خليل رعد.. تراث العدسة التي اقتحمت بيوت الفلسطينيين ومعارك العثمانيين

تروي هذه الحلقة من سلسلة “مصورو فلسطين” التي بثتها قناة الجزيرة الوثائقية قصة المصور خليل رعد الذي كان أول مصوّر عربي يفتتح استوديو في مدينة القدس.

فقد ترك هذا المصور إرثا بصريا بمثابة كنز، وعكست صوره جوانب مختلفة من حياة الناس على مدار ستة عقود، وثّق فيها النمط الحقيقي للوجود والحياة في كلّ فلسطين، وفي القدس بالذات.

تلوين الصور بالألوان المائية.. تلميذ المحترفين

ولد المصور خليل رعد عام 1869، ونشأ في القدس وترعرع فيها، وقد امتاز بغزارة الإنتاج والحرفية العالية، إلى جانب تصويره الحياة الفلسطينية بأكملها.

تتلمذ على يد المصور الأرمني “غاربيد كريكوريان”، مما أكسبه مهارة عالية في فن الفوتوغراف، وأصبح منافسا لمدير الاستوديو الذي يعمل فيه، وعرف بدقته في التقاط الصور، ولشغفه في التصوير سافر إلى بازل في سويسرا، وهناك أكمل مسيرته في تعلم فن التصوير.

افتتح خليل استوديو خاصا به عند عودته، وكان يجيد التصوير في الفضاء الخارجي، ويعدّ للصورة بشكل مكثف. تقول الفنانة التشكيلية فيرا تماري: عملت أخته معه في الاستوديو، وكانت تلون الصور يدويا بالألوان المائية.

تشير فيرا إلى صورة التقطها خليل رعد لحمالين يحملان بيانو (آلة موسيقية)، وهذه الصورة تذكّرها بلوحة الفنان سليمان منصور “جمل المحامل” لرجل مسن يحمل القدس على ظهره، وتؤكد أنه استوحى هذه اللوحة من الصور المبكرة لخليل رعد وغيره ممن صوروا الحمالين في البلدة القديمة.

خليل رعد.. صاحب أول أستوديو في فلسطين

ويرى بوعز بوكر جامع الصور أن أحد الأمور المذهلة عند خليل رعد؛ بطاقة التعريف التي كان يكتبها في الجزء الخلفي للصورة، ويذكر فيها تفاصيل الشارع وأي نوع من الصور، والملفت أنه كتب باللغتين العربية والإنجليزية، وهذا يشير إلى الفئة المستهدفة لصوره.

صناعة دعاية الجيش العثماني.. مصور رسمي للحكومة

في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت عرضت صور خليل رعد التي استطاعوا إنقاذها خلال فترة النكبة، وقد أخذت من الغرفة المظلمة الغلاس نيغاتيف والفيلم نيغاتيف.

صوّر خليل رعد في الفترة التي سبقت النكبة وفي حقبة الحكم العثماني والانتداب البريطاني، وكان مصورا رسميا للحكومة العثمانية وله علاقة مباشرة مع المسؤولين العثمانيين.

يقول المؤرخ سليم تماري: خليل رعد هو أحد المصورين القلائل الذين أقاموا علاقة مع الجيش العثماني، وتحديدا كانت له علاقة بجمال باشا الذي كان في قيادته بجبل الزيتون في مبنى المطّلع، وكان يوفد خليل رعد إلى المعارك المحتدمة بين الحلفاء والجيش العثماني في عدة مواقع منها بئر السبع وقناة السويس وسينا وغزة، وفيما بعد منطقة نابلس والقدس، والتقط رعد كما هائلا من الصور.

صوّر خليل الكثير من المباني الحكومية والمؤسسات العثمانية وتحركات الجيش

وقد كتب المؤرخ عصام نصار في كتاب “لقطات مغايرة” على صورة متخيلة لبورتريه جمال باشا الآتي: وبطريقه غريبة يرغمني هذا الشخص المصور على النظر إلى صورته، ويولد تبادل النظرات شعورا بالألفة، بحيث يصبح تحديقي إليه باعتباره موضوع الصورة وفعل إقرار بإنسانيته وحدث تبادل في الأدوار، أحدق إليه وهو يبادلني النظرات، فيضطرني لا إلى القبول بوجوده فحسب، بل إلى تكوين رابط معه كما يبدو لي في اللحظة الراهنة، وتقدم لي صوره حقيقة بسيطة عنه أنه موجود أمام الكاميرا ينظر إلى العدسة محدقا، وبالتالي ينظر إلي كوني أنظر إليه، وكانه يخبرني شيئا ما.

مع تحركات الجيش العثماني

صوّر خليل الكثير من المباني الحكومية والمؤسسات العثمانية وتحركات الجيش، وله صور دعائية جميلة للجيش العثماني. يقول سليم تماري: وجدنا 40 صورة دعائية للجيش العثماني التقطها خليل رعد، وطبعت بشكل ملصقات وبطاقات حول مشاهد مختلفة في الدفاع عن فلسطين، من بئر السبع جنوبا حتى نابلس شمالا، مرورا بالقدس، وقد وثقت صور مصانع الإنتاج الحربي، وعندما اكتشفها الجيش البريطاني أثناء اقتحامه لاستوديو رعد قاموا باعتقاله وسجنه، وقد وجدت هذه المجموعة في مجموعة صور لعسكري بريطاني، وهو الكولونيل “ساندرز” في جامعة أكسفورد، وقد حصلنا عليها.

حجاج المسيحيين.. طقوس تاريخية ومظاهر حضارية

صور خليل رعد مناحي الحياة الفلسطينية بتنوعها الديني للمسلمين والنصارى واليهود والمساجد والكنائس ورجال الدين، كان يحضر عنده أناس عاديون ويلبسهم الملابس التقليدية ويوقفهم بطريقة تشبه حياة المسيح والعذراء، وصور ولادة المسيح ويوسف والعذراء بمشهد تمثيلي وكأنهم يجلسون في بيت لحم القديمة، وكان يروج بذلك للفكر المسيحي لأنه كان يبيع تلك الصور للحجاج المسيحيين القادمين إلى القدس.

صورة لبعض الحجاج المسيحيين الذين يزورن فلسطين

كما نقل خليل رعد صورة الحضارة في فلسطين، فصور السكة الحديد التي مرت بمرفأ يافا كما صور الطبقات المختلفة في المجتمع الفلسطيني.. صور الفلاحين والبيوت والقصور والخانات والمدارس، وكانت صوره بمثابة مسح خرائطي، وهي تاريخ محفوظ لفلسطين في تلك الفترة بمدنها وقراها.

وتذكر فيرا تماري أن صورة مقام النبي موسى توثق كيف كان الفلسطينيون يتوجهون للمقام بالقرب من مدينة أريحا، حيث يخرجون من باب الأسباط حاملين الأعلام، وكان لكل مدينة علم.

وفي إحدى الصور يظهر بيرق القدس الذي كان ينطلق من الأقصى. وكانت كل عائلة تحمل علما ويخرجون مسيرة تصادف وقت عيد الفصح عند النصارى، وتستمر تلك المراسم أربعة أيام تقدم فيها العائلات الطعام ويحتفلون ويغنون.

برتقال يافا المصدر.. رصد الطبيعة والحياة الاقتصادية

اهتم خليل رعد بجمال الطبيعة فالتقط صورا كثيرة للطبيعة الصماء في فلسطين، والتقط صورا متنوعة لمدن متعددة مثل يافا وحيفا وعكا والقدس، وقام بتصوير قطف البرتقال في يافا وعملية تحضيره للشحن ووضعه بصناديق كتب عليها “جافا أورنج” (برتقال يافا).

بيارات البرتقال اليافاوي.. صورة قبل التلوين وبعده

يقول عصام نصار: صورة قطف البرتقال في يافا -التي لوّنت لاحقا- قد نشرت في عدد من الكتب وتحولت لأيقونات، وقد ارتبطت يافا بالمخيلة الفلسطينية ببرتقالها الذي صدّر للخارج، تماما كما تفعله المؤسسة الصهيونية اليوم، ولكن كمنتج يهودي، وقد وثق للحياة الاقتصادية كالزراعة والحصاد وقطف الزيتون وصناعة الصابون والتغليف وحمل البضائع في البواخر.

صناعة ذكريات السياح والسكان.. غزو مخيلة الزبون

كان لخليل رعد اتجاهان في العمل، أحدهما كان لخدمة السياح الأجانب والحجاج، فكان يحصر صوره بكتالوج يستطيع السائح اختيار الصورة التي يريدها منه، وكانت هذه الصور تحاكي المخيلة الإنجيلية التوراتية والاستشراقية.

صورة لبعض السياح الذين ألبسهم خليل رعد الزي الفلسطيني

يقول “بوعز بوكي”: أريد أن أؤكد بشكل أساسي أهمية كتالوج خليل رعد الأقدم الذي يعود لعام 1913، وهو بالفعل قديم، فقد قام ببناء الكتالوج من مكان مختلف تماما عن الكتالوج الثاني العائد لعام 1928 بفارق 15 عاما. فالمصور الفوتوغرافي يواصل تخزين الصور، وهو بالنسبة له كالبعد بين السماء والأرض، وبكل بساطة قام بتوسيع الكتالوج الثاني، وهذا عمل رائع.

وأما الاتجاه الثاني الذي اتبعه خليل فكان في تقديمه خدمات محلية، إذ كان يذهب الناس إليه ببورتريه خاص بهم، أو يذهب إليهم يقوم بتصويرهم في البيوت.

“لم يكن أحد يتوقع أن تتحول إلى أرشيف ضخم عن حياة الفلسطينيين”

وهذا ما كتب عنه إدوارد سعيد في مذكراته للصورة العائلية بالقدس التي كانوا يأخذونها كل عام، حين كان يذهب إلى بيوتهم، فتتحضر العائلة ويصطفون بترتيب معين، وكان خليل يخلق تشكيلا معينا للصورة. يقول إدوارد سعيد: بدا وكأن كاميرا والدي تفوقت على كاميرا خليل رعد بأرجلها الثلاث، حيث كان يدعو عمتي وأولادها إلى كل المناسبات العائلية. وكان خليل يحتاج إلى مزيد من الوقت عندما كان يستعد لتصوير تجمع عائلي، فلم يكن أحد يتوقع أن تتحول صور رعد إلى أرشيف ضخم عن حياة الفلسطينيين قبل نكبة عام 1948.

قطف الورود في فصل الربيع بعدسة خليل رعد

وهناك أكثر من وصف لرحالة ذهبوا للأستوديو الخاص بخليل، ووصفوا كيف كان يلبسهم اللباس العربي، وكان الغربيون يستسلمون له، فمثلا يظهرهم بصورة شيخ العرب أو الحاج أو السيدة البدوية.

تقول هالة زين عابدين أمين موسسة الدراسات الفلسطينية: صور خليل رعد ليست صورا عادية، فأنا أشعر بمسؤولية تجاه النيغاتيف للصورة الذي بحوزتي، إذ يجب المحافظة عليه أثناء التنظيف والطباعة، كما أننا نخاف على الغلاس نيغاتيف أن يُكسر، فلو كسر لا نستطيع الاستفادة منه بعد ذلك، وكذلك الحال إذا ثقب نيغاتيف الفيلم، فهو تماما مثل شخص عزيز أريد أن أبقيه للتاريخ حتى لا يندثر، وأي شيء يوثق لفلسطين هو كنز ونحن نفتخر بهذا الكنز. ولدينا مجموعة كبيرة من ثلاثة آلاف صورة تخدم القضية والشعب الفلسطينيين، وعلينا أن نضيء على أي شيء يثبت وجودنا بالأرض.

بيت فلسطين.. متحف متعطش للتراث المصور

يقول عصام نصار: بقصد أو بدون قصد، وثق خليل رعد حياة المدينة وجزءا مهما من فضائها. فعندما نتذكر فلسطين نتذكرها بشجرة الزيتون، لا بشجرة البرتقال التي تعبّر عن المدينة والصناعة، وهي ذات طابع مدني، وقد اهتم رعد بتصويرها.

وفي بيت فلسطين لرجل الأعمال منيب المصري، يظهر كثير من القطع الأثرية، ويريد منيب أن يضم إلى مجموعته تلك الصور لخليل رعد سواء لبيت فلسطين أو للمتحف.

كان لعائلة إدوارد سعيد صورة سنوية يلتقطها خليل رعد

يذهب “بوعز بوكي” ويلتقي بمنيب في بيت فلسطين، فيسأله منيب عن عدد الصور التي يمتلكها، ولأي فترة تنتمي. يُري “بوعز” الصور لمنيب، ويقول له إن من المدهش أن معظمها ملون، مما يجعلها فريدة.

لقد قام خليل رعد بالرسم والتلوين على الصور، ولدى “بوعز” ما يقرب مئتي صورة زجاجية، ويسدل ستار الفيلم على منيب وهو يقول: دعني أخبرك، إذا كنت مستعدا لأن تبيع.. فأنا سأشتري.