“ريم بنّا”.. قد تحترق عنقاء الجليل لكنها لا تموت

خمس سنوات على رحيل صوت فلسطين ولحنها؛ الفنانة “ريم بنّا” التي حملت بفنّها رائحة الأرض وصمود زيتونها، عنقاء خرجت من رماد احتراقها لتملأ الأرض لحنا ونغما، بصوتها الشجي اخترقت القلوب لتوصل رسالتها. فغنّت للوطن والإنسان وللشهداء والأمهات والأسرى، ورغم رحلتها القصيرة في هذه الحياة فإنها قدمت الكثير للتراث الغنائي الفلسطيني الذي حملته للعالم وقدمته بطريقة لائقة ولافتة.

وُلدت ريم بنّا ابنة الناصرة في السادس من ديسمبر/كانون الأول عام 1966، وتصف والدتها الشاعرة زهيرة الصباغ وهي تلملم صورها ورسائلها: عند ولادتها كدت أدخل في غيبوبة لكن صوتها أيقظني وأعادني للحياة.

تتابع الأم وهي تغالب دموعها: لقد كانت طفلة جميلة، وهي من جعلتني أما وهي فرحتي الأولى، كنت أضع لها الكحل منذ ولادتها وبقي رفيقها مدى الحياة.

أما شقيقها فراس فهو رفيق طفولتها وشبابها، وقد عاشا معا في البداية في بيت العائلة ثم انتقلا لبيت الجد، حيث توفرت لها بيئة مثقفة تهتم بالأدب والموسيقى.

رحلة إلى الثلج والموسيقى

تربّت ريم في بيت جدها على أصوات قامات كبيرة من الفنانين العرب والفلسطينيين مثل الكبيرة فيروز والثائر أحمد قعبور، ورافقتها أدبيات وروايات الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، مما أثر بشكل كبير على مسيرتها الفنية وأثراها فيما بعد.

بدأت ريم الغناء من المدرسة وبرزت بأنشطتها، خاصة تلك المتعلقة بالفن والغناء وكان أول دور لها في مسرحية “ميس الريم” حيث قامت بأداء دور الفنانة فيروز.

دراسة الموسيقى بروسيا هو التخصص الذي اختارته ريم بعد حصولها على منحة دراسية من حركة النساء الديمقراطيات

كانت ريم فتاة تضج بالحيوية والنشاط وقبل إنهائها المرحلة التعليمية حصلت على منحة دراسية من حركة النساء الديمقراطيات للدراسة في العاصمة الروسية موسكو، وقد اختارت الغناء كما اقترحت عليها صديقاتها، فقامت بتسجيل شريط غنائي بصوتها ليعينها على المصروفات أثناء الدراسة، لأن وضع العائلة المادي لم يكن جيدا.

كانت سعيدة في بداية رحلتها إلى موسكو بالثلوج والألوان إلا أنها سرعان ما هزّها الشوق والحنين إلى بلدها، وبعد ست سنوات تخرجت من المعهد العالي للموسيقى في موسكو وعادت إلى أرض الوطن الذي أحبته وغنت لأجله.

أغنية الحلم.. أول المسيرة

ذات يوم كانت ريم تجلس كعادتها تعزف الغيتار وتغني، ثم قالت لوالدتها أريد أن أسمعك شيئا، كانت أغنية الحلم وهي قصيدة كانت كتبتها والدتها وقامت هي بتلحينها وغنائها، تقول والدتها: لقد كان لحنها الأول وتأثرت به كثيرا.

كتبت ريم في إحدى خواطرها: كان في مدرستنا أستاذ حصته مملة لدرجة أننا ننام أثناءها، ومرة قال لي بالعامية “مارح يطلع منك شيء”، لكنني بعدها جلست سنوات أسجل أغاني في أستوديو بيتي وبإمكانياته المحدودة، لم أكن على عجل ولم أبحث عن الشهرة، انظروا لأنفسكم وقولوا لنا إننا قادرون على النجاح.

مثّلت ريم المرأة الفلسطينية المقاومة، فقد أثرت فيها مذبحة صبرا وشاتيلا وجعلتها تتجه لأغنية المقاومة وحب الأرض

كانت ريم أما لثلاثة أبناء بذلت لأجلهم الكثير، تقول ابنتها بيلسان: لقد عرفتها كأم وليس كفنانة، اعتنت بي ولم تسافر من دوني ولم تتركني حتى عند جدتي، كانت قادرة أن تكون أما ناجحة ومغنية في نفس الوقت.

صبرا وشاتيلا.. أغنية المقاومة

جابت ريم البنا العالم مدافعة عن قضيتها العادلة، عن فلسطين وشعبها وعن القدس، فمثّلت المرأة الفلسطينية بأبهى صورة، لقد تشكل وعيها في بداية الثمانينيات وأثرت فيها مذبحة صبرا وشاتيلا كثيرا، وأصبحت تتجه للمقاومة والانتماء للأرض.

“تهاويد من محور الشر” هو ألبومها الذي بدأت فكرته من النرويج وفي مقدمته أغنية “يا ليل ما أطولك”

يروي صديقها أيمن أبو جبل أنه تعرف عليها بعد خروجه من المعتقل، ويقول: كنا نريد عمل مهرجان التضامن مع الأسرى السوريين في سجون الاحتلال، واقترح صديق اسم ريم وعندما اتصلت بها وسألتها عن المبلغ الذي تريد أن تتقاضاه أجابتني: “هل تتصل لإحياء مهرجان أم لإهانتي؟”. جاءت ريم إلى الجولان وأحيت أمسية في قمة الروعة وغنّت لفلسطين والأسرى والشهداء والأمهات، كان ذلك في العام 1996.

تميزت عنقاء فلسطين بغناء المدائح والتهاليل، وغنّت قصائد لكثير من الشعراء كمحمود درويش، كما كانت مؤلّفة ومُلحنة ومغنية، وغنت كلاسيكيات التراث الفلسطيني بشكل عصري ولمسات صوفية.

يا ليل ما أطولك.. تهاويد من محور الشر

ذاع صيت ريم بنا في دول أوروبا بعد مشاركتها في ألبوم غنائي حمل اسم “تهاويد من محور الشر”، وشاركت فيه إلى جانب المغنية النرويجية “كاري بريمنس”، وتضمنت فكرة الألبوم وجود مغنيات من الدول التي أطلق عليها الرئيس الأمريكي جورج بوش “محور الشر”، كان الألبوم أشبه برسالة موسيقية رافضة للسياسيات الأمريكية.

ألبوم ريم بنا للأطفال “نوّار نيسان” وُزّعت نسخه على أطفال المخيمات مجانا

يقول المنتج الموسيقي “إيريك هيليستاد”: بدأت الحكاية مع ريم في نهاية عام 2002، فقد كنت طلبت من صديقي سهيل خوري من القدس مساعدتي بالبحث عن امرأة تغني التهاليل، فقال لي يجب أن تتعرف على ريم بنا، ثم ذهبنا بسيارته إلى الجليل والتقينا بها وبتوأمها في إحدى غرف بيتها، كان زوجها يعتني بالأطفال وأنا قمت بتثبيت معدات التسجيل، وقد قامت بغناء أول التهاليل، لن أنسى تلك اللحظة، لقد تأثرت كثيرا عندما بدأت بالغناء:

يا ليل ما أطولك
مشيتني حافية ميزان
ما أثقلك هديتلي كتافي

ويتابع “هيليستاد”: كان الغناء ملفتا وجميل وهو موجود الآن في “تهاويد من محور الشر”، وعندما عدت إلى النرويج دمجت “يا ليل ما أطولك” مع غناء الفنانة “كاري بريمينس”، وهي مغنية نرويجية، وأنتجنا أغنية بأداء مشترك (دويتو).

“نوار نيسان”.. تهويدة لأطفال المخيمات

عملت ريم مع “إيريك هيليستاد” مدة خمس سنوات، وشمل العمل إنتاج ألبوم للأطفال حمل اسم “نوّار نيسان”، كانت فكرة ريم أن توزع نسخ الألبوم على أطفال المخيمات خارج وداخل فلسطين، وبدعم من الكنيسة النرويجية أنتجت النسخ ووزعت فعلا على أطفال المخيمات مجانا.

الفنانة الفلسطينية ريم بنا زارت عددا من العواصم العربية وأقامت فيها العديد من الحفلات

تقول بيسان ابنة ريم: كان هدف والدتي أن يبقى أطفال فلسطين على تواصل مع موسيقى التراث، كانت عندما تصعد للمسرح تشرح للأجانب والعرب عن أغنيتها وقصتها، مثل أغانيها عن محمد الدرّة وسارة عبد الحق وفارس عودة، أما أغنية “كرمل الروح” فهي من كلمات والدتي ولحنها وغنائها فقد غنت فيها للأسرى.

سفيرة التراث الفلسطيني.. سفر فني في فضاء عالمي

يقول وزير الثقافة الفلسطيني السابق إيهاب بسيسو: انحازت ريم للكلمة الشعرية، التي تعبر عن قضايا الإنسان الفلسطيني والمناداة بالحرية للشعب ضد الاحتلال، وهو ما أوصلها للفضاء العربي والدولي.

زارت الفنانة الفلسطينية العاصمة اللبنانية بيروت وأقامت فيها العديد من الحفلات، وهناك التقت بالفنان أحمد قعبور، وتوطدت العلاقة بينهما، ويصفها الفنان قعبور بأنها في غاية الاندفاع والشغف، وهذا ما دفعه لعمل مشترك جمعهما في أغنية “مين”، طلبت منه ريم غناء المقطع الثاني من الأغنية، وكانت تغص باسم محمد الدرة بطريقة تفوق البكاء، ويضيف أنه كان يتابع أعمالها كمستمع عربي، ومتابع للأغاني ذات الطابع الإنساني والمصيري.

هناك في لبنان استضافها المذيع زاهي وهبي في برنامجه “خليك في البيت”، ومن ثم برنامج “بيت القصيد”، ويقول زاهي إنه جمعته بريم صداقة والكثير من الود والرسائل والأمسيات وزيارات للمخيمات.

غنت ريم في بيروت بقصر اليونسكو ترافقها آلة عزف واحدة بسبب ظروف الإنتاج والسفر، ولكنها أبدعت وتفوقت. تقول المغنية أميمة الخليل: نقلت ريم التراث الفلسطيني، ورغم عمرها القصير فإن نشاطها كثيف وباق.

شاركت ريم أيضا في مهرجان قفصة بتونس، تجلس الفنانة التونسية لبنى نعمان في بيتها تتذكرها، وتقول: إن هذا البيت شاهد على قصص عشتها مع ريم، كثير من الدموع والضحك والغناء والحب، لقد كانت تعشق تونس، كأنها عاشت هنا قبل ألف عام في حياة أخرى، كانت قوية حتى في المواقف التي تُجرح فيها، تخلق منها حالة قوة أخرى.

مسيرة الكفاح ضد المرض.. إلهام الوطن

كان العام 2009 عاما حزينا مرا ومأساويا على عائلتها عشاق فنّها، فقد أعلن فيه عن إصابتها بسرطان الثدي، كان هذا الخبر صاعقا بالنسبة للعائلة، ورغم صعوبات الحياة التي مروا بها إلا أن مرض ريم شِقّ آخر من المعاناة، لقد أصيبت ولم تتجاوز الـ42 من عمرها، لكنها صمدت ولم تخبر أحدا إلا بعد أن أجرت الفحوصات. تقول ابنتها: حكت لنا عن أن شكلها سيتغير، وقد تصبح بدون شعر ولا حواجب فلا تخافوا، لأني سأبقى أمكم المحبة.

أما طبيبها سالم بلان فيقول: كان وضعها صعبا وكانت في مرحلة متقدمة حتى أن الورم وصل العظم، وفي هذه الحالة لا يستطيع الطبيب أن يعِد بالكثير.

وفي مذكراتها تقول ريم: اكتشفت أنني مصابة بالسرطان، فقاومته على مبدأ جال في خاطري، وشبهته بالاحتلال الذي يغزو فلسطين وهذا المرض يريد أن يغزو جسدي سأقاومه مثلما نقاوم الاحتلال.

خلال فترة مرضها أمدّت ريم من حولها بالأمل والطاقة الايجابية، وقد تفاعل العلاج معها بطريقة تفوق التصور، كما يقول طبيبها: “فليس من السهل أن تعيش مع سرطان منتشر لمدة تسع سنوات”.

كانت قوية في تلك الفترة وعلى الرغم من فقدانها لأوتارها الصوتية وبالتالي فقدت دخلها، فقد تفجر في داخلها إبداع من نوع آخر، فقد أصبحت تعمل على مشغولات التطريز الفلسطينية وتبيعها لتعيل أطفالها.

هرب الغزالة من بين الورد المسجى.. رسالة نعي بخط اليد

قبل أيام من وفاتها كتبت ريم:

بالأمس.. كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي..
فكان عليّ أن أخترع سيناريو..

ريم بنا كتبت شعرا مؤثرا تنعي به نفسها بعد تفشي المرض في جسمها

فقلت..
لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ.. لا يدوم..
حين أخلعه.. سأهرب خِلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق ..
وأترك الجنازة “وخراريف العزاء” عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام.. مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة..

وسأجري كغزالة إلى بيتي..

سأطهو وجبة عشاء طيبة..
سأرتب البيت وأشعل الشموع..
وانتظر عودتكم في الشرفة كالعادة..
أجلس مع فنجان الميرمية..
أرقب مرج ابن عامر..
وأقول.. هذه الحياة جميلة..
والموت كالتاريخ..
فصل مزيّف..
ريم_بنا

وفي رثاء ريم.. كلام

هكذا غادرت ريم بنّا الحياة بعد أن حلقت روحها ورحلت، لكنها بقيت حاضرة بصوتها الندي العذب، ملهمة لأجيال فلسطينية آتية، مع معاني الحرية والقوة والسلام. وفي رثائها كتبت الشاعرة اللبنانية جاهدة وهبي:

“كم أنت جميلة يا ريم.. هزئت من الموت بابتسامة.. بنغمة متحشرجة كسرته.. هتكت جدار المرض وابتكرت حيوات الحب والنغم.. يا فارهة الحلم.. يا باسقة الكبرياء.. كم أنت جميلة في انتحار الموت فيك واندحاره”.