رحلة إلى المشتري.. البحث عن الحياة حول أعظم كواكب المجموعة الشمسية

حسن العدم

يعتبر المشتري أكبر كواكب مجموعتنا الشمسية، وكتلته تفوق ضعف كتلة باقي الكواكب مجتمعة، وقد عرّفه الرومان القدماء على أنه تجسيد سماوي لجوبيتير ملك الآلهة، تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا.

وقد عرضت الجزيرة الفضائية ضمن سلسلتها عن رحلات الفضاء فيلما بعنوان “رحلة إلى المشتري”، فرصدت فيه اهتمام البشر منذ القدم بهذا الكوكب العملاق، والرحلات التي قام بها الإنسان الحديث لكشف أسراره.

 

 

نقض مركزية الأرض.. الخطوة الأولى إلى السماء

في العام 1610 رأى العالم الفلكي الإيطالي “غاليليو” أقمار المشتري وهي تدور حوله، وذلك بواسطة تلسكوبه الأحدث آنذاك، وبذلك فقد أسقط معتقدات الكنيسة أن الأرض هي مركز الكون وأن كل الأقمار والكواكب تدور حولها.

ورغم أن رؤيتنا للمشتري تحسنت بفضل التقنيات الحديثة للتلسكوبات، إلا أن “جاري بلاندرو” -وهو طالب دراسات عليا يعمل في مختبر الدفع النفاث في ناسا- توصل عام 1964 إلى شكل تقريبي لمواقع الكواكب وأقمارها، وهو أمر سوف يسمح بأحسن رؤية لمجموعة كواكب المشتري وزحل وأورانوس ونبتون.

وقد اقتنصت ناسا هذه الفرصة وعملت على إطلاق مركبتين فضائيتين، في ما عرف لاحقا ببرنامج الجولة الكبرى، إحداهما “بيونير10” والثانية “بيونير11″، وكانت مهماتهما استباق مهمة الجولة الكبرى، واكتساب معرفة مسبقة عن طبيعة الأجواء حول المشتري.

أطلقت “بيونير10” نحو المشتري في مارس/آذار 1972، وكانت أول مركبة تعبر حزام الكويكبات بين المريخ والمشتري، ولأنه أول مسبار سوف يتخطى حدود المجموعة الشمسية فقد جرى تزويده بلوحة تبين مصدر إطلاقه، وفي ديسمبر 1973 أرسلت “بيونير10” صوراً أوضح من أي صور سابقة لكوكب المشتري.

مع اقترابها من المشتري، واجهت “بيونير10” حزما من الإشعاعات الأيونية تفوق في قوتها الحزم التي حول الأرض بعشرة آلاف مرة. هذا وقد اكتسب المسبار سرعة إضافية نتيجة مروره بمحاذاة الكوكب العملاق، فعندما انطلق من مداره حول الأرض كانت سرعته 51,000 كم/ساعة، بينما زادت سرعته إلى الضعف عندما غادر المشتري.

مركبة فوياجر انطلقت منذ عام 1977 وهي سائرة في الفضاء حتى اليوم وفي أول طريقها زارت المشتري

 

برنامج الجولة الكبرى.. طواف حول الكوكب العملاق

في الجولة الكبرى وقع تجهيز المركبتين “فوياجر1″ و”فوياجر2” في قاعدة “كيب كانيفيرال” للإطلاق، وعند ورود أخبار الإشعاعات الكثيفة أجريت تعديلات على المركبتين “فوياجر”، وذلك بتغليف الوصلات الكهربائية الحساسة بمادة القصدير لتخفيف تأثير الإشعاعات.

أطلقت “فوياجر2” في أغسطس عام 1977، وكان مسار الرحلة يتضمن زيارة المشتري وزحل وأورانوس ونبتون، وبعد 16 يوما انطلقت “فوياجر1” بمسار مختلف يتضمن المشتري وزحل وبعض الأقمار، وكانت المركبتان في قمة التكنولوجيا آنذاك، حيث زودت بالمولدات الكهروحرارية التي تعمل بالنظائر المشعة للبلوتونيوم.

في يناير1979 اقتربت “فوياجر1” وبدأت بإرسال صور للمشتري توضح أنه أكثر حيوية وتعقيدا، وأن البقعة الحمراء العظيمة إنما هي عاصفة دوارة مستمرة. وقد حققت “فوياجر”1 أدنى اقتراب في مارس 1979.

وكان من أهم إنجازات المركبتين هو الاطلاع عن قرب على أقمار “غاليليو”، وما بدا سابقا أنه نقاط مضيئة، تبين أنه يمثل أربعة أقمار مختلفة، أولها كان القمر الأصغر “آيو” الذي يشبه سطحه الكبريت، وكان نشاطه البركاني لا يهدأ.

في يوليو 1979 حققت “فوياجر2” أدنى مسافة لها من المشتري، ورصدت عدة أقمار عن قرب أكثر من شقيقتها “فوياجر1″، وكانت المفاجأة التالية قمر “يوروبا” الذي تميز بسطحه الجليدي العاكس، وهو يكتسب حرارته بفعل المد والجزر مثل شقيقه “آيو”.

يمتلك كوكب المشتري أكبر عدد من الأفمار، بعضها كبيرة وأكثرها صغيرة جدا

 

“يوليسيز” و”غاليليو”.. سباق أمريكي وأوروبي إلى المشتري

مع اقتراب “فوياجر2” من زحل كان عند العلماء معلومات كثيرة عن المشتري ينبغي تبويبها، ولم تتسنّ لهم معرفة معلومات أكبر وأدق عن هذا الكوكب العملاق قبل عشر سنوات قادمة أخرى، عندما انطلق زائر آخر من الأرض باتجاه المشتري.

كان ذلك في أكتوبر 1990 عندما رفع المكوك “ديسكفري” المركبة الأوروبية “يوليسيز” إلى المدار الأرضي المنخفض، ومن هناك انطلقت في مهمة لرصد الشمس، حيث تدور كل الكواكب حول الشمس في نفس الاتجاه، وعلى نفس المستوى تقريبا، والذي أطلق عليه اسم الإهليلج. ولكن قبل ذلك سوف تمر بالمشتري.

في مختبر الدفع النفاث في ناسا كان يجري تطوير مسبار جديد أطلق عليه اسم “غاليليو”، وستكون أول مركبة فضائية تتخذ مدارا حول المشتري، وقد أطلقت في أكتوبر عام 1989 على متن مكوك الفضاء “أتلانتس”، ودارت حول الأرض مرتين أولاهما في ديسمبر 1990، لتكتسب طاقة أكثر من خلال الجاذبية، قبل أن ينقضي عام آخر حتى تمر بالأرض للمرة الثانية.

ويبدو أن تأخر انطلاق المركبة لثلاث سنوات نتيجة انفجار المكوك “تشالنجر” أدى إلى حدوث أعطال نتيجة التخزين الطويل، ومن هذه الأعطال عدم انتشار الهوائي الضخم الذي كان مقررا نشره لإرسال كمية أكبر من المعلومات بسرعة أكبر، وقد اعتمد العلماء على الهوائي الثانوي الأصغر، حيث السرعة في نقل المعلومات أقل بكثير.

البقعة الحمراء العظيمة أعظم وأجمل معالم كوكب المشتري وهي إعصار عظيم في غلافه الجوي

 

قلب الغلاف الجوي.. اختراق أسوار المشتري

في يوليو 1995 وقبل ستة أشهر من أدنى اقتراب لها من المشتري، أطلقت “غاليليو” مسبارا أصغر للدخول إلى الغلاف الجوي للمشتري وأخذ عينة منه لدراستها لاحقا، وقد أظهرت النتائج صعوبة العثور على بخار ماء في العينة، بينما ظهرت عينات من الهيليوم بمستويات أدنى من المتوقع، وتعرض خلالها المسبار للحرارة والبرودة الشديدتين.

بعد ذلك دخلت المركبة إلى الغلاف الجوي للمشتري، وأصبح بالإمكان رصد أكبر أقمار المشتري “غانيميد”، وهو يتمتع بمجال مغناطيسي هائل لا يتوفر لأي كوكب من المجموعة الشمسية، ومحيط بين طبقتين من الجليد.

وأمكن كذلك رصد معلومات أكبر عن القمر “يوروبا” حيث دلت الإشارات الواردة على وجود محيط مالح تحت السطح الجليدي للقمر، وأمكن كذلك رصد أعمدة هائلة من بخار الماء فوق سطح ذلك القمر، حيث قُدر أن الماء هناك أكثر من الماء الموجود على سطح الأرض، مما يجعله مناسباً للحياة، وعلى القمر “آيو” أمكن رصد براكين بحرارة أعلى من أي درجة على سطح الأرض.

خلال ثمانية أعوام في المدار، أكملت “غاليليو” 35 دورة حول المشتري، وأمكنها جمع معلومات هائلة عن نظام المشتري، وقد أهّلتها قوتها لمقاومة الحزم الإشعاعية التي كانت تهاجمها، كما ساهمت البيانات في إجراء تحسينات على الزائر الجديد الذي سيغزو المشتري.

مهمة “جونو” لاستكشاف المشتري وأقماره انطلقت عام 2011 واستمرت خمس سنوات

 

مسبار “جونو”.. خريطة ثلاثية الأبعاد

في أغسطس 2011 بدأ المسبار “جونو” رحلته التي استمرت مدة خمس سنوات إلى المشتري، وقد جرى تعديل مساره ليتجاوز الأقمار ويتوجه مباشرة إلى المشتري، كما جرى تجهيز الحاسبات والأجهزة الحساسة بدرع من التيتانيوم لحمايتها من الإشعاعات، وبدلا من نظائر البلوتونيوم اعتمد “جونو” على الألواح الشمسية العملاقة لتزويده بالطاقة.

في يوليو 2016 بدأ الاحتراق في المحرك، ليصل “جونو” إلى أدنى ارتفاع له على سطح المشتري، ثم ليستقبل الفريق على الأرض معلومات تفيد أن “جونو” قد أتم مهمته بنجاح.

من خلال التجهيزات المتطورة التي زود بها “جونو” أمكن رسم خريطة ثلاثية الأبعاد لسطح المشتري تحت طبقة الغيوم الكثيفة التي تحيط به، وبناء صورة لكامل الكوكب أثناء دورانه، بيد أن مشاكل واجهت “جونو” في آلية تخزين المعلومات ونقلها، مما أعاد إلى الأذهان مشكلة الإشعاعات التي واجهت “غاليليو”، ولكن تبين أن هنالك مشكلة أخرى أدت إلى ضياع المعلومات، مع بقاء المركبة سالمة تماما.

ومن خلال “جونو” استطاع العلماء رصد الأعاصير الرئيسية والمضادة على قطبي الكوكب بدقة، حيث في جزئه الشمالي ثمانية أعاصير مضادة تتمحور حول إعصار مركزي، بينما توجد في الجزء الجنوبي خمسة أعاصير مضادة.

كما أمكن رصد الإعصار الأحمر العملاق جنوب خط استواء المشتري، وجرى أيضا تسجيل أعظم مجال مغناطيسي لكوكب في المجموعة، وأثر ذلك المجال في التأثير على أجهزة الاتصالات والأنظمة الإلكترونية الحساسة.

مهمة “يوروبا كليبر” من المتوقع أن تبدأ نشاطها حول المشتري وقمره “يوروبا” في 2022

 

قمر يوروبا.. رحلة البحث عن الماء في أكناف المشتري

يطمح العلماء إلى أن تركز الرحلة القادمة على قمر “يوروبا” كونه القمر الذي يعتقد أنه يحتوي على مقومات الحياة مثل الأرض، وقد أطلقت “يوروبا كليبر” لتقوم برحلات متكررة إلى القمر “يوروبا” في عام 2022، حيث سيحلق هذا المسبار حول القمر “يوروبا” كل أسبوعين.

يعتقد أن سُمك الطبقة الجليدية على القمر “يوروبا” يبلغ 19 كيلومترا، غير أنه لا بد من قياسات دقيقة لاكتشاف أقل المناطق سمكا، وذلك من أجل اختراق الطبقة الجليدية، حتى يصل العلماء إلى المحيط المائي العملاق تحتها.

كما يتوقع أن تركز رحلات أخرى على أقمار أخرى في هذا الكوكب العملاق، وهو الكوكب الذي يؤثر بشكل فعال على باقي كواكب المجموعة لكونه أكبرها، فكتلته تبلغ ضعف كتلها مجتمعة، كما أنه يؤثر على مدارات كل الكواكب الأخرى بسبب جاذبيته العظيمة، وما يزال هنالك الكثير لاستكشافه عن المشتري، والأيام القادمة كفيلة بكشف ما يخبئ لنا العلماء من المفاجآت.