رحلتي إلى الحج.. شباب يافع يشدّ الرحال إلى البيت العتيق

“وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق”.. نادى بها إبراهيم عليه السلام منذ ما يقرب من 4500 عام، وما زال صداها يتردد في المكان والزمان، وبين السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما زال الناس يلبون النداء، ولم تنقطع هذه العبادة على مر الزمان ومنذ ذلك التاريخ إلا في سنوات نادرة ومعدودة. المنادي هو الله، فهل يملك أحد إلا الإجابة؟

ليس الخبر كالعيان، وليس أن ترى الكعبة في الصورة أو عبر شاشة التلفاز مثل أن تراها مواجهة ليس بينك وبينها حجاب، وليس أن تقرأ كتاباً يصف الروضة الشريفة وقبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مثل أن تَسبح نفسُك في تلك الأنوار وترى طيف الصحابة وهم جالسون بين يدي معلم الإسلام الأول.

في رحلة الحج تعرف معنى التجرد من الدنيا والإقبال على الآخرة، وتستوعب معاني التعاون والتضحية والعطاء بأحلى الصور، وتفهم مفرداتٍ طالما سمعتها ولم تعايشها مثل الحرية والمساواة والعدل والإخاء.

بين يدينا فيلم من جزأين من إنتاج الجزيرة الوثائقية بعنوان “رحلتي إلى الحج”، يعرض رحلة مجموعة من الشبان والشابات من جنسيات وبلدان مختلفة، ويسلط الضوء على يومياتهم وذكرياتهم في رحلة العمر هذه.

شباب يلبون النداء

“ريا مهدي”، نمساوية من أصول عراقية، عازمة على أداء فريضة الحج هذه السنة، تقول إنها تلقت كثيرا من النصائح عن أداء هذه الفريضة قبل إنجاب الأطفال، فرعاية الأطفال والعناية بهم متعذرة إن لم تكن مستحيلة إذا تم اصطحابهم في رحلة الحج، وتركهم عند عائلات الأصدقاء قد يشغل فكرها أثناء أداء المناسك، ويجعلها في حالة مستمرة من القلق على أطفالها، ولقيت “ريا” تشجيعاً من زوجها فادي مهدي وأمها للذهاب إلى الحج قبل الإنجاب، خصوصاً وأن أداء فريضة الحج هو مهرها الذي تعهّد لها به زوجها.

وكان كل همّ ريا أن يكون حجها مقبولا، فكثير من الناس كان يسأل عن كيفية أداء المناسك بشكل صحيح، أما ريا فكان همها القبول، وكانت تستحضر الأدعية التي تريد أن تقولها في الحج، فدعاء الحج مستجاب، والمرء يعود نظيفا من ذنوبه وخطاياه كيوم ولدته أمه.

أما “جبريل ألاو”، البريطاني من أصول نيجيرية، فكان في حيرة من أمره، هل يولم لعرسه أم يصطحب رفيقة حياته نادية الزين ألاو -وهي فرنسية من أصول مغربية- في الرحلة المقدسة إلى الأرض المباركة في مكة؟ وقد استقر رأيهما على القيام برحلة الحج.

ويتابع “إن الرحلة المقدسة إلى الحج تجسيدٌ لقولنا إنا لله وإنا إليه راجعون، نحن بذلنا المال والوقت حتى نصل إلى تلك البقعة المباركة، يحدونا الأمل في أن نكون ضيوفا حقيقيين على الرحمن، لأن ضيف الرحمن يلقى من الإكرام والقبول الشيء الكثير، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا”.

و”رفيق الإسلام” كذلك شاب في مقتبل العمر، وهو أيضا بريطاني ولكن من أصول بنغالية، لديه فرص كثيرة لإتمام دراسته، ولكنه اختار أن يؤدي فريضة الحج، ليتطهر من ذنوبه السابقة، ويبدأ رحلة الحياة القادمة طاهرا.

"ريا مهدي"، نمساوية من أصول عراقية وقد أدت مناسك الحج
“ريا مهدي” نمساوية من أصول عراقية أدت مناسك الحج

لا تتخيلوا مدى فرحته الآن، لقد حصل لتوه على رسالة تفيد بأنه حصل على تأشيرة الحج، يا له من شعور يفوق الوصف، إنه من المستحيل أن يحصل على هذه الفرصة الذهبية وهو في مقتبل العمر لو كان في بلده الأصلي، وهذا الشعور يعيشه الكثير من أبناء الجالية الإسلامية في الغرب، فلو كانوا في بلدانهم الأصلية لما نالوا هذا الشرف العظيم.

“إسماعيل السيلاوي”، شاب من الأردن أتيحت له فرصة الذهاب للحج من خلال كلية الشريعة التي يدرس فيها، ونذر لله ألا يحلق شعره إلا في مكة، ويبدو أن الله قد أبر بقسمه وأوفى بنذره، ولذا يبدو شعره طويلا جدا قبل أن يحلقه في مكة.

يقول إسماعيل “في الأردن لا تستطيع الحصول على هذه الفرصة إلا وقد بلغت من الكبر عتيا، يجب أن يتجاوز عمرك الخامسة والستين على الأقل حتى تحظى بفرصة قد لا تكون حقيقية. فأحمد الله كثيرا أن وهب لي هذا الشرف العظيم لزيارة بيته العتيق”.

وتنضم إلى الركب “زبا سيد”، وهي بريطانية من أصول هندية، تريد أن تشارك في هذا الاجتماع العالمي الكبير، حيث ملايين المسلمين من كل أنحاء العالم يشاركون في هذا المؤتمر الكوني الرهيب.

تحضيرات مادية ومعنوية

وتبدأ التحضيرات المادية والمعنوية للحج، الملابس المريحة والاحتياطات الطبية والمظلات وملابس الإحرام، أما معنويا فخير الزاد التقوى، وأفضل الذكر لا إله إلا الله.

وتتنقل الكاميرا بين مطار هيثرو في لندن، ومطار فينا، وموقف الباصات في كلية الشريعة بمدينة إربد في الأردن، وهي ترصد لنا لحظات الانطلاق لهؤلاء الشباب الذين أنعم الله عليهم بهذه الفرصة الذهبية، وتتراوح مراحل السفر بين الراحة وقصر المدة في الطائرة، والتعب الشديد وطول المسافات في سفر البر، ولا يخلو الأمر من بعض المفاجآت، فقد فقدت ريا أمتعتها في مطار جدة، وهي تنتظر أن يجده موظفو المطار، وهي تقول “هذا من الابتلاء الذي نصبر عليه إن شاء الله”.

رؤية الكعبة.. الفرحة الكبرى

لا توجد لذة تضاهي لذة رؤية الحرم المكي والكعبة المشرفة لأول مرة، ولا شيء يطرب الآذان ويشنف المسامع مثل ترديد “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”، ولا شعور بالفخر يوازي أن تلقى إخوانك في الدين من كل الأعراق والألوان من شتى أصقاع المعمورة، يلهجون بصوتٍ واحد، يتطلعون إلى رب واحد، ويلبسون ملابس واحدة، حاجاتهم مختلفة، وأدعيتهم كذلك، لكن مشاعرهم جميعا تتوحد على الأمل نفسه بالقبول والإجابة، إنهم في ضيافة أكرم مسؤول.

جميع شخوص هذا الفيلم أجمعوا على أن رؤية الكعبة لأول مرة كانت علامة فارقة في كل حياتهم، كلهم شعروا بتصاغر هذا الكون وجميع المخلوقات فيه أمام عظمة الخالق وجلاله سبحانه وتعالى، كلهم أدركوا مدى حاجتهم وافتقارهم إلى الله، إلى عفوه ومغفرته ولطفه ورحمته، وأنه سبحانه هو الغني الحميد.

يقول فادي مهدي “عندما رأيت الكعبة للمرة الأولى في حياتي أدركت أن هذه اللحظة تستحق كل الجهد والتعب والمال الذي أنفقته، تستحق كل مشقة السفر والمعاناة التي واجهناها”.

وتقول زوجته ريا “كان الزحام شديدا، وبالكاد نخطو، بل كنا نطوف حول الكعبة بالقصور الذاتي والدفع الخارجي، كانت رائحة ملايين البشر تزكم أنفي لدرجة الغثيان، ولكن كلما تذكرت أنني قدِمت من آخر الدنيا تلبية لنداء الله، أستهين بكل المعاناة التي حولي، وأشعر بانقطاعي عن كل هذا الكون وركوني إلى الرب العظيم وحده سبحانه”.

جميع شخوص هذا الفيلم أجمعوا على أن رؤية الكعبة لأول مرة كانت علامة فارقة في كل حياتهم

كل الفريق أنهى الآن طواف القدوم، ومناسك العمرة للمتمتعين. يقول إسماعيل “إن مناسك العمرة استغرقت أربع ساعات، كان التعب الشديد والإرهاق باديا على الملامح والوجوه، ولكن كانت هنالك سكينة وطمأنينة لم نعهدها من قبل، ولسان حال الجميع يقول إن الأجر على قدر المشقة”.

ولذلك فإن رفيق الإسلام يقول “من حسن حظي أنني حججت وأنا شاب يافع، إنني أتحمل المشقة وأستطيع أن أساعد الناس، لقد ساعدت امرأة مسنة في الطواف، كنت أدفع كرسيها المتحرك حول الكعبة حتى أتمّت الطواف، الحمد لله”.

إنهم الآن يستغلون ما تبقى من الوقت في الصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن في بيت الله الحرام، فعمّا قليل سوف يتوجهون إلى مِنى وعرفات لبدء مناسك الحج، وهذه فرصة للتزود من عظيم الأجر والثواب في جوار الكعبة، فصلاة في المسجد الحرام تعدل مئة ألف صلاة فيما سواه من البقاع، هكذا بشّر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم”.

في الثامن من ذي الحجة، الذي هو يوم التروية، يتوجه الناس إلى مِنى ويبيتون فيها استعدادا للانطلاق إلى جبل عرفة

يوم التروية.. يوم الراحة

في الثامن من ذي الحجة، الذي هو يوم التروية، يتوجه الناس إلى مِنى ويبيتون فيها استعدادا للانطلاق إلى جبل عرفة في التاسع منه، وسمي يوم التروية لأن الناس في القديم كانوا يستقون فيه من الماء ويسقون دوابهم ومواشيهم استعدادا ليوم طويل وشاق.

الفريق متحمس ومتشوق إلى هذه المغامرة الجديدة كما يسمونها، هي فرصة ثانية للتقرب إلى الله، ولكن بشيء من الراحة والهدوء هذه المرة لم يعهدوها عندما كانوا في مكة.

الإحرام للحج سيكون لمدة أطول من الآن فصاعدا، وستتجلى فيه معاني الانقطاع عن كل متع الدنيا وملذاتها، مظاهره المادية تتجلى في الابتعاد عن الزينة في اللباس والطيب وتهذيب الشعر وأكل الصيد الذي حرمه الله، وتتجاوز إلى المظاهر المعنوية في الابتعاد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، والابتعاد عن الغيبة والنميمة والظلم، وتتعدى المظاهر المعنوية إلى الشعور بالمساواة والعدل والأخوة، والتحرر من كل أنواع العبودية إلا لله.

وتتنقل الكاميرا بين الخيام في منى ليلا، تنطفئ الأنوار ويستعد الحجاج لأخذ قسط من الراحة والنوم قبل البدء بيوم شاق وطويل، إنه يوم عرفة، أو يوم الحج الأكبر كما في بعض التفاسير، أو الركن الأعظم في الحج، والذي قال عنه صلى الله عليه وسلم “الحج عرفة”.

من المظاهر المعنوية للحج الشعور بالمساواة والعدل والأخوة، والتحرر من كل أنواع العبودية إلا لله

في عرفات.. يوم الله الأعظم

هذا هو اليوم المنتظر، هذا يوم الله الأعظم، هذا الذي يعتق فيه الله الرقاب من النار، هذا الذي يعطي فيه الله على الذكر والدعاء ما لم يعط قبلُ قط ولا بعد، هذا اليوم الذي تشرئب فيه الأعناق إلى خالقها، ترجو أن تنال فيه الجائزة الكبرى؛ العتق من النار والتطهر من الذنوب.

لا شك في أن التعب كبير، والمشقة مجهدة، وحر الشمس يلفح الوجوه، ولكن هذا كله يهون في مقابل الجائزة العظيمة وتجليات الملك الرحمن في آخر النهار. كان الفريق يتخيل أن ساعات النهار ستكون أطول من الذكر والدعاء الذي حضّروا أنفسهم له، ولكن ما إن بدأ الوقت بالتسارع حتى أيقنوا أنهم بحاجة إلى المزيد منه للتعرض إلى نفحات الرحمة والطمأنينة والسكينة التي تهب عليهم.

أبدع “رفيق الإسلام” البنغالي فكرة جيدة ليوم عرفه، وكذلك فعل إسماعيل، فقد أحضرا كرّاسةً وكتبا عليها جميع الأدعية التي يظنان أنهما بحاجة إليها في حياتهما الدنيا وفي الآخرة، وكتبا عليها أذكاراً كثيرة عليهما أن يتلواها، ولم يكتفيا بذلك، ولكنهما دوَّنا عليها كل من استطاعا أن يستذكراه من أهلهما وأقاربهما وأصدقائهما في الطفولة، وأصدقائهما من العمل، وأخذا يدعوا لكل واحد منهما بما ظنا أنه بحاجة إليه في حياته.

لقد كانت فكرة جيدة قضيا بها نهارهما بما هو نافع، فهما يريان أن بعض الناس ينامون أو يتحدثون في المباحات من شؤون الدنيا، وليس في ذلك غضاضة، ولكنهما أرادا أن يميزا نفسيهما بما هو أنفع، فهما يعلمان -ومثلهما جبريل النيجيري- أن هذه الدقائق المعدودة التي قد لا تتكرر في الحياة كلها، أثمن وأغلى من أن تضيع في المباحات فقط، ناهيك عما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال.

انفروا مغفورا لكم

وكما كانت رؤية الكعبة حدثا مفصليا، فإن النفرة من عرفة عند الغروب هي الحد الفاصل بين الدنس والطهارة، بين أكداس الذنوب والخطايا وبين شفافية المغفرة وسمو الروح والانعتاق من ربقة الطين والتراب.

يشعر المرء وهو يغادر هذا الصعيد الطاهر بأنه خفيف النفس منطلق الفؤاد نشيط الفكر والعقل متوقد الشوق إلى ما عند الله، يشعر أنه ولد من جديد، يستشعر معنى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “رجع كيوم ولدته أمه”.

مزدلفة.. ليلة آلاف النجوم

يبدو أن مفاجآت فريقنا لا تنتهي طوال هذه الرحلة المباركة، ففي مزدلفة الآن أكثر من مليوني حاج يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويعدّون النجوم. تقول إحدى الحاجات مداعبةً “إنها فندق بآلاف النجوم، وليس خمس نجوم فقط”.

نام حجاجنا كالأطفال، لم يكن نوما طويلا ولكنه كان عميقا بقدر التعب والمشقة التي واجهتهم طوال النهار الفائت. ولكن ريا مهدي وزبا الهندية لم تناما، كانتا تتفكران في يوم القيامة، إنه شبيهٌ بحالهم الآن، لا متاع ولا لباس ولا فرش ولا غطاء، إنما هو العمل والتقوى والخوف من الجليل، وانتظار الرحمة والفرج والمغفرة من الغفور الرحيم.

ينتظرون الفجر، ويقضون وقتا في التقاط الحصى لرمي الجمرات، ويلهجون بالتلبية، ألوف مؤلفة من الناس، وبنسقٍ واحد ما زالوا يرددون “لبيك اللهم لبيك”.

في يوم الحج الأكبر يرمي الحجاج الجمرة الكبرى بسبع حصيات

يوم الحج الأكبر

وسمّي كذلك لأن معظم أعمال الحج تتم فيه، والذي يليه من الأيام إنما هو تكرار، ففي هذا اليوم يرمون الجمرة الكبرى بسبع حصيات، ويحرصون على ذلك قبل الظهر، ثم يتوجهون إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي، ثم يذبحون ويحلقون على الرخصة والسَعة في التقديم والتأخير بين هذه الأعمال.

يقول “فادي مهدي” عن رمي الجمرة الكبرى إنه كان ميسّرا وسريعا، ويقول إنهم سلكوا الطريق بين منى والجمرات عبر أنفاق المشاة، استغرقهم ذلك بين 40 و45 دقيقة مشيا على الأقدام، وعلى الرغم من كثرة عدد الحجاج فإن ذلك تم بسلاسة ويسر.

وكان جبريل النيجيري مسرورا أيضاً لسهولة الرمي، غير أنه قال وهو يضحك “لأنني طويل فقد تلقيت كثيرا من الحصى في رأسي، علما بأنني لست إبليس، ولكن ذلك لا يهم، ومن رحمة الله علينا أن الحصى لا تكون كبيرةً، وإلا سيكون هناك ما لا تحمد عقباه”، ويضحك بانبساط وانشراح صدر.

ويحلق إسماعيل السيلاوي شعره لأول مرة منذ سنتين، وكذلك يفعل فادي، إنه من المشاعر الأخرى الغامرة واللحظات التي لا تتكرر، ويؤدي الجميع طواف الإفاضة. كان مرهقا للغاية، يقول جبريل “ولكن لا أدري من أين أتتني كل هذه القوة، الحمد لله، مشينا ما يقرب من عشرة كيلومترات حتى وصلنا إلى مكة، ثم أكملنا الطواف في أكثر من ساعتين وسط زحام كثيف من الناس، لا بد أن هذه قوة من الله أعطانا إياها حتى نذكره كثيرا ونسبحه كثيرا”. ثم توجهوا إلى السعي بين الصفا والمروة، وهكذا أتموا منسك سعي الحج.

تدافعٌ دامٍ يعكّر الصفو

الاتصالات الهاتفية والرسائل النصية تنهال على ريا وفادي مهدي، فأهلهما في النمسا يحاولون الاطمئنان على سلامتهما بعد أن تواترت أنباء عن وقوع تدافع شديد في منى نتج عنه وفاة المئات من الحجاج وإصابة الآلاف بجروح مختلفة.

يقول فادي إنه لم يسمع بالحادثة إلا حينما وصل إلى مكة، وكذلك تقول ريا، ولكن الله سلم، وكان هذا بمثابة اختبار آخر لصبر الحجاج وتحملهم للأحداث المفاجئة.

والجدير بالذكر أن حادثة التدافع هذه أودت بحياة ما يقرب من 800 حاج وجرح 700 بحسب الرواية الرسمية للسلطات السعودية.

ولتكبروا الله على ما هداكم

يشرق يوم الحادي عشر من ذي الحجة حاملا معه ذكراً احتفاليا جديدا، هذا الذكر يشترك فيه المسلمون في كل بقاع الدنيا وليس في أرض المشاعر وحدها، تنطلق حناجر المؤمنين “الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد”، إنها احتفالية العيد الكبير. ومن منا لا يفرح إذ يسمعها؟ وتمضى أيام وليالي منى في دعة ويسر وسهولة، يشعر فيها الناس بالأخوة والتواد، وعلى مدى أيام معدودة ترى لك جيرانا جددا غير جيرانك، وأهلا وإخوانا غير إخوانك، تستشعر قول الرسول الكريم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد” أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

لا شك في أن ريا العراقية وزبا الهندية تستوعبان تماما معنى الأخوة الجديدة، لقد ذهبتا سويا إلى السوق واشترتا العبايات، كم هي فرحتهما عندما وجدتا أن كل نساء المخيم قد اشترين الثياب نفسها.

وتتوالى أيام التشريق الثلاثة تباعا، ويشعر أصحابنا بقرب الرحيل، أرى في عيونهم فرحة غامرة أن أدوا ركنا عظيما من أركان الدين، وأشعر بشيء من الغصة في قلوبهم لأنهم سيفارقون هذه الأرض المقدسة عما قريب، كأنهم سيعودون إلى الحياة الدنيا الاعتيادية بعد ما عاشوا أياما معدودات بجوار الرحمن في جنات النعيم.

يؤدون طواف الوداع، ويتوجهون إلى الكعبة المشرفة بأعين حزينة خشية ألا يكون هنالك لقاء آخر، وبقلوب راجية أن يقر الله أعينهم بموعد آخر قريب.

يوم الحادي عشر من ذي الحجة يشرق حاملا معه ذكراً احتفاليا جديدا

طيبة الطيّبة

يقول جبريل النيجيري “لئن كنت حزينا على فراق البيت العتيق، فإن في القلب عزاءً ولهفة وشوقاً للقاء الحبيب محمد في المدينة المنورة، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم”.

وتنبعث في الأرجاء أصداء الدفوف مرحبةً بقدوم الحبيب “طلع البدر علينا”، وقد آثر مُخرج الفيلم أن يستصحب موسيقى هذا النشيد العظيم ونحن نترجل من الحافلات باتجاه الحرم النبوي الشريف.

ويستحضر رفيق الإسلام طيف النبي الأمين، وصور مئات الصحابة الكرام يغدون ويروحون من كل أبواب المسجد المقدس، وصلى في الروضة الشريفة وهبت عليه نسائم الجنات، إنه الآن خارج حدود الزمان والمكان، إنه يسبح في بحار النور السرمدي، يسلم على قبر الرسول وصاحبيه الكريمين، ويكاد يشتَمُّ رائحة المسك وطيب الجسد المسجى الكريم.

ووقفت زبا في الروضة الشريفة دون علم مسبق، وحين رأت النساء علمت أنها في روضات الجنات، لم تسعفها دموعها ولا كلماتها على وصف ما هي فيه من سعادة وغبطة.

ولم يفوّت الفريق الفرصة لزيارة بعض المعالم التاريخية في المدينة، فقد زاروا جبل أحُد واستمعوا إلى عرض موجز عن إستراتيجيات المعركة الخالدة التي شهدها الرسول والصحابة الكرام ضد قوى البغي والظلم، ثم توجهوا إلى مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام، والذي قال عنه الرسول الكريم إن صلاة فيه تعدل عمرة، وبالطبع كانت لهم وقفات في مقبرة البقيع، حيث يرقد هناك الكثير من الصحابة والتابعين الأجلاء.

 

وداعا أبا الزهراء

رحلتنا مع هذا الفريق المميز على وشك الانتهاء، إنهم يودعون بعضهم بعضا وعيونهم تذرف الدمع حارا، كأنما عاشوا سويا منذ عشرات السنين. هذان الأسبوعان حملا لهم جميعا ذكريات لا تُمحى، إنهم يتعاهدون أن يحفظوا عهدهم مع الله ومع أنفسهم أنهم سيبدؤون حياة جديدة كلها قرب من الله والتزام بتعاليم الإسلام وتعاون مع كل الناس على البر والتقوى، وتعاهدوا أيضاً على ألا يفوتوا فرصة اللقاء ثانية هنا إذا ما جاد عليهم الزمان بمثل هذه النعمة العظيمة مرة أخرى.

ثم زارتهم الكاميرا في مواطنهم وأماكن عملهم، وكان الانطباع الواضح أن كل شيء قد تغير، في سلوكهم ونظرتهم وفلسفتهم في الحياة، وفي تعاملهم مع الناس، وفي طريقة أدائهم لأعمالهم، وقبل كل هذا في علاقتهم مع الله. كانت أيام الحج مدرسة حقيقية تعلموا فيها ما لم يتعلموه على مدى سنوات حيواتهم.