داخل الفاتيكان.. هل يُصلح البابا ما أفسده قساوسة التحرش الجنسي؟

خاص-الوثائقية

“صور تعرض لأول مرة من داخل الفاتيكان”.. بهذه العبارة الجذابة تنطلق رحلة وثائقية ممتعة، جمعت بين الجماليات البصرية والمضمون غير المسبوق والقضايا الشائكة.

سلسلة “داخل الفاتيكان” (Inside the Vatican) لشبكة “بي بي سي” البريطانية، والتي عُرضت الحلقة الأولى منها بعد ستة أشهر من التصوير، وصلت إلى بعض المرافق داخل الفاتيكان التي لم تُفتح أبدا في وجه العموم.

ويفخر معدو الفيلم الوثائقي في مقدمتهم التعريفية بهذا العمل، بأنهم أول فريق تصوير يصل إلى المحيط الضيق لبابا الفاتيكان ولغرفة عملياته، وطيلة 52 دقيقة تنتقل الكاميرا من البابا إلى رئيس فريقه الأمني، إلى دار رعاية المشردين، إلى الفريق المكلف بالحدائق داخل الفاتيكان، والفريق المسؤول عن العلاقات الخارجية في الفاتيكان، والمسؤولين عن الإعلام داخل هذه الدولة المصغرة.

 

ولم يسبق لأي عمل وثائقي أن تمكن من عرض صورة شاملة عما يدور خلف الستار قبل الوصول لذلك المشهد المعهود؛ عندما يطل بابا الفاتيكان على عشرات الآلاف من المسيحيين القادمين من مختلف مناطق العالم للإنصات لموعظة البابا.

الكنيسة.. صورة جديدة

الفاتيكان في هذا الفيلم ليست مجرد قبلة روحية يقصدها الملايين من معتنقي الديانة المسيحية، وإنما هو مؤسسة مؤثّرة في العالم ولها علاقات دبلوماسية وسياسات خارجية وجيش من الموظفين في قطاعات مختلفة.

وينحت الفيلم على مهل صورة واضحة الملامح عما يدور في هذه المؤسسة، وهو ما لم يكن ليتحقق لها دون وجود رغبة حقيقية لدى الفاتيكان في الانفتاح على العالم وخصوصا المسيحيين، فجزء من هؤلاء اهتزت ثقتهم في مؤسستهم الدينية بعد توالي الفضائح الجنسية التي تورط فيها رجال دين كبار داخل الكنيسة الكاثوليكية، طالت المربع الضيق للبابا.

وتعكس الحلقة الأولى من هذه السلسلة رغبة في تقديم صورة جديدة عن الكنيسة؛ تنفيذا لسياسة يتبعها البابا فرانسيس منذ وصوله لهذا المنصب، فالرجل يقود حملة تواصلية عالمية لاستعادة الثقة في مؤسسته، وقد وجد نفسه محاصرا بفضائح جنسية لا حصر لها.

هل هذا معناه أن الفيلم هو عبارة عن منتوج علاقات عامة للفاتيكان؟

 

من الصعب قول ذلك خصوصا بالنسبة لجهة منتجة معروفة بالمهنية، لكن ما يمكن التوصل إليه من خلال متابعة البناء التسلسلي لهذا العمل، أنه ينطلق من فكرة كسر الكثير من الصور النمطية التي تشكلت عن مؤسسة الفاتيكان وعن شخصية الكاردينال، ويعمل على أنسنة رجال الكنيسة، حيث نشاهد شخصيات كبيرة في الفاتيكان وهم يتعلمون دروس الموسيقى، وفي محيطهم الأسري وهم يعدون وجبات الغذاء لأنفسهم.

ويظهر عبر تصريحات كبار الكنيسة أنهم واعون جيدا لحجم الضرر اللاحق بهم وبصورة مؤسستهم من خلال توالي الفضائح الجنسية داخل بعض الكنائس، ولهذا تبدو الصرامة والاستنكار على محيا كل من يتطرق لهذه القضية.

داخل أصغر دولة في العالم

يدرك القائمون على إنجاز هذا الوثائقي أنه يُعرض في ظروف تاريخية لم تمر بها الكنيسة من قبل، ولهذا فهم حريصون على أدق التفاصيل في تقديم المعلومات، مع الاتكاء وبشكل كبير على الإبهار البصري، وعرض لقطات لبعض القاعات داخل الفاتيكان واللوحات والأعمال الفنية التي لا يتاح عادة للزوار الاطلاع عليها، ولهذا يتولد لدى المشاهد إحساس بأنه في رحلة سياحية خاصة تقربه من التحف النادرة التي تغص بها جنبات الفاتيكان.

واختار الفيلم لحظة مهمة في وجدان المسيحيين، وهو التحضير لأعياد الفصح التي تعتبر من أهم المناسبات في المعتقد المسيحي، وفيها يخاطب البابا فرانسيس عشرات الملايين من المسيحيين عبر العالم.

لا يغفل الفيلم عن أي تفصيل في الطريق نحو هذا اليوم، من الفرقة الموسيقية إلى تحضير الساحة الكبرى إلى تنظيف وصيانة كل التحف في القاعات المركزية.

الفيلم سرد مصور للحياة داخل أصغر دولة في العالم، والملاحظ من خلال التركيز على الأضواء والألوان وزوايا التصوير؛ أن الفيلم يحاول أن يطرد ذلك الاعتقاد الراسخ عند البعض بأن الكنائس هي أماكن مظلمة ومغلقة وميتة لا حياة فيها.

لا يحفل الفيلم بالكثير من المعلومات أو الوثائق غير المسبوقة، بقدر تركيزه على كتابة قصة مصورة، والتركيز على التجارب الإنسانية لكل العاملين داخل الكنيسة؛ لإيصال فكرة مفادها أن هؤلاء أشخاص عاديون ويزاولون مهامهم بكل فخر واعتزاز خدمة للكنيسة.

ومن بين الشخصيات يعرض الفيلم لقاء مع الكاردينال “بول كالاغير” الماسك بمكتب العلاقات الخارجية للفاتيكان (بمثابة وزير الخارجية)، وهو شخصية دينية تنحدر من مدينة ليفربول البريطانية.

 

 

وبطريقة لماحة وخفيفة الظل، يقدم لنا العمل الوثائقي صورة جديدة عن الكاردينال بعيدا عن صورة رجال الدين الجامدين العابسين الذين يحيطون أنفسهم بهالة من الصمت والقداسة وخطاهم ثقيلة، فالرجل يبدو مرحا يتحدث بأريحية عن ميوله الرياضية والموسيقية، وعن جسامة المهمة الملقاة على عاتقه لربط علاقات دبلوماسية مع العشرات من الدول، وفي ذلك إحالة إلى القوة الدبلوماسية للفاتيكان، وبأنها طرف لا يستهان به في العلاقات الدولية، كما أنه القبلة الروحية لمئات الملايين من الناس.

يظهر الكاردينال البريطاني في غاية البساطة وهو يتحرك في المطبخ الخاص به ويعد القهوة لنفسه، والأمر نفسه ينطبق على غرفة نومه ومكتبه، والقاسم المشترك بينها هو البساطة، فلا وجود لخدم أو مساعدين، ولا يكلّ الكاردينال من تكرار أنه لا يملك كل هذه الأشياء وإنما هي ملك للكنيسة، وفي ذلك رد على أن القابضين على حكم الفاتيكان ينعمون بثروات لا حدود لها ويحتكرون موارد الكنيسة ويستفيدون منها، وذلك بعد فضيحة قضايا فساد مالي بالملايين سنة 2012.

الرد على هذا الاتهام يتحقق أيضا من خلال عبور الفيلم نحو المحرومين الذين يعيشون على مساعدات الفاتيكان، وكيف أن هذه المؤسسة توفر وجبات الغذاء والأطعمة للمئات من المشردين بغض النظر عن ديانتهم، ولإنجاح هذه المهمة تجند الكنيسة عشرات الراهبات، وتُقدم الخدمة بشكل يومي دون توقف.

ينقلنا الفيلم الوثائقي في رحلة للتعرف على الحياة داخل الفاتيكان، وكيف أنه يضم في جنباته موظفين من مختلف الأصقاع، ومنهم من لا خلفية دينية له؛ مما يعني أن الفاتيكان مكان مفتوح أمام الجميع وليس حكرا على طبقة دون غيرها، مع التركيز على وجود الشباب المكلف بمواقع التواصل الاجتماعي ودورهم المهم في تعزيز حضور المؤسسة وزعيمها في العالم الافتراضي.

“ثورة” البابا فرانسيس

يضع الفيلم الوثائقي شخصية بابا الفاتيكان “البابا فرانسيس” في القلب من العمل، لكنه الحاضر الغائب، فلا وجود لأي تصريح له أو مقابلة معه طيلة مدة الفيلم. والأمر لم يكن اعتباطا بقدر ما هو رغبة في الاحتفاء بالفاتيكان والرجال حول البابا دون تكثيف المشهد كله في شخصية البابا، رغم أن جميع من تمت مقابلتهم يتحدثون عن الرجل وعن التغييرات الجذرية التي أحدثها منذ وصوله لقمة هرم الكنيسة الكاثوليكية.

تتابع الكاميرا البابا فرانسيس عن قرب، وتلتقط تعامله مع المحيطين به ومع الناس العاديين، مع الحرص على الحفاظ على مكانته الدينية وتقديمه للمشاهد بما يليق بمنصبه، وتصب جميعُ الشهادات في حقه بأنه يختلف عن غيره.

 

ومن المشاهد المثيرة والمشحونة بالعواطف في هذا العمل؛ اللقطات التي يقوم فيها البابا فرانسيس بغسل أقدام بعض المحرومين والمشردين، ويقوم بتقبيلها في طقس يهدف منه إلى تطهيرهم، ومن بين هؤلاء شاب يدعى عليّ الذي يحكي تجربته مع البابا، وكيف أنه ذُهل من هذا المشهد وهو الذي كان في البداية يعتقد أنه هو من سيغسل أقدام البابا، لكن الذي حدث هو العكس.

تركز المشاهد الخاصة بالبابا على مكانته الروحية، خصوصا ذلك المشهد المهيب عندما يطل من شرفة نافذته لإلقاء خطابه أمام الناس، وينقل الفيلم بحساسية عالية كيف يتابع الحاضرون هذا الخطاب، وكيف يتحينون الفرصة لإلقاء السلام على زعيمهم الروحي.

البابا “المنفتح”

في كل محطات هذه الرحلة في الفاتيكان، ننتقل من قاعة لأخرى ومن شخصية لشخصية بطريقة سلسة وهادئة، وفيها الكثير من الانسيابية والربط الفني بين الصور والنص والحفاظ على نفَس سردي لا يثير أي ملل لدى المشاهد، قبل أن يرتفع إيقاع الصور وحدّة الخطاب عندما يناقش الفيلم أفكار البابا فرانسيس.

وعبر اللقاء مع عدد من الخبراء في الدين المسيحي، يظهر أن سياسة الرجل المنفتحة ومواقفه في العديد من القضايا فيما يخص الشذوذ والإلحاد والعلاقة مع بقية الديانات -حيث يتجنب البابا مهاجمة الملحدين أو الشاذين- مواقف تجر عليه حسب ما يظهر في الوثائقي غضب التيار المحافظ في الكنيسة الذين يرون أنه يُفقد الكنيسة هيبتها ويخون مبادئها.

"صفر تسامح" هو الشعار الذي رفعه البابا فرانسيس بخصوص الجرائم الجنسية بحق الأطفال
“صفر تسامح” هو الشعار الذي رفعه البابا فرانسيس بخصوص الجرائم الجنسية بحق الأطفال

 

وقد يدفع ذلك البعض إلى الاعتقاد بأن الوثائقي يميل للدفاع عن البابا وسياسته، وإظهاره بأنه يحارب على أكثر من جبهة لتخليص الكنيسة من “المتطرفين”، وبالتالي فهو يستحق الدعم وليس الهجوم عليه، وهنا يجب عدم إغفال أن الفيلم يتم تقديمه في المقام الأول للمشاهد الغربي المعني الأول بالجدل حول الكنيسة وتسترها على الفضائح الجنسية.

الفضائح الجنسية.. لا صمت بعد اليوم

“صفر تسامح” هو الشعار الذي رفعه البابا فرانسيس، بعد توالي الكشف عن فضائح استغلال شخصيات كبيرة في الكنيسة لمناصبها في ارتكاب جرائم جنسية بحق الأطفال.

كان أمام البابا خياران: إما الاستمرار في حالة الصمت والإنكار والتعامل مع هذه القضايا وكأنها قضايا معزولة، أو مواجهتها والخروج إلى العلن والاعتراف بالخطأ.

وقد مال البابا للخيار الثاني وهو يتابع كيف أن سمعة الكنيسة باتت على المحك لدرجة خروج عدد من الاحتجاجات ضد ممارسات بعض القساوسة، واتهامات التستر على هذه الجرائم.

وبالوصول إلى هذا الملف الحارق، يتحول الفيلم الوثائقي إلى طابع الصرامة، عبر مقابلة عدد من المتدخلين الرئيسيين في تنفيذ السياسة الجديدة للفاتيكان في عدم التسامح مع جرائم الاغتصاب والاستغلال الجنسي.

الوثائقي سلسلة عرضت منها الحلقة الأولى فقط، وتطلّب تصويرها ستة أشهر
الوثائقي سلسلة عرضت منها الحلقة الأولى فقط، وتطلّب تصويرها ستة أشهر

 

ومن بين الشخصيات الذين تمت مقابلتهم قساوسة يحملون شهادات عليا في الطب النفسي، وهم ينظمون محاضرات ولقاءات لصالح رجال الدين، أولا لحثهم على عدم التساهل مع أي شبهة للاستغلال الجنسي في الكنيسة، وثانيا لتحقيق المتابعة النفسية لرجال الدين المسيحيين.

لا يحاول الفيلم إدانة الكنيسة بقدر ما يُظهر أن هناك أخطاء جسيمة ارتُكبت، ويجب التعامل معها بجدية، وهذه المهمة (أي مهمة الوثائقي) غرضها ليس إقامة محاكمة لأي ظاهرة أو شخصية بقدر ما هي عرض للظاهرة من مختلف جوانبها.

البابا.. في مواجهة الفضائح

وعلى الأقل في الحلقة التي تم عرضها يظهر أن ملف الاستغلال الجنسي لم يُرَد له أن يكون الملف الرئيسي، وألا يخدش تلك الصورة المبهرة التي أبدع القائمون على المحتوى في تقديمها.

وكما ذُكر في البداية؛ فإن الكنيسة دخلت في حملة دبلوماسية وعلاقات عامة، ولهذا يحرص جميع المتحدثين التأكيد على صرامة البابا وبأن ما حدث في الماضي لن يتكرر أبدا.

وبتتبع الإجراءات التي قام بها في هذا الملف، يظهر أن الرجل تحلى بالكثير من الشجاعة مقارنة بسابقيه، أولا بالاعتراف بالظاهرة، وثانيا من خلال تنظيم مؤتمر عالمي حضره كبار الأساقفة من مختلف مناطق العالم لمعالجة الأمر، كما استضاف ضحايا الاستغلال الجنسي، وأعفى عددا من الأساقفة المشتبه بتورطهم في هذه القضايا.

المشاهد الخاصة بالبابا تركز على مكانته الروحية
المشاهد الخاصة بالبابا تركز على مكانته الروحية

 

وما عاد أمام البابا خيار غير اتباع هذه السياسة، وهو الذي كادت أن تلفحه نيران هذا الملف الثقيل بعد اتهامه من طرف رئيس أساقفة واشنطن بكونه تجاهل العديد من الرسائل التحذيرية التي تنبه لحدوث قضايا استغلال جنسي في الكنيسة من الكاردينال ماكاري أحد أرفع الكهنة الكاثوليك الذين يواجهون اتهامات بالاستغلال الجنسي.

في الحاجة للمزيد

تقدم شبكة “بي بي سي” عملها الوثائقي على أنه سلسلة عرضت منها الحلقة الأولى فقط، وتطلّب تصويرها ستة أشهر.

وبعد مرور أكثر من شهر على عرض الحلقة الأولى، يظهر أن هذه السلسلة ستكون وثيقة للتاريخ عما يحدث داخل أسوار الفاتيكان. وما اختيارها ختم الحلقة الأولى بالحديث عن قضايا الاستغلال الجنسي، إلا رغبة في تحقيق التشويق للحلقات المقبلة التي ربما قد تحمل معطيات أكثر عن التعامل مع هذا الملف.

وتعتبر هذه الحلقة مرجعا لكل باحث يريد معرفة طريقة تسيير الأمور داخل هذه المؤسسة الدينية المثيرة للجدل.