رواية “القوقعة”.. سجن تدمر الصحراوي المرعب كأنك تراه

مهدي أمين المبروك

ليله ظلام مخيف يبعث رسائل الرعب في كل لحظة من أوقاته، أمّا نهاره فهو استراحة الجسد من التنكيل لخوض تجربة جديدة من العذاب، زبانيته مأمورة من قبل أسيادها بإذاقة الآخرين شر العذاب، أرواح تزهق وأنفس تئنّ ألما من شدة الضرب بالسياط، حياة في مدافن صُنعت خصيصا للأحياء.

أوقات مؤلمة لا يدركها إلا من عاشها كتجربة بكل مآسيها وآهاتها، هذا هو الاعتقال على خلفية المعارضة لنظام الحكم المستبد وذاك هو السجن الذي نزلاؤه هم أسرى لم يقترفوا جناية تستوجب العقاب، لكنهم دفعوا ضريبة الحرية أوقاتا طويلة من أعمارهم.

هنا تدمر المدينة السورية الجميلة التي اقترنت تاريخيا بالملكة زنوبيا أصبحت في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد مقترنة بسجن تدمر الصحراوي المصنف كواحد من أكثر السجون وحشية في العالم، بين أيدينا أحد البرامج التي بثّتها قناة الجزيرة ضمن سلسلة حلقات “خارج النص” بعنوان “القوقعة.. رواية مروعة من سجن تدمر” ويسلط الضوء على أحداث ذلك السجن من خلال رواية “القوقعة” التي كتبها مصطفى خليفة أحد المساجين والشهود على تلك الأحداث.

 

مجزرة حماة.. صيحة حرية باهظة الثمن

في عام 1982 ارتكب النظام السوري مجزرة في مدينة حماة السورية قُتل فيها الآلاف ثم أرسل الناجون من البطش إلى السجن، وكان من بين السجناء شاب سوري اسمه خليفة درس الإخراج السينمائي في فرنسا واضطر إلى العودة إلى بلده ليجد نفسه وبدون أية مقدمات بين أيدي رجال المخابرات.

يرى ذلك الشاب في هذه الرواية صيحة للحرية بعد أن حاول النظام السوري إخفاء جرائمه داخل السجن لمدة من الزمن، وتمثل هذه الرواية واحدة من أدب السجون لأنها “تطرقت للعذاب والاضطهاد الذي مر به السجناء” كما يقول هاني إسماعيل أستاذ الأدب العربي.

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى جزء من الرواية يظهر من خلاله سبب اعتقال خليفة وهو “تلفظه بعبارات جارحة بحق رئيس الدولة قبل ثلاث سنوات من عودته من باريس”.

يعتقد النظام السوري أن قيامه باعتقال الآلاف من الناس هو عدالة يطبقها، لذلك علّقت الشرطة العسكرية فوق أحد أبواب مقراتها الأمنية لوحة حجرية كُتب عليها الآية القرآنية الكريمة “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، ومنها ينتقل بنا المخرج إلى مشاهد من التعذيب القاسي للأسرى، فقد أتيح لخليفة فرصة التلصص على التعذيب، فرأى ما لم يره العديد من الأسرى، لذلك عبَّرت روايته عن أحداث شاهدها بأم عينيه أو سمعها بأذنيه، يقول المعتقل السياسي السابق غسان النجار: أراد الكاتب بهذه القصة أن يوجز أحداثا استمرت لأكثر من 15 عاما وعذب فيها أكثر من 10 آلاف سجين.

حافظ الأسد يصدر سنة 1980 بيانا يعتبر فيه كل من ينتمي للإخوان المسلمين مجرما ويعاقب بالإعدام

 

إعدام لكافة المعارضين.. عطاء الرئيس

أصدر الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد القانون رقم 49 عام 1980 القاضي بإعدام كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وشمل هذا القانون كافة المعارضين للنظام حتى المسيحيين والشيوعيين، وينتقل المخرج إلى عرض مشاهد تمثيلية للتعذيب يظهر فيها السجانون وهم يضربون الأسرى على أرجلهم بالعصي.

ومن قصص الإعدام المؤلمة داخل السجن التي نقلتها الرواية أن قاضيا خيّر أباً معتقلا أن يختار واحدا من أبنائه الثلاثة المعتقلين لكي يعفو عنه من عقوبة الإعدام، وبعد اختيار الأب لأحد أبنائه لم يَفِ القاضي بوعده بل نفَّذ حكم الإعدام بأبنائه الثلاثة مما جعل الأب يخرج عن إيمانه متسائلا لماذا لا تتدخل الذات الإلهية لإنقاذنا، لكن إيمانه العميق كان يعيده للاستغفار من الألفاظ التي نطق بها وقلبه مطمئن بالإيمان.

بقايا سجن تدمر الصحراوي الذي شهد عذابات معتقلي حماة وحلب

 

قصة “القوقعة”.. وقائع حدثت ليست خيالا

على الرغم من قول الراوي أنه لم يذكر كل شيء حدث في داخل السجن، إلا أن الناقد ميخائيل مسعود أستاذ الأدب الروائي في الجامعة اللبنانية يرى مبالغات كثيرة في أسلوبه، ومثّل على ذلك قائلا: “تطرقت الرواية إلى ذكر قصص تعود إلى اقتناء سجين أثناء توجهه إلى السجن مئة غيار داخلي، وكذلك حكاية تناول بيضة واحدة كعشاء لكل ثلاثة مساجين”.

وينفي غسان النجار، وهو معتقل سياسي سابق، وجود مبالغات أو خيال في أحداث الرواية قائلا “إن الأحداث والوقائع الحقيقية هي أقوى وأكثر بلاغة مما ورد في هذه الرواية”. ويقول الراوي إنّه لم يتناول الاعتداءات الجنسية على المساجين.

ومن الأحداث المؤلمة التي لم تروها القوقعة واقع المساجين الصحي، حيث يقول يوسف هورو الشاعر والمعتقل السابق في سجن تدمر: لم يذكر الكاتب إصابة المساجين بمرض الكوليرا الذي فتك بالسجن عام 1981.

وعن سبب عدم ذكر الراوي لكافة الأحداث يقول إنه اكتفى بذكر أمثلة ترمز لأحداث وقعت دون التطرق إلى جميع ما جرى داخل السجن.

هتافات المساجين في سجن تدمر إما لحافظ الأسد أو ضد الإخوان المسلمين

 

بالروح نفديك.. هتافات الأجرب للرئيس

من الأحداث التي ترويها القوقعة أن السجناء لم يروا أي غضاضة في الهتاف ضد أنفسهم، أو التلفظ بشعارات الولاء للرئيس حافظ الأسد، فكانوا يصفقون ويهتفون للنظام الذي يسجنهم مجبرين على ذلك، يجبرهم السجان على ترديد هتافات الفداء بالروح للرئيس، وبين كل تصفيقة وأخرى كانوا يحكّون جلدهم الذي أصيب بمرض الجرب.

وقد وُفّق الراوي في استخدام بعض العبارات المقتبسة لأحد الأفلام الأجنبية التي اغتُصبت فيها راهبة، فكانت كلما اغتسلت تقول أشعر بالقذارة ولا أشعر بالطهارة، واستعمل الكاتب ذات الصياغات لا سيما في إشارته لحادثة بصق أحد الجنود في فمه، عندها كان يكرر ذات عبارات الراهبة، فكلما شرب من الماء قال أشعر بالنجاسة ولا أشعر بالطهارة.

كما أن الرواية مزجت بين مفردات اللغة العربية الفصحى السهلة والعامية وقامت بنقل أقوال السجانين بحذافيرها وهذا ما جعل الرواية أكثر واقعية، يقول ميشال كيلو السياسي السوري والمعتقل السابق: “بدون هذه الكلمات لا يمكن وصف الواقع بشكل دقيق”. واكتفى الراوي بذكر العبارات المستخدمة من قبل السجانين دون التطرق للألفاظ التي من شأنها أن تثير النعرات الطائفية.

وقد تغلب المساجين على ظروفهم الاعتقالية الصعبة فابتكروا طريقا لحماية بعضهم من الهلاك حيث كان يخرج الأقوياء والشباب بدلا عن الضعفاء والمرضى وكبار السن لجولات لتعذيب، هذا الأمر حمى العديد من المساجين من الموت المحقق على أيدي السجانين.

ولم يتوقف إبداعهم على مجال بعينه بل صنعوا الإبر من عظام الدجاج واستخدموا خيوط البطانيات للخياطة وأجرى أحد الأطباء المعتقلين عملية لاستئصال الزائدة.

الحاكم العسكري حافظ الأسد ينكل بأهل حماة وحلب في أحداث 1982 ويقتل منهم عشرات الألوف

 

انهزامية البطل.. تحامل على التيار الإسلامي

اتهم الراوي بالتحامل على التيار الإسلامي داخل السجن الأمر الذي نفاه جملة وتفصيلا، فهو لم يتجنّ على الجماعة، وبالمقابل لم يخفِ الحقائق عن القارئ بل عرض مسرح الأحداث داخل السجن بكل شفافية، وفي المقابل اتهم من قبل جهات تابعة للنظام بتجميل وجه جماعة الإخوان المسلمين.

ينتقل المخرج لعرض مشاهد من تعذيب الأسرى، متحدثا عن كون النظم الديكتاتورية تجعل فكرة الالتحاق بالقوي هي الفكرة الغالبة، ثم يلوم الراوي المجتمع الصامت عن رفع الظلم عن الآخرين مستنتجا أن الشعب الذي يترك جزءا من أبناء وطنه ضحية للظلم والاضطهاد إما أن يكون مخدرا أو أبله.

وربما يقوم الأسير ذاته بما قام به المجتمع إذا كان خارج السجن، لذلك يصف إسماعيل أستاذ الأدب العربي البطل في الرواية بالسلبية والانهزامية؛ لأنه عندما خرج من السجن طلب من الآخرين أن يتركوه وشأنه، في حين يبرر الراوي سلبية البطل لأنها كانت نتيجة للتجربة التي مر بها.

يفسر إبراهيم بوزيداني أستاذ علم النفس أسباب سلبية البطل قائلا: حياة السجن تصبح طبيعية بالنسبة للسجين، وأما خارجه فهو الاستثناء، فعندما يحرر السجين فإنه يفقد كافة العلاقات الاجتماعية التي بناها داخل السجن.

على الرغم مما فيها من تفاصيل فاضحة لأهوال سجن تدمر، تمكنت دار الأدب السورية من نشر الرواية

 

دار الأسد.. منع “القوقعة” من النشر

بعد انتهاء الكاتب من تدوين الرواية عام 2003، لم يستطع أن ينشرها بسبب منع النظام لها وملاحقته لكاتبها، حتى جاء العام 2008 وقامت دار الأدب منفردة بنشرها، وعندما حاولت الدار مشاركتها في المعرض السنوي المقام في دار الأسد صادرت المخابرات السورية كافة النسخ المطبوعة ووجهت التهديدات لدار النشر.

خشي الكاتب بعد أن نشر روايته أن يبث في الشعب الخوف من النظام لهول ما ورد في الرواية من أحداث مرعبة، فقسوة البطش الممارس كوّنت لدى الكاتب قناعة مفادها أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة وإنما يموت بالتدرج، فكلما فقد شخصا يحبه فقد جزءا من حياته.

وما زال الحقد الذي زرعه نظام الأسد في نفوس الأسرى نتيجة للظلم والاضطهاد لا تمحوه سنوات الحرية من ذاكرة متوقدة رأت الموت في سنوات حياتها بأشكاله المتعددة، وما زال نظام يرسل التهديد والوعيد لكاتب الراوية المقيم في دولة الإمارات بعد أن فضح ممارسات وحشية ارتكبت في فترة من الزمن في ظلام السجن على أيدي نظام يرفض الحرية ويبني السجون لمخالفيه في الرأي.