“عمارة يعقوبيان”.. فيلم يحرك المياه الراكدة في مصر على نار هادئة

في عام 1934 فكر المليونير هاغوب يعقوبيان، عميد الجالية الأرمنية في مصر آنذاك، بإنشاء عمارة سكنية تحمل اسمه، فتخيّر لها أهم موقع في شارع سليمان باشا، عشرة أدوار شاهقة من الطراز الأوروبي الكلاسيكي الفخم.

واستمرت أعمال البناء عامين كاملين، خرجت بعدها تحفة معمارية جاوزت كل التوقعات، وقد سكن في عمارة يعقوبيان صفوة من المجتمع في تلك الأيام؛ وزراء وباشاوات من كبار الإقطاعيين ورجال صناعة وأجانب واثنان من مليونيرات اليهود.

في العقد الأخير من سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، اكتسبت الساحة الإبداعية المصرية مساحات أكثر جرأة، إذ شهدت ظهور روايات أدبية وأعمال سينمائية تضمنت نقدا لمظاهر الفساد السياسي والاجتماعي آنذاك، وكانت رواية وفيلم “عمارة يعقوبيان” أحد أبرز تلك الأعمال.

وفي هذه الحلقة من برنامج “خارج النص”، فتحت قناة الجزيرة الفضائية ملف رواية الكاتب المصري علاء الأسواني “عمارة يعقوبيان”، والفيلم المقتبس عنها ويحمل نفس الاسم، وهو من إخراج مروان حامد، وأعاد كتابة السيناريو وحيد حامد. واستضافت لهذه الغاية مجموعة من النقاد السينمائيين والمهتمين بالشأن الثقافي.

“لأنك عايش فيها باشا يا باشا”.. قصة مصرية بمذاق جريء

كانت فترة مبارك الأخيرة بالغة الذكاء على حد وصف بعض النقاد، فهي تعطي مساحات للكاتب ليعبر عن رأيه داخل الصالات المغلقة، وكان هذا الفيلم ختام هذه المرحلة التي يبدو أنها لن تتكرر أبدا، وعنوانها: “قل ما تريد وافعل ما بدا لك، ولكن لا تقترب من شخصية الزعيم”.

وقد كان للرواية ثقل سياسي كذلك، فالحالة السياسية على الساحة المصرية مبهمة، والإنتاج الأدبي والثقافي يبتعد كثيرا عن المساس بالخطوط السياسية الحمراء، فعادت “عمارة يعقوبيان” لتناول الهمّ الجمعي والعلاقة الملتبسة بالسياسة، والمشاكل التي تمر بها الدولة آنذاك.

رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم حمل نفس العنوان

قدّم علاء الأسواني روايته “عمارة يعقوبيان” عام 2002، فحققت انتشارا واسعا بعد أن ترجمت إلى عدة لغات وأثارت جدلا كبيرا، فقد كانت جريئة في المواضيع التي تناولتها سواء كانت سياسية أو اجتماعية، أو المسكوت عنه من الفساد والرشاوي إلى الشذوذ والعلاقات المحرمة، وكانت شخصياتها واقعية إلى حد كبير.

يحس القارئ في هذه الرواية بدفء المكان وتنوع الشخصيات والأمزجة والمستويات الاجتماعية باختلاف أدوار العمارة، إضافة إلى رصد التغيرات السياسية والاجتماعية في مصر وتأثيرها على سكان العمارة. يقول الأرستقراطي زكي باشا لبثينة، تلك الفتاة الفقيرة التي تسكن فوق السطوح: “اللي ملوش خير في بلده ملوش خير في غيرها”، فتجيبه إجابة لاذعة لا تبتعد عن الحقيقة: “لأنك عايش فيها باشا يا باشا”.

شخصيات مستنسخة ومعمار مقتبس.. سياط النقد

يرى بعض النقاد أن علاء الأسواني قد استنسخ شخصياته، وارتكن في بنائها على أعمال أدبية سابقة، مثل المعمار الأدبي لنجيب محفوظ في رواية “ميرامار” التي ضمت عدة شخصيات مختلفة على مستوى الفكر والثقافة والخلفيات الاجتماعية، على أن البعض لا يولي هذه النقطة كبير اهتمام، فالإرث الإبداعي البشري بشكل عام مبني على بعضه تراكما.

انتقادات كبيرة لفيلم “عمارة يعقوبيان” الذي فصل في خبايا المجتمع المصري خصوصا في طبقته الراقية

كما تعرضت الرواية لنقد آخر، فكثير من أحداثها وحواراتها مبنية على “النميمة” أو “التلسين” بالدارجة المصرية، وهذا النوع من الحوارات يروق كثيرا للناس البسطاء ويستهويهم، لكنها تحوي مشاكل كبيرة عندما يتناولها المثقفون والنقاد وأهل الوسط الأدبي. وبالمجمل تعتبر أحداث الرواية والفيلم موجزا بسيطا لتفاصيل أكثر إيلاما في الواقع المُعاش.

موطن الإقطاعيين.. عمارة يعقوبيان بين نظام الباشا والضباط

بميزانية إنتاج كانت الأضخم في تاريخ السينما المصرية وقتها، وبمشاركة عدد من نجوم الصف الأول، تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي لم يسلم من هجوم من أطراف عدة، لم يستسغ كل منها جانبا مما قدمه الفيلم في معالجته للأوضاع الاجتماعية والسياسية وبعض القضايا الحساسة.

يدافع نقاد عن بعض المواضيع الحساسة في الفيلم بقولهم: ليس مطلوبا من المنتج أن يؤدي سينما معقمة، ولكن حسب ما يعايش ويرى، ويقدم ما يريده أن يكون صدمة للناس في مواضيع معينة.

ويصف آخرون الفيلم بأنه أقرب ما يكون لمرثية زمن انتهى، وزمن آخر قادم. قدّم فيه إضاءات خافتة لما سوف تصبح عليه الأحوال السياسية في المرحلة القادمة، من الأفلام الشجاعة في السينما المصرية.

قادة أول انقلاب في مصر 1952 والذي لم ير الشعب بعده خيرا

وعندما ذهب الإقطاع التقليدي حل مكانه إقطاع من نوع جديد تمثل في ضباط الجيش بعد ثورة 1952، وقد استفحل فيما بعد -على رأي بعض السياسيين- ليسيطر على المفاصل الاقتصادية للبلاد بشكل عام، لكن لم يكن جميع سكّان العمارة من الضباط بعد الثورة، فقد سكنها موظفون كبار آخرون، حتى أن الأستاذ عباس الأسواني والد الكاتب علاء الأسواني، كان له مكتب في العمارة.

كانت الرواية تحمل كثيرا من الغضب تجاه دولة مبارك التي هي بشكل أو بآخر امتداد لدولة ضباط 52 “جاءت الستينيات، فصار نصف شقق العمارة يسكنها ضباط من رتب مختلفة، من أول ملازمين ونقباء حديثي التخرج، وصولا إلى اللواءات الذين كانوا ينتقلون بأسرهم الكبيرة إلى العمارة”.

اقتحام أسوار السياسة والمجتمع.. بصمات جريئة

أحدث الفيلم ضجة لافتة بسبب جرأته في الاقتراب من حدود السياسة الحساسة، وعلى الرغم من أن أعمالا كثيرة سبقته مثل “ميرامار” و”الكرنك”، وكانت تدخل إلى الممنوع من الأمن والسياسة، فإن “عمارة يعقوبيان” جاء بعد سكوت طويل ليحرك المياه الراكدة.

أما شخصية الوزير “كمال الفولي” فقد أثارت جدلا خاصا، إذ اعتبرها كثير من النقاد تجسيدا صريحا لشخصية سياسية معاصرة ذات نفوذ، وفسروا عدم تدخل هذه الشخصية لمنع نشر الفيلم، أو التضييق على الكاتب بأنه نوع من التغطية على فضائح قد تكون أكثر ضررا، بينما رأى آخرون أن الشخصية رمزية، وهي موجودة في كل مجتمع وعصر.

لم يخل الفيلم من إيحاءات عن الشذوذ الجنسي التي أثارت عاصفة من الجدل

وبجرأة أكبر قدمت الرواية والفيلم قصة الصحفي حاتم رشيد، ومجند الأمن المركزي عبد ربه، وهما من الشخصيات التي لم يعهد الجمهور تجسيدهما بهذا الوضوح، الأمر الذي أثار حولهما عاصفة من الجدل. وفي ذات الوقت لاقى تجسيد الشخصية من قبل خالد الصاوي كثيرا من الاستحسان، فقد كان الأداء بدون مبالغة أو ابتذال.

وقد تفوق الفيلم على الرواية كثيرا في وصف العلاقة بين المجند والصحفي، فبينما كانت العلاقة مباشرة وفجّة ودون إنسانية في الرواية، فقد قدّم الفيلم الشخصيتين ذواتي مشاعر إنسانية، ويعيشان مشاكل اجتماعية وجنسية أوجدت حالة الشذوذ هذه.

طه الشاذلي.. الظلم الذي يدفع إلى مستنقع التطرف

أما الشاب طه الشاذلي، المتفوق في دراسته، والبسيط ابن بواب العمارة، والذي تحطم حلمه في دخول كلية الشرطة بسبب مهنة والده، فقد عكست شخصيته نموذجا لواقع مُعاش، فحمله الظلم الاجتماعي وانتهاكات الشرطة بحقه ليقع فريسة سهلة في مستنقع التطرف والإرهاب.

عاش طه من الظلم والقهر مثل ما عاشه كثير من شباب الثمانينيات والتسعينيات المتفوقين الذين كانوا يأملون من الدولة أن تضمن لهم تعليما جيدا ووظيفة محترمة، وأن يُسمعَ لهم إذا خرجوا في مسيرات للتعبير عن مطالبهم، لكن هذا لم يكن متاحا في دولة مبارك، وبدلا عنه فالسجن والتعذيب والمهانة في انتظار من يسلك ذلك الدرب.

مشهد أثناء تعذيب الشاب طه بعد تهمته بالإرهاب الذي نتج عن سوء معاملته كمواطن

أما مشهد قتل طه للضابط الذي أهان كرامته وانتهك عرضه، دون أدنى مظهر من مظاهر التعاطف مع الضابط، فيدل على ما وصلت إليه قوات الأمن من الوحشية وعدم الإنسانية، فقد كان الناس يصطفون بجانب المتهم ضد رجل الأمن.

كشفت الرواية والفيلم عن عِلل أصابت المجتمع المصري، فقدمت الرشوة والشذوذ والابتزاز والتطرف الديني وغيرها من مظاهر الخلل، مما عدّه بعض النقاد تصديرا لصورة سيئة، لا تعبر بالضرورة عن واقع المجتمع المصري. وهي تلك الروايات التي تنظر للمجتمع من الأعلى، وتُركّز جميع مساوئه في حزمة من الشخصيات التي قلما تجدها مجتمعة في بيئة واقعية واحدة.

“تبدو في ثوب العرس مخلوقا نقيا رائعا”.. حنين إلى عصر الباشا

بلغت الرواية من القوة بحيث أصبحت البوابة التي يقرأ من خلالها الآخرُ مصر المعاصرة، وخصوصا بعد ترجمتها إلى عدة لغات، إذ يرى فيها بلد الفساد والقهر والتهميش، بلد العشوائيات والعمارات الفارهة، بلد المسحوقين والباشوات. لكنْ تبقى هذه رؤية الكاتب المبدع الذي وجد من المساحة ما أتاح له أن يطرح وجهة نظره، وليس شرطا أن تنعكس على المجتمع بأسره.

“وفكّر زكي أن بثينة تبدو في ثوب العرس مخلوقا نقيا رائعا، وكأنها ولدت اليوم، وقد تخلصت من شوائب الماضي التي لوّثتها بغير ذنب”.

الكاتب يفرق بين وجه مصر المشرق القديم قبل انقلاب 1952، ووجهها البائس الفقير بعد عصر العسكر واللواءات

إذا كانت بثينة تعبر عن مصر، فكأن الكاتب يريد أن يقول إن مصر ينبغي أن تعود إلى العصر الإقطاعي القديم، عصر زكي باشا، فالكاتب هنا يفرّق بين وجهين لمصر؛ وجهها المشرق القديم قبل ثورة الضباط الأحرار 1952، ووجهها البائس الفقير بعد عصر العسكر واللواءات، وهذه بحدّ ذاتها رؤية خطيرة وجريئة بحسب بعض النقاد.

“نحن في زمن المسخ”.. صرخة الفيلم الأخيرة في وجه العصابة

شهدت حقبة السنوات العشر التي سبقت نشر الرواية صعود كثير من أرباب المال الذين زاوجوا بين المال والسياسة، والغريب أن أكثرهم قد دخل السجن بعد ثورة يناير2011 بتهم الفساد واستغلال النفوذ، وبالتالي فهذه نقطة تسجّل للفيلم والرواية في استشرافها للمستقبل، ونبوءتها بما ستؤول إليه الأمور.

قدّم الكاتب في روايته مزيجا من الشخصيات المحكومة بالتحولات التي حدثت في مصر بعد ثورة يوليو/تموز 1952، وهي شخصيات عكست تمدد الفساد، متمثلا في تزاوجٍ بين الثروة والسلطة من ناحية، وبين حالة فقرٍ واستبداد سياسي مثلت حاضنة نبتت فيها أفكار التطرف والإرهاب.

ولخّص المشهد الأخير من الفيلم خلاصة ما رآه الكاتب وهو ينظر إلى بلده المختطفة من قبل عصابة السلطة، إذ يقول: لماذا ينظرون إلينا؟ فلينظروا إلى البلد التي خربت، إلى تلك العمارات التي كانت أحسن من عمارات أوروبا، أصبحت اليوم مزابل من فوق، ومن تحت أصبحت مسخا، إننا في زمن المسخ.. نحن في زمن المسخ.