“سابا الأب والابن”.. عائلة تقاتل بالكاميرا في سبيل التاريخ الفلسطيني

يحاول الاحتلال الإسرائيلي طمس الهوية الحقيقية لفلسطين الأرض والإنسان، في سبيل تغليب نظريته التي قام عليها، وهي أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ويسعى من أجل ذلك إلى تغييب ذاكرة فلسطين البصرية ومحو تراثها في المخيلة الجمعية الفلسطينية.

“سابا الأب والابن”، هو أول ذاكرة بصرية مصورة عن الناصرة، وذلك رغم محاولات الاحتلال تضليل العالم من خلال جلب بعض المصورين الغربيين اليهود الذين صوروا فلسطين كأرض صماء بلا شعب. ويأتي هذا الفيلم ضمن سلسلة أفلام “مصورو فلسطين” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية.

“تحولت صوره لأيقونات ووثائق وشواهد تاريخية”.. ابن الناصرة

ولد ابن مدينة الناصرة فضيل سابا في عام 1901، ويعد أحد أهم المصورين الفوتوغرافيين في فلسطين، وقد نقل جمال مدينته بعيني محب، وطور مشروعه وكان مصورا طموحا وشجاعا، والتقط كثيرا من الصور لمناطق مختلفة داخل فلسطين وخارجها. يقول المصور جمال كيوان: صور فضيل سابا جبل طابور ووادي الحمام وقرية حطين المهجرة التي لم يبق منها سوى المسجد، وكانت صوره مكتظة بالسكان وتنبض بالحياة.

لم يكن فضيل سابا مصورا عاديا، فقد رافق مجموعة من البعثات الأثرية في فلسطين وبلاد الشام، وفي الحفريات في مصر، وأنطاكيا في منطقة الأناضول في تركيا، وكان يصور المصاطب والفيسيفساء التي تحتاج إلى تقنيات عالية في التصوير، وتحولت صوره لأيقونات ووثائق وشواهد تاريخية، وثقت الحياة اليومية الفلسطينية للرجال والنساء والكنائس والمساجد.

امتلك فضيل سابا استديو في مدينة الناصرة، مما مكنه من توثيق تاريخ فلسطين في تلك الحقبة التي سبقت الاستعمار، ولم يكن عمله بتلك السهولة، فقد كان التصوير في بداياته، وكان يضطر للعمل يوما كاملا من أجل صورة واحدة، حيث كان الفيلم عبارة عن صورة.

كان حريصا على أن تكون النتيجة مرضية، وبسبب حجم الكاميرا الكبير، اضطر للاستعانة بمساعدين، وكان حريصا على فحص الإعدادات حتى لا تحترق الصورة، وقد عمل من العام 1925 حتى العام 1935 كمصور في فلسطين قبل هجرته إلى الولايات المتحدة.

يوجد في الناصرة عين ماء شهيرة، تسمى عند المسلمين “عين ستّنا مريم”، وعند المسيحيين “عين العذراء”

عين العذراء.. تصوير المواقع السياحية المقدسة

تعد مدينة الناصرة مركزا سياحيا لمكانتها الدينية المقدسة عند النصارى، كونها مكان مولد المسيح والسيدة مريم العذراء، وكان الناس يرتادون عين العذراء من أجل الماء، وكذلك كان يفعل سابا، ولكن لالتقاط الصور العفوية التي تنقل الحياة اليومية للناس.

تقول الأديبة زهيرة الصباغ عن تلك العين: كان المسلمون يسمونها (عين ستّنا مريم)، أما المسيحيون فأطلقوا عليها اسم (عين العذراء)، حيث كانت النساء تأتي إليها بملابسهن التقليدية والجرار على رؤوسهن، وتكون المرأة منتصبة وهي تحمل جرتها، وتركّزها بإكليل (لفة من القماش) تضعه على رأسها، وتكون مائلة إذا كانت فارغة.

هذه العين كانت مقصد الخطاب، فمن يريد أن يخطب فتاة يراها على العين، كما مر عليها عدد من الجيوش التي دافعت عن المدينة في حقب متعددة.

بطاقات بريدية من تصميم فضيل سابا توثق التراث الفلسطيني

الطوابع والبطاقات البريدية.. توثيق معالم الناصرة

أنتج فضيل سابا عددا من الطوابع والبطاقات البريدية التي وثقت أكثر معالم مدينة الناصرة. يقول جامع الصور بوعز بوكي: بدون أدنى شك، يمكننا أن نعرف من هو صاحب السيادة من خلال البطاقات والطوابع البريدية، فهذه بطاقة خاصة بمدينة الناصرة أرسلها شخص ما في أغسطس/ آب 1918، وكان الطابع تركيا، أما بعد الاستعمار البريطاني فقد أصبحت الطوابع بريطانية، وكانت هذه الطوابع تحمل صورا للحياة اليومية، للمرأة والعائلة.

صورت الطوابع عملية طحن القمح بالرحى، وهي عادة يومية، فقد كانوا يشترون القمح يوميا ويطحنونه ويصنعون الخبز، حيث تجتمع النسوة ويتبادلن أطراف الحديث، وهذا من مصادر التراث الشفوي.

تقول زهيرة الصباغ: تستهويني صور المرأة، لأنها تسرد قصص الحياة اليومية التي عاشوها، أتذكر جدتي وهي تطحن، كنت أحاول مساعدتها ووضع القمح لها، كانوا ينقون الحبوب والعدس، فهذا جزء من حياتهن وجهدهن، أنا أسكن في حارة الروم وفي نفس الحارة بيت فضيل سابا الذي تربى فيه قبل أن يرحل إلى أميركا، وهو منزل مطل على الناصرة وبكل تأكيد كان يستوحي من تلك الإطلالة مواضيع صوره.

“تصوير فضيل سابا الناصرة فلسطين”.. ما قبل الهجرة

بعد النكبة اضطر كثير من أهل الناصرة للهجرة، وقد كان من بين أبناء الناصرة الذين فقدتهم وربحتهم بلدان المهجر فضيل سابا. يقول القس نائل رحمون: لقد نجحت شخصيات فلسطينية كثيرة في المهجر، لكننا خسرناهم هنا في الوطن، منهم فضيل الذي كان مصورا شمسيا محترفا وثق لمعالم وأمور أصبح من الصعب اليوم الوصول لها بسبب الاحتلال، فلم يعد التصوير في فلسطين توثيقا، بل يقتصر على الصور العائلية والحفلات، لقد استطاع الاحتلال -بالإضافة لسرقة الأرض- سرقة التصوير والتوثيق.

أما الكاتب خالد عوض فيقول متحدثا عن فضيل: استطاع أن يجد لنفسه مجموعة من البطاقات البريدية السياحية المميزة، وليخرج من مشكلة التواقيع وحقوق الملكية ميز بطاقاته البريدية بحجم مختلف عن ماهو متعارف عليه في زمنه، فقد كانت (10/15)، أما صوره فكانت بقياس (9/14)، وقد جمع عشرة صور أدخلها في مغلف خاص، وكتب عليه: تصوير فضيل سابا الناصرة فلسطين.

كانت صور فضيل سابا عبارة عن رزم، إحداها للناصرة وأخرى لطبريا وهكذا، وتحتوي تلك الصور مناظر طبيعية، وكانت بحجم أصغر لذا كانت أرخص، إذ كان ورق التصوير باهظ الثمن وكانت الطباعة أعلى تكلفة من التصوير، وبذلك استطاع توفير المال، وعلى الوجه طباعة عربية، وعلى الوجه الآخر كتب الناصرة بالإنجليزية.

مدينة الناصرة.. أولى صور سابا الأب، لا تزال محفوظة في ذاكرة فلسطين

ناصر سابا.. شيخ المصورين الفلسطينيين

يقول بوعز بوكي: هناك استمرارية بين فضيل سابا و(ن. سابا) الذي سبقه، وقد يكون والده أو أحد أقربائه، لكنه عمليا واصل العمل في الأستوديو الخاص به، لقد كانت صور (ن. سابا) نادرة جدا، فقد صادفت القليل منها، والسبب أنها أقدم بكثير من صور فضيل.

لكن القس نائل رحمون جاء بالكلام الفصل، إذ ثبت لديه أن (ن. سابا أو ن. م سابا) هو ناصر منصور سابا والد فضيل، وهو موجود في سجلات سكان الناصرة، وقد دفن فيها وسجل الدفن موجود، إذ توفي في 3 سبتمبر/ أيلول من عام 1906 عن عمر ناهز 45 عاما.

يقول القس: بكل وضوح هو من مواليد 1861، أما سجلّ زواج فضيل سابا فقد كان في كنيسة المسيح الإنجيلية في الناصرة، ورقمه 40 وقد تزوج في 17 أغسطس/ آب عام 1926 واسمه فضيل ناصر سابا، وتزوج من نقولا رمضان، وكان عمره 25 عاما ويعمل مصورا شمسيا (فوتوغرافي)، أما أبو العريس -كما في السجل- فهو ناصر منصور، ومهنة الأب أيضا مصور، وقد أطلق على ناصر سابا لقب شيخ المصورين الفلسطينيين، لأنه أول مصور فلسطيني، وهو فخر لنا.

مدينة الناصرة.. الصورة الفوتوغرافية الأولى

وقد سبق ناصر سابا المصور خليل رعد في التصوير، رغم أن خليل يكبره سنا، وذلك لأن معظم أعمال رعد تعود للقرن العشرين، ويؤكد بوعز بوكي ذلك بسبب نوعية الورق المستخدم في ألبوماته، بينما تعود ألبومات ناصر سابا لنهاية القرن التاسع عشر.

يقول خالد عوض: ناصر سابا سبق خليل رعد بعمله في التصوير، فقد اهتم خليل رعد بنشاط التصوير، لكن ناصر سابا يعود له الفضل بسبب أنه وثق الصورة الفوتوغرافية الأولى، وهذه نقطة أساسية لأن الناس لم يروا منظرا عاما لمدينة الناصرة قبل التي صورها ناصر سابا.

كانت صورة تاريخية يمكن من خلالها معرفة عدد السكان وديموغرافية المنطقة، وهي ركيزة مهمة للباحث والمؤرخ والكاتب على حد سواء.

التقط ناصر سابا العديد من الصور لشخصيات كبيرة وكان يضع ختمه الخاص عليها من الخلف

“ناصر سابا مصور شمس الناصرة فلسطين”

يرى بوعز بوكي أن من الأمور المثيرة في صور ناصر سابا الورق المصنوعة منه والمسمى ورق البومين المصنوع من زلال البيض، ولذلك سمي البومين، وهو ما يميز القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين كحد أقصى.

هناك صورة لناصر فضيل، لكنها ليست صورة حقيقية، بل مصنوعة من النقش الملون باليد، وفي الخلف موضوع البطاقة البريدية، وهي غير مقسمة، وهذا يعني أنها تعود للقرن التاسع عشر بداية القرن العشرين.

صوّر ناصر سابا عددا من المطارنة والبطاركة، وكان يضع على صوره ختما كتب عليه “ناصر سابا مصور شمس الناصرة فلسطين”، وكان ختما مميزا ومزخرفا بنقوش تأثر فيها بالنقوش العثمانية.

قرية حطين، من صورة ناصر سابا، يظهر المسجد هو ما تبقى منها بعد الاحتلال الصهيوني

بيوت المدينة القديمة.. آخر ما بقي من ملامح طبريا المقدسة

لم يبق من إرث فضيل سابا الكثير، وقد وجدت إحدى الرسائل النادرة له، وتعود للعام 1921، ويقول فيها: سيدي العزيز إذا كان لديك لوحات إمبيريال للتصوير الفوتوغرافي أرجو إعلامي بالحجم والسعر والماركة في أقرب وقت ممكن.

يقول بوعز بوكي: مع مرور الزمن تتغير الأمور، ومثال على ذلك صور لطبريا فيها بيوت المدينة القديمة التي لم تعد موجودة اليوم، واستبدلت ببيوت أخرى.

أما المصورة صفاء الخطيب فتقول: اعتاد فضيل سابا التصوير في طبريا كونها واحدة من المدن المقدسة، ونرى في الصورة القديمة لفضيل الميناء والمسجد وبعض السفن.

في معاهد الفنون بفلسطينالمحتلة، لا يدرس الطلاب عن المصورين الفلسطينيين، أمثال فضيل سابا

أكاديمية الفنون والتصميم.. مناهج تتجاهل المصورين الوطنيين

وقد اعتمد فضيل في كثير من الجامعات الغربية وخاصة الجامعات الأمريكية لتصوير الآثار والمعالم في الشرق الأوسط، وتضيف صفاء الخطيب أنها تخرجت من الأكاديمية للفنون والتصميم في القدس، التي تأسست عام 1906.

تأسست الأكاديمية على يد “بورس شات” أحد أصدقاء “بن غوريون” الذين قدموا بهدف صهيوني وفي أكاديمية صهيونية، وكان عليهم التحدث عن أسياد التصوير الغربي، ولم ندرس في المناهج عن المصورين الفلسطينيين، أمثال خليل رعد وكريمة عبود وفضيل سابا.

فلسطين الجميلة التي رأينها بعيون سابا، تحفزنا للبحث في الأرشيف وعرض ذلك على الأجيال الناشئة، فمهما حاول الاحتلال بكل قوته وإمكانيته تشويه الحقيقة، ستبوح الأرض بأسرارها، ولن تنكر يوما أبناءها العظام.