطوانية الصغيرة سافرت إلى الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية كجزء من سلسلة دراسات حول التطور والشيخوخة.

الربداء الرشيقة التي تُعتبر نجمة حقيقية للبحث العلمي

في 2003 انتهت مهمة المكوك “كولمبيا” بمأساة تركت آثارها على حكاية غزو الفضاء، فقد تدمر عند دخوله الغلاف الجوي للأرض، مما أسفر عن مقتل جميع أفراد طاقمه السبعة، بينما نجت هذه الديدان بأعجوبة من الحادث.

هذا لا يعني أن هذه المخلوقات خالدة، بل إنها ليست مرنة بالمعنى الحقيقي، ويمتد عمرها إلى 17 يوما فقط، ومن المفارقة أن قصر حياتها أدى إلى اكتشاف مهم.

أُجريت تجربة في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو في عام 1993 حاولوا فيها تعطيل أحد جينات الديدان الأسطوانية، حيث تسبب مجرد تقليل نشاط الجين على الفور في زيادة عمر الديدان الأسطوانية بواقع ضعفين. كان ذلك -ولأول مرة- إشارة إلى أن العمر مسألة مرنة، بينما الشيخوخة عملية نشطة.

فأر الخلد العاري.. قوارض صغيرة كسرت القاعدة

يستطيع العلماء تقدير متوسط العمر المتوقع للأنواع الحية بناء على عوامل عدة، أحدها هو كتلتها، وكقاعدة عامة فإنه كلما زاد وزن الحيوان زاد عمره، لكن هناك نوع واحد فاق كل التوقعات وهو فأر الخُلد العاري.

فأر الخلد العاري الذي لٌقّب بالنقانق المُسننة نظرا لشكله

تقول “لوسي فوشير” (اختصاصية في المدرسة الوطنية للبيطرة في ألفور الفرنسية التي تضم حوالي 100 من هذه القوارض) إن فئران الخلد حساسة للغاية للاهتزازات، لذا نُسمعها الموسيقي عبر الراديو حتى لا تنزعج من الأصوات الأخرى.

وتراقب “فوشير” فئران الخلد وتعتني بها، كما تقوم بإضافة قليل من الماء لكل قفص للحفاظ على مستوى رطوبة يتراوح بين 75-80%.

ويُعد قريب الفأر حيوانا ثدييا لا نظير له، وقد أكسبه شكله الاستثنائي ألقابا غير محببة، مثل النقانق المسننة، وهو مفعم بالحيوية يميل إلى الهرب، كما أنه ليس عدائيا على الإطلاق، لديه عيون صغيرة جدا، لكن عليك أن تكون حذرا، لأن لديه أسنانا طويلة أربعة منها خارج فمه.

مستعمرات الفئران.. مملكة اجتماعية فريدة تعمّر طويلا

ما أثار فضول العلماء هو النظام الاجتماعي لدى فئران الخلدي العارية، ففي العالم الطبيعي تعيش فئران الخلد العارية في مستعمرات تضم حوالي 100 فرد في أروقة مكتظة تحت الأرض.

فئران الخلد العارية تعيش طويلا جدا حوالي 35 عاما

مثلما في عالم النحل والنمل، فإن الملكة هي الوحيدة القادرة على التكاثر، وهي التي تُهيمن أيضا على المستعمرة، وفئران الخلد العارية وأبناء عمومتها فئران الخلد الدمارية هي الثدييات الوحيدة التي تتبنى هذا الهيكل الاجتماعي، وتتمتع هذه القوارض بميزة أخرى هي المقاومة المدهشة للشيخوخة والمرض.

تقول “ميلاني فيلتار” (مديرة الأبحاث في مدرسة ألفور للبيطرة) إن فئران الخلد العارية تعيش طويلا جدا، ورغم أن وزن الواحد منها 30 جراما -أي نفس حجم الفأر الذي لا يتجاوز عمره ثلاث سنوات ونصفا- فإن فأر الخلد يعيش 35 عاما، أي أطول بعشر مرات.

جلود الفئران.. مناعة ضد السرطان والأمراض الفتاكة

تخضع فئران الخلد العارية للدراسة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد دراسة عشرات المستعمرات وآلاف الأفراد منها، اتضح أنها لم تُصب قط بالسرطان، كما جرت دراسة على فئران خلد زُرعت فيها خلايا سرطانية، ولم تظهر أي أورام فيها.

يكمن السر في جلودها المتجعدة، ففي مستعمراتها الضيقة تحتك فئران الخلد بعضها ببعض، كما تحتك بجدران الأروقة، ولحمايتها من الإصابة فإن لديها وفرة من جُزَيْء يجعل بشرتها مرنة، وله تأثير ثانوي يمنح فأر الخلد مناعة ضد السرطان.

يكم السر في فأر الخلد العاري في جلودها المتجعدة التي تجلعها لم تُصب يوما بالسرطان

واكتشف العلماء أن فأر الخلد العاري يتمتع بنوع خاص جدا من حمض الهيالورونيك في جسمه، وبوزن جزئي مرتفع جدا، مما يمنح خلاياه قدرة تثبيطية لتأثير التلامس، ويعني هذا أن الخلايا لا يمكنها التكاثر بطريقة عشوائية كما تفعل الخلايا السرطانية، وهذه إحدى الآليات التي تساعدها في تجنب الإصابة بالسرطان.

كما أن فأر الخلد يُقاوم معظم الأمراض المرتبطة بالشيخوخة والكفيلة بالقضاء على الإنسان؛ فهو لا يُصاب بأمراض التنفس العصبي ولا الزهايمر ولا باركنسون، ويُقاوم أمراض القلب والأوعية الدموية، ولا يُصاب بأمراض التمثيل الغذائي التي تُعد أكبر أسباب الوفيات لدى البشر.

قانون “جومبيرت” للوفيات.. خرق القاعدة

نظرا لنظام فئران الخلد الغذائي الصحي تتمتع هذه المخلوقات المفعمة بالحيوية بمتوسط عمر متوقع مدهش لا نزال نجهل حدوده، فكيف تموت إذن؟

فئران الخلد تشترك في 93% من حمضها النووي مع الإنسان

تقول “ميلاني فيلتار” إن الأبحاث أظهرت أن فئران الخلد لا تتبع قانون “جومبيرت” للوفيات الذي يقول إننا نصبح أكثر عرضة للموت مع مرور كل عام، كما أننا عند تشريح جثث من يموت منها لا نستطيع العثور على سبب للوفاة.

تشترك فئران الخلد في 93% من حمضها النووي مع الإنسان، مما يجعلها دراسة حالة رائعة عند البحث في الشيخوخة، وكان الهدف من البحث الذي أجري عليها علاجيا، وهو اكتشاف الآليات التي تمنحها هذه المقاومة للأمراض التي تفتك بالإنسان، من أجل تطبيق مزاياها وقدراتها بشكل مباشر على البشر.

إعدام البكتيريا.. إعادة تنشيط سلاح الديدان المستورِقة

تستخدم الديدان المستورِقة خلاياها الجذعية للقضاء على جميع مسببات الأمراض البشرية، ففي اللحظة التي تُصاب فيها يُمكننا أن نرى الكثير من بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية، لكن في اليوم الثالث لن نجد كثيرا من مستعمرات هذه البكتيريا، مما يعني أن بعضها قد جرى التخلص منه، وبحلول اليوم السادس لن نجد تقريبا أي شيء يمكننا رؤيته، مما يعني أن الدودة المستورِقة تمكنت من القضاء على المكورات العنقودية، وهذه الآلية تتطلب جينات معينة.

الديدان المستورِقة تستخدم خلاياها الجذعية للقضاء على جميع مسببات الأمراض البشرية

أُعيدت التجربة باستخدام البكتيريا المسببة لمرض السل والبكتيريا الفيلقية، وفي الحالتين تمكنت الديدان المستورِقة من القضاء عليها، وبعد هذه الملاحظات حُدّد جين “مورن 2” باعتباره المسؤول عن قضاء الدودة على ذلك الخطر، وقد احتفظ البشر بهذا الجين، لكنه فقد قدرته المضادة للبكتيريا، ومن خلال تطوير علاج يستطيع إعادة تنشيطه، ويمكن أن يستعيد الجين قدرته، مما يجعله بديلا للمضادات الحيوية في حربنا ضد البكتيريا.

لتحديد جميع جينات مخلوق ما، فمن الضروري معرفة التركيب الكامل للجينوم الخاص به، وهو ما يُعرف بالتسلسل، وتسلسل نوعين من ثقيلات الحركة كان هو ما أثار الفضول العلمي.

ثقيلات الحركة.. أساليب الكائن المحب للظروف القاسية

يقول البروفيسور “سيمون غالاس” إن لثقيلات الحركة قواسم مشتركة مع جميع أشكال الحياة وليس الإنسان فقط، وهذا ما نسميه الكائن المحب للظروف القاسية، حيث يتحمل كثيرا من التحديات، لكن على عكس البكتيريا التي تختلف عنا كثيرا، فهذا الكائن الحي لا تختلف جيناته جذريا عن جيناتنا، وهذا مدهش، فباستخدام هذه الآلية تكون ثقيلات الحركة قادرة على الأداء بمستوى أعلى بكثير عندما يتعلق الأمر بالتكيّف من أجل البقاء على قيد الحياة.

“سكر تريهالوز” الذي تنتجه بعض ثقيلات الحركة عند دخولها حالة الحيوية الخفية

هناك تطبيقات يُستفاد منها من خلال ملاحظة ثقيلات الحركة والكائنات الحية الأخرى التي تحظى بقوة المقاومة، التطبيق الأول يشمل “سكر تريهالوز” الذي تنتجه بعض ثقيلات الحركة عند دخولها حالة الحيوية الخفية، ويستخدم منذ فترة في الحفاظ على الصفائح الدموية من أجل عمليات نقل الدم البشري، أو زراعة الأعضاء.

هناك استخدام آخر يتضمن البروتين الكابت للضرر، وهو بروتين وظيفته غير معروفة، فرغم أننا نعرف ما يفعله فإننا لا نعرف كيف يفعله، فربما يقوم بحماية الحمض النووي وكل شيء آخر من الأكسدة والإشعاع، لذا في المستقبل يمكن تحويله إلى مادة يمكنها حماية أي شيء في بيئة معادية مثل الفضاء.

حلم الشباب الأبدي.. سعي الإنسان الحثيث إلى تحدي الطبيعة

يمكن لدراسة هذه المخلوقات أن تفتح لنا منافذ جديدة، وتسمح لنا بتجاوز حدودنا، وبفضلها يمكننا غزو آفاق جديدة مكانية وزمانية، حيث نحلم بشباب أبدي وحياة أطول، حتى لو كان ذلك يعني تحدي الطبيعة الأم.

حاليا يُركّز بعض العلماء في المختبرات على إطالة العمر دون أمراض، أي أن أولويتنا هي القيام بشيء ما للتخلص من الأمراض التي تؤثر على مدى الحياة، وبعد ذلك فإن جعل محاولة إطالة عمر الإنسان هدفا نهائيا أو مباشرا هو أمر يواجه عددا كبيرا من الأسئلة غير المحسومة، مثل من سيستفيد من ذلك؟ وماذا سيكون مصير كل أولئك الأشخاص الذين لا يموتون؟

لقد سمح لنا العلم والإبداع البشري بالازدهار، لكن على كوكب ذي موارد ناضبة، وقد أوجد الخالق -جل في علاه- حيوانات تكيّفت مع طريقة حياة معينة مُسلّحة بأدوات لا مثيل لها تجعلها فريدة من نوعها.