“رعب في الغابة”.. جريمة قتل بدافع الهوى استغرق حلها 25 عاما

لوغان بلدة تبعد 56 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة “كولومبوس- أوهايو”، وقد خسرت مكانتها وازدهارها في عصرها الذهبي قبل عقود، عندما أغلقت مناجمها وانهار اقتصادها، ولم يعد شيء يدعوك إلى البقاء فيها إلا إذا كنت تحبها.

زارت كاميرا الجزيرة الوثائقية البلدة، وقلَّبت صفحات طويت عن قضية أرّقت الناس كثيرا هناك، ثم أنتجتها على شكل فيلم بعنوان “جرائم منسية.. رعب في الغابة”.

ذهاب بلا عودة.. شغف العشاق بالهروب

“تود شالتز” و”أنيت كوبر” وُلدا وترعرعا هنا، ومثل كثير من المراهقين وخصوصا الواقعين في الحب، فقد كانا يبحثان عن طريقة يبتعدان بها عن بلدتهما، لذلك تراهما كثيرا في الغابة خارج بلدة “لوغان”، أما “تود” فهو الابن الثاني بين أربعة أولاد من عائلة معروفة ومرموقة ومترابطة، ويبلغ من العمر 19 عاما، وهو يعمل في شركة للطباعة، إضافة إلى كونه رجل إطفاء متطوع، بعد أن أنهى الثانوية العامة منذ نحو عام.

وأما “أنيت” فقد ارتادت جامعة “هوكينغ” لدراسة البرمجة، وكانت قد خططت لإكمال دراستها في جامعة “أوهايو”، ولكنها كانت تنتمي لعائلة مفككة متباعدة، حتى أنها كانت تخطط للانتقال لشقة بعيدة برفقة “تود”، إلا أنه كان يشجعها على البقاء معه في منزل عائلته، وكانت تجيب: كل مكان هو خير من البقاء مع زوج أمي.

قال تود: “لقد تأخر الوقت ويجب أن أوصل أخي إلى تدريب كرة القدم، هيا بنا”. ربما تكون هذه آخر الكلمات التي تفوه بها “تود”، فقد أقبل الصباح ولم يعد “تود” ولا حبيبته “أنيت” إلى المنزل، ها هي ذي والدته تتفقد غرفة نومه، لكنها لم تجده فيها فبدأت بالتواصل مع جميع الأقارب لتسأل عن ما إذا كان “تود” قد بات عندهم، وكان الجواب بالنفي للأسف.

مراهقان في عمر الزهور.. إقصاء مبكر

اضطرت والدة تود للاتصال بالشرطة للإبلاغ عن ابنها وصديقته، وهذه من المرات النادرة التي تتلقى فيها شرطة “لوغان” بلاغا كهذا، حتى أن الشرطي اليافع لم يُخف ارتباكه وهو يستجوب عائلة “تود”، وكان الخوف باديا على والدة “تود” التي لم تتمالك نفسها وهي تصرخ في وجه الشرطي: هذه أول ليلة يبيت فيها ابني خارج المنزل، إنه لا يشرب الكحول ولا يتعاطى المخدرات، أظن أن شيئا ما حدث لابني، شيء سيئ للغاية.

أنيت وصديقها تود، ضحيتا جريمة قتل مروعة ارتكبت في الغابة بدم بارد

وعندما سألها الشرطي عن ما إذا كانت تعرف شخصا يريد إيذاءهما، أجابته بعصبية: “ولماذا لا تذهب إلى بيت “ديل جونسون”، وتسأله إذا ما كان أحد يود إيذاء “أنيت”؟ لقد كانت والدة “تود” صريحة للغاية مع الشرطي، وأخبرته لماذا تعيش “أنيت” عندهم، وكيف أنها كانت تتعرض للتحرش الجنسي من زوج والدتها “ديل جونسون”.

وبالفعل توجه الشرطي إلى منزل “ديل”، هذا الرجل لم يكن معروفا في “لوغان” لأنه لم يولد فيها، وكان الناس يعتبرونه دخيلا عليها، وعندما سأله الشرطي عن “تود” و”أنيت” لم يبد “ديل” أي رد فعل على غيابهما، وأجاب ببرود شديد أنه لم يرهما ولا يهمه إن كانا مفقودين، بل ولم يكن راغبا في التعاون مع الشرطي من أجل العثور عليهما، لقد كان تصرف “ديل” مع الشرطي مريبا للغاية، حتى أنه أخبره في نهاية اللقاء قائلا: إذا أردت المجيء إلى منزلي ثانية فعليك بالاتصال بي مسبقا.

نهر هوكينغ.. جثتان طافيتان على الماء

مضى يومان على اختفاء “تود” و”أنيت”، وأدرك الجميع في البلدة أنهما مفقودان، وبدأ البحث عنهما في الغابات والمزارع وعلى ضفاف نهر هوكينغ الذي يمر بالبلدة.

وها هي ذي عشرة أيام قد مرت على فقدانهما، ومع تسرب اليأس إلى نفوس الكثيرين، وبينما كان الشرطي “جاكوبس” يبحث قرب ضفة النهر رأى شيئا مفزعا؛ كان جذع جثة طافيا على الماء، بدون رأس ولا أطراف، وبعد فترة قصيرة وجدوا جذعا آخر، وبنفس الهيئة بلا رأس ولا أطراف.

إضافة إلى جذعي الفتاة وصديقها الطافيين في النهر، عثر المحققون على حفر دفنت فيها بقية أطرافهما

ساد نوع من الظن أن الجذعين يعودان للشابين المفقودين “تود” و”أنيت”، واستمر البحث للعثور على بقايا الجثتين، وتكثفت جهود الشرطة في الغابة وعلى ضفتي النهر قرب مكان إيجاد الجذعين، ولم يمض وقت طويل حتى وجد شرطي آخر شيئا آخر مرعبا، كانت ثمانية قبور ضحلة (قليلة العمق)، وقد دفنت فيها ثمانية أطراف، أغلب الظن أنها أذرع وأرجل الجذعين، ثم بعد المزيد من البحث، وفي ذات المكان وجدوا الرأسين.

بعد أن وصل نبأ العثور على الجثتين لعائلتي “تود” و”أنيت”، بدأ المحققون البحث عن المشتبه به أو بهم الذين تلطخت أيديهم بهذه الجريمة البشعة، لقد كانت جريمة قتل بحد ذاتها نادرة الحدوث في “لوغان”، أما أن يمثّل بالجثة هكذا، فهو أمر خارج تصور وخيال أي من مواطني هذه البلدة الوادعة.

إفادة الشاهد النائم.. ملامح القاتل

شكّل هذا الحادث قلقا بالغا لقسم الشرطة في لوغان، إنهم يتلقون مئات المكالمات على مدار الساعة، إما للإدلاء بشهادة أو السؤال عن حيثية الجريمة، فالشرطة هناك لم يعتادوا على ظروف عمل كالتي يواجهونها هذه الأيام.

عاشت البلدة كلها أياما عصيبة من الذعر والخوف على أنفسهم وذويهم وخصوصا أطفالهم، فكلما مر وقت أطول دون الكشف عن المجرم ازداد خوف الناس وفشت بينهم الشائعات المرعبة، وما زالت الشرطة تبحث عن دليل، أو طرف خيط يدلها على تفاصيل الحادثة.

الشاهد ستيفن، في جلسة تنويمية لاسترجاع ما رآه يوم الجريمة

وبعد مرور عدة شهور على الجريمة، ظهر شخص قال إن لديه معلومات يريد الإدلاء بها، فتوجه إلى مركز الشرطة وقال للمحققين إنه يجزم أنه رأى “تود” و”أنيت” يوم فقدهما ولم يكونا وحيدين، ولكنه لا يعرف على وجه التحديد من كان برفقتهما، وهنا أخضع المحققون الشاهد “ستيفن” لجلسة تنويم مغناطيسي، يمكنه من خلالها أن يكون أكثر دقة في توصيف الشخص أو الأشخاص الذين كان المغدوران برفقتهم.

تحت تأثير التنويم المغناطيسي بدأ “ستيفن” في الحديث: “كان هنالك رجل طويل القامة غاضب، وثمة شاب وفتاة غاضبة جدا لا تريد أن تدخل إلى العربة، ولكنه يجبرها على ذلك”، وفي هذه الأثناء يتدخل المحقق قائلا: “حاول التركيز أكثر ودقق في الرجل، أريد أن أعرف من يكون”، وهنا يصرخ ستيفن: “لقد عرفته”.

“أنا لم أقتل أحدا”.. غيرة تحرك الأحقاد

قررت الشرطة إحضار “ديل جونسون” زوج والدة “أنيت” للتحقيق، على اعتبار أنه يشبه إلى حد كبير الشخص الذي وصفه “ستيفن” أثناء تنويمه.

–         هل تحرشتَ بـ”أنيت”؟

–         قلت لك مرارا إنني لم ألمسها.

–         هل كنت تغار عليها من أصدقائها؟

–         ههه كلا، ولِمَ أغار؟

–         هل حصل بينك وبين “تود” شجار؟ هل فقدت السيطرة على الأمور؟ ثم أطلقت عليهما النار؟

–         كلا، كلا، هذا هراء، إنه هراء، أنا لم أقتل أحدا.

ديل، زوج والدة أنيت، المتهم الأول في مقتلها ومقتل صديقها تود

كان “ديل” يتحدث بكل حزم، وكان كلامه قاطعا، وبدا وكأنه يسيطر على التحقيق، بل وكان يتحدث بلهجة فيها نوع من التهديد مع المحقق، ولكن ما كان يثير الشبهة ضد “ديل” أنه كان يعمل جزارا، أي أنه يملك من المهارة والأدوات ما يجعل تقطيع الجثة أمرا سهلا بالنسبة له، ثم أخبره المحقق بأن لديه مذكرة تفتيش لمنزله، فابتسم “ديل” مستهزئا، وقال له: تفضل، ليس لدي ما أخفيه.

نطق بحكم الإعدام.. تشبث بالبراءة ولو بعد حين

عند تفتيش منزل “ديل جونسون” وجد المحققون ساطورا كبيرا وبندقية من عيار 22 ملم وصورا عارية لـ”أنيت كوبر”، وقد قرر المحققون حينها أن هذه الأدلة كافية لاتهام “ديل” بجريمتيْ القتل، مع سبق الإصرار والترصد، واعتقل بناء على ذلك بعد ما يقرب من عام كامل على وقوع الجريمة.

بعد أربعة أشهر من اعتقاله بدأت محاكمة “ديل” بتهمتيْ قتل، ولكن الدفاع بين أن الأدلة التي قدمها الادعاء لا يعتد بها، ولا ترقى لأن يكون لها أي صلة أو علاقة بالجريمة، ولم يتنازل “ديل” عن ادعائه البراءة لنفسه من الجريمتين، ومع ذلك فإن المحكمة أدانته وحكمت عليه بالإعدام. كان “ديل” هادئا جدا لحظة النطق بالحكم، ولم تظهر عليه أي علامات حزن أو أسف، بعكس كل الحاضرين للجلسة، ومنهم محاميه الذي أظهر دهشة وصدمة كبيرتين لدى سماع الحكم.

بعد سبع سنوات خرج ديل من السجن لسقوط تهمة القتل عنه لعدم كفاية الأدلة

وبعد سبع سنوات من السجن، أصدرت المحكمة قرارا صادما بإعادة محاكمة “ديل”، لقد سقطت إدانته السابقة، وهو ما أثار غضب أهل “لوغان” وذوي الضحيتين، ونكأ جروحهم من جديد؛ أن يروا “ديل” حرا طليقا مرة أخرى. وقالها شقيق “تود” بكل حزن: بعد خروج “ديل” بريئا، أيقنتُ أن العدالة لن تتحقق، فلجأت إلى ربي، وعرفت أنه لن ينصفني أحد إلا الله.

شاهد جديد بعد 25 عاما.. “لقد أخبرت الشرطة”

بعد الإفراج عن “ديل” بقي ملف القضية مغلقا مدة 25 عاما، حتى أعيد فتحه في عام 2007، ضمن خطة لإعادة فتح القضايا القديمة التي لم تغلق بعد، وبدأ محققون من جيل جديد إعادة النظر في كل حيثيات القضية، ودراسة الأدلة من جديد، وأجريت مقابلات مع من تبقى من الشهود على قيد الحياة، وظهر شهود جدد في القضية.

وظهرت “جودي” وهي شاهدة جديدة من أهالي “لوغان”، لتقلب القضية رأسا على عقب، في الحقيقة كانت “جودي” سجينة سابقة بتهم تتعلق بالسرقة وتعاطي المخدرات، وكان عليها زيارة قسم الشرطة بشكل دوري كإجراء روتيني ضمن صفقة الإفراج المشروط عنها، ولما كان الضابط الذي يتابعها على صلة بملف “تود” و”أنيت”، سألها من قبيل الفضول إذا كان لديها ما تقوله عن تلك الجريمة.

بعد مرور 25 عاما، تتقدم الشاهدة جودي للإدلاء بشهادتها التي مهدت لكشف تفاصيل الجريمة

ولدهشة الضابط أخبرته “جودي” أنها ربما تعرف شيئا يهمه، فقد كانت “جودي” زوجة لـ”كيني” وهو رجل وضيع ذو سوابق، وكان تاجر مخدرات، وفي يوم الحادث كان كثير من أصحابه يدخلون البيت، ويشربون الكحول ويتعاطون المخدرات ثم يخرجون، وعنما سألها الضابط عن أسمائهم، أجابته: “تيكس” و”بيل” وشخص آخر اسمه “شيستر”.

أخبرت “جودي” الضابط أن “كيني” و”شيستر” قد غادرا المنزل ساعات عدة، ثم عاد “كيني” لوحده، وكان ملوثا بالدماء وفي يده جرح عميق، وقد سألته عن الجرح، فأمرها أن تخرس. فسألها الضابط: ولماذا لم تخبري أحدا؟ فقالت: لقد أخبرت الشرطة.

يبدو أن عدد المكالمات الهائلة التي تلقتها الشرطة في ذلك اليوم، وكذلك تركيزهم المنصبّ على “ديل”، جعلهم لا ينتبهون إلى المعلومات التي ذكرتها “جودي” عندما اتصلت بهم، ثم إن الوقت كان مبكرا جدا ذلك اليوم، لأنهم لم يكتشفوا بعدُ أنّ ثمة جريمة قتل.

توجه محقق إلى مكان وجود “كيني”، وسأله عما إذا كان يتذكر الجريمة التي وقعت في 1982، وراح ضحيتها “تود” و”أنيت”، فأجابه “كيني”: “نعم، أتذكر”، ثم قال له المحقق: “يومها أنت اتصلت بالشرطة وسألتَهم إن كانوا وجدوا الجثتين أم لا، مع أننا يومها لم نكن قد جزمنا بوقوع الجريمة”، دهش كيني وقال: “ليس لدي ما أضيفه لك”. ثم سأله المحقق: “وهل يعني لك “شيستر” شيئاً؟”، ولكنه لم ينبس بأي جواب.

لاحقا عرف المحققون أنه يدعى “شيستر ماكنايت”، وله سوابق إجرامية في السطو والمخدرات، وكان يتردد على “لوغان” من وقت لآخر، ولم يجد المحققون صعوبة في تحديد موقعه الآن، فهو يقبع في السجن بتهمة التحرش بالأطفال.

ثمل المسكرات القاتل.. إزهاق القيم الآدمية

سأل المحققون “شيستر” عن ذكرياته في ذلك اليوم الذي فُقِد فيه “تود” و”أنيت”، فأجابهم أنه كان يشرب ويتعاطى المخدرات مع “كيني”، ثم خرجا إلى الغابة ثملين يتمشيان، وفي الطريق التقيا بـ”تود” و”أنيت”، وقد أعجب “شيستر” بـ”أنيت” من أول نظرة، وقرر أن تبقى معه تلك الليلة، وهو الأمر الذي لم يرق لصديقها “تود”.

المجرم المتعاطي يقتل الضحيتين بدم بارد وصديقه يقطعهما إرباً

قال “تود”: “هيا لنذهب يا أنيت”، وهو ما لم يعجب “شيستر”، فقال لـ”تود”: “أنت يمكنك الذهاب إلى حيث تريد، أما هي فستبقى معى”. حاول “تود” جهده الدفاع عن صديقته، فطلب منها أن تركض بأقصى سرعتها، أما هو فدفع “شيستر” أرضاً ولحق بـ”أنيت”. الأمر الذي اعتبره “شيستر” الثمل إهانة بالغة، وقرر أن يثأر لنفسه.

وبعد مطاردة طويلة وجد الشابان نفسيهما مطوقين بالمجرمين “كيني” و”شيستر”، وكان “تود” وجها لوجه أمام فوهة مسدس من عيار 22 ملم، وكان “شيستر” يصوب بكل برود تجاه رأس “تود”، بينما طلب من صديقه “كيني” أن يسكت صراخ “أنيت”، ولم تنفع توسلات “تود” وصديقته، فقد أطلق “شيستر” النار على رأس “تود” من مسافة قريبة.

اعتراف بالذنب.. سفاحان بين المؤبد والموت

لما فطِن “كيني” و”شيستر” إلى “أنيت” وهي تصرخ وتبكي، وتذكرا أنها الشاهد الوحيد الذي رأى كل شيء، قرر “شيستر” بدون تردد أن يتخلص منها، فاقترب منها وصوب مسدسه تجاه رأسها وأسكت صراخها إلى الأبد، وكل ما تذكَّره “شيستر” بعد ذلك، أن “كيني” ذهب إلى بيته وأحضر ساطورا وطفقا يقطعان الجثتين، في محاولة للتخلص من آثار جريمة ارتكباها وهما ثملين وتحت تأثير المخدرات.

صدر الحكم بالسجن المؤبد مدى الحياة على قاتل الشابين أنيت وتود في عام 2008

اعترف “شيستر” بذنبه وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة في سجون “أوهايو”، أما “كيني” فقد اعترف فقط بتقطيع الجثتين، وبعد صفقة مع المحكمة حكم عليه بالسجن لمدة قضى منها ستة أشهر فقط، ثم خرج لكنه مات نتيجة نزيف في قدميه.

ما أبشع القتل وما أفظع إزهاق الأرواح بغير حق، كيف تبرر لنفسك أن تأخذ ما ليس ملكاً لك؟ وتسلب من الآخرين كل ما يملكون؟ وأما الشر المحض فهو أن تسمح لشهواتك الأنانية أن تسيطر على أفعالك، وهذا أسوأ ما في صفات البشر.