سجن سان بيدرو.. مملكة ذات حكم ذاتي داخل بوليفيا

عبر أربع قارات وستة سجون مختلفة؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “أعتى السجون في العالم”، فتذهب إلى ما وراء البوابات والجدران وقضبان النوافذ، إلى عالم مجهول نعلم بوجوده لكننا لا نريد التفكير فيه، إنها من أقسى السجون في العالم، حتى إن زعماء العصابات والقتلة يجربون فيها معنى الخوف. تدخل كل حلقة من حلقات السلسلة إلى عالم السجناء، ترصد حياة القدامى منهم والجدد الذين يقضون ليلتهم الأولى في الزنزانة، والأمهات اللواتي يتعين عليهن تربية أطفالهن خلف القضبان، والمجرمين الذين ينتظرون مصيرهم. وفي هذه الحلقة من السلسلة نتناول سجن “سان بيدرو” في بوليفيا.

 

حسن العدم

“فيكتور هوغو ميندوزا” ملك سان بيدرو لا تحاول أن تبحث عن هذا الاسم في غوغل، فلن تجده بصفته هذه، لأن ميندوزا هو واحد من ثلاثة آلاف نزيل، يعج بهم سجن سان بيدرو في لاباز، عاصمة بوليفيا.

كان مصور فيلم “سان بيدرو.. بوليفيا” ضمن سلسلة “أعتى سجون العالم” والذي عرضته الجزيرة الوثائقية، محظوظا عندما التقط له صورة وهو يمارس أعماله “الدستورية”، أما قصة أنه ملك فسوف نتعرف عليها لاحقا.

لاباز عاصمة بوليفيا الفعلية هي أعلى عاصمة فوق سطح الأرض على ارتفاع 3700 متر فوق سطح البحر، يحتضنها أحد أخاديد جبال الأنديز الشاهقة في غرب أمريكا اللاتينية، وتعتبر بوليفيا من أفقر بلدان القارة، ويتحكم بها بعد السياسة المضطربة عاملان، الفقر والجريمة، فهي تعتبر ثاني أكبر مصدر للكوكايين في أمريكا الجنوبية، ويسيطر الجوع والفقر على معظم سكانها.

أما “سان بيدرو” فهو السجن الأسوأ سمعة في البلاد، بل وفي القارة كلها، يتربع بمساحته الشاسعة وأقسامه الثمانية المتهالكة على أحد التلال وسط لاباز العاصمة، وتعلوه الأسوار الشاهقة من جهاته الأربع، حيث يبلغ ارتفاعها ما يزيد على ثمانية عشر مترا.

 

مملكة الجحيم.. خطة الإصلاح الفاسدة

“سان بيدرو” السجن الوحيد في العالم الذي لا يجرؤ الحراس أو الشرطة على دخوله، عشرون ضابطا كل همهم ألا تنتقل أحداث العنف من داخل السجن إلى خارجه، أما ما يحدث في الداخل من فظاعات فلا شأن لهم به.

تم تصميم هذا السجن قبل 100 عام تقريبا، ليتسع لـ600 سجين كحد أقصى، أما اليوم فيسكنه أكثر من ثلاثة آلاف شخص بين رجل وامرأة وطفل، بعضهم مذنب وكثير منهم أبرياء، فبعد خطة الإصلاح التي اتخذتها البلاد قبل عشرين عاما، صارت إدارة السجن بيد النزلاء أنفسهم، وأصبح باستطاعة السجناء اصطحاب عائلاتهم معهم داخل السجن.

في الحقيقة أنها لم تكن خطة إصلاح بقدر ما هي تخفيض للنفقات الحكومية على السجن، فهذا البلد الذي أرهقه الفقر والفساد لم يعد قادرا على دعم الأسوياء من أبنائه فضلا عن المجرمين، ولك أن تتخيل الآن مدى الوضع المأساوي الذي يعيشه فيه أكثر من خمسة أضعاف سعة هذا السجن المتهالك.

“كارلوس غاييغوس” ضيف جديد على سان بيدرو، دخل السجن بتهمة السطو المسلح، كان حرا قبل أن يدخل بوابة الجحيم، أما الآن وبعد أن أُوصدت خلفه، فهو رهينة بيد الملك، سوف تتحدد مدى قوته وقدرته على البقاء في هذا المكان الذي لا يصلح للحياة الآدمية بناءً على نوع جريمته، ومدة محكوميته، وقدرته على الدفع. ها هو الآن يقف أمام الملك، والملك يقوم بدراسة ملفه، ويلقي عليه التعليمات والأوامر، ويحيطه علما بقوانين “مملكته”.

دولة داخل دولة

إنها مدينة داخل مدينة، أو دولة داخل دولة، فالسجن له قوانينه الخاصة التي وضعها “الأوصياء”، وله “ملك” وهيئة تنفيذية وقانون وعقوبات صارمة، وبه حوافز تشجيعية، وفيه الطبقة الحاكمة المتنفذة، والبورجوازيون ذوو الامتيازات الخاصة، وهناك الطبقة الوسطى من الحرفيين والصُنّاع، وهنالك الأكثرية المسحوقة التي لا تكاد تتنفس الهواء.

والأوصياء هم السجناء القدامى ذوو المحكوميات العالية، وغالبا ما يكونون من القتلة واللصوص وتجار المخدرات، وزعيمهم هو “الملك فيكتور هوغو ميندوزا” المدان بأربع جرائم قتل، وهو الذي يتحكم بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالسجناء؛ من لحظة توزيعهم في العنابر حسب جرائمهم أو حسب قدرتهم المالية، إلى إطعامهم وتشغيلهم، وحتى توزيع المهام الإجبارية عليهم من تنظيف السجن وغسيل الملابس وغيره.

"فيكتور هوغو ميندوزا" ملك سان بيدرو وهو يمارس أعماله "الدستورية"
“فيكتور هوغو ميندوزا” ملك سان بيدرو وهو يمارس أعماله “الدستورية”

 

السفر إلى العصور الوسطى

منذ أن سلَّمت السلطات مقاليد الحكم للأوصياء في الداخل، فإن شرطة وحرّاس السجن أصبحت تنتهي صلاحياتهم على بُعد بضعة أمتار داخل البوابة الرئيسية، فبعد تسجيل المعلومات عن السجين الجديد وأخذ بصماته وصورته الشخصية، يرافقه أحد الحراس إلى باب داخلي عبر الأنفاق المظلمة، ثم يلقى مصيره المحتوم بعد أن يتلقفه أحد الأوصياء ويدخله على “الملك”.

أما الجرائم والأعمال القذرة والتجاوزات فمسكوت عنها داخل السجن، ما دامت في علم الملك وبعد إذنه، فمن بيع المخدرات إلى مضاجعة النساء إلى لعب القمار، وحتى الربا والرشاوي وغسيل الأموال والهواتف المحمولة، كل ذلك مسموح ما دامت العمولات تتدفق على الملك وأوصيائه، ولكن أي تجاوز خارج هذا النطاق ولا تصل منفعته إلى الملك، فعقابه الحرمان والجوع، والتعذيب والإغراق في الماء الآسن، وحتى الموت بأسنان الجرذان والقوارض.

داخل المجهول.. يا ليت قومي يعلمون

في داخل هذا السجن يبيع الناس ويشترون، ويشتغل النجارون والحدادون وأصحاب الحرف اليدوية، وهناك المراسلون الذين يوصلون الرسائل، سواءً المكتوبة منها أو الصوتية، كما يقومون بتوصيل المواد العينية والطعام من الزوار على البوابة الرئيسية إلى النزلاء داخل السجن.

وهناك السفلة من السجناء الذين لا يتقنون أي عمل، فهؤلاء إما أن يرضوا بالقليل لقاء تنظيف دورات المياه القذرة، أو غَسل الملابس المقرفة، أو تنظيف العنابر وردهات السجن، أو يستسلموا لمصيرهم المحتوم، أي الموت بلا رحمة.

“خافيير بلانكو” الإسباني الأصل، ذو الثمانية والثلاثين عاما، رماه قدَره في هذا السجن المخيف بسبب جريمة تهريب المخدرات.

يقول مصور الفيلم: نظرتُ في عينيه فإذا هو يبكي بحرقة، كان يتحدث إليَّ والحشرجة بادية بين كلماته المتقطعة، “تباً للأوروبيين كم هم أنانيون، إنهم يعيشون على لحوم البشر الآخرين، ليتهم يعلمون كم يعاني الناس في أنحاء العالم من أجل توفير الرغد والرفاهية لهم، ما ذنب الأطفال والنساء القابعين هنا، لماذا لا يحصلون على لقمة العيش، بينما أطفال الأوروبيين ينعمون بالدفء والنظافة والطعام الوفير؟

أنا أكرههم مع أنني منهم”.

السجين يمكنه أن يستأجر غرفة ضيقة داخل السجن مقابل مبلغ مالي
السجين يمكنه أن يستأجر غرفة ضيقة داخل السجن مقابل مبلغ مالي

 

الصراع من أجل سد الرمق

يحرص الإسباني “بلانكو” على أن لا يغادر حجرته الحقيرة التي لا تتجاوز ثلاثة أمتار مربعة، إلا للضرورة القصوى، إنه يخاف من الوحوش البشرية خارج بابه الموصد، حجرته هي ورشة النجارة وغرفة الطعام وسرير النوم، وحتى قضاء حاجته الفطرية فيفعلها داخل الغرفة نفسها.

يخرج في النهار فقط لدقائق معدودة، يسَلِّم أعمال النجارة التي عمِلها لأصحابها، ويستلم من الزبائن أعمالا أخرى، ويشتري ما يلزم من الطعام ويعود، عليه أن يعمل بجدّ حتى يؤَمن أجرة هذه الحجرة الحقيرة، وإلا فسوف يرميه الأوصياء خارجا.

أعمال الترميم المتواضعة مستمرة في هذا السجن المتهالك خشية انهياره، والملك ميندوزا يصعد فوق سطح أحد أقسام السجن الثمانية، ليتدارس مع معاونيه موضوع التوسعة القادمة للسجن، ويبحث معهم سبل التمويل، وكيفية الحصول على التبرعات والمعونات من الخارج، ثم مواد البناء اللازمة؛ مثل القرميد والطوب والإسمنت، وكيفية إدخالها إلى السجن.

هذه المأساة هي حقا ما يحدث في هذا الجحيم، فالحكومة لا تموِّل شيئا في السجن سوى وجبة الغداء القليلة الفقيرة، والتي لا تكفي لثلث النزلاء، أما الباقي فعليهم الصراع من أجل سد الرمق.

العائلات البريئة.. يوم يصبح السجن أكثر أمانا

“مشيل أورتاغو” زوجة أحد السجناء واسمه “سيزار أورتاغو”، دخلت السجن برغبتها الكاملة من أجل أن تكون بجانب زوجها، ليس عليها أية تهمة، ولكنها تخشى العيش هي وطفلتها الرضيعة “إسكرليت” ذات الخمسة أشهر في لاباز، فالسجن أكثر أمانا لهما من الخارج.

في الغرفة ذات الستة أمتار مربعة، استطاعت ميشيل أن تحولها من مكان مليء بالقاذورات والصراصير والجرذان إلى مكان صالح للسكن، ولكنها ما تزال في رعب دائم من هذا العالم الرهيب حولها.

يقول “سيزار”: المال هو الذي يحرك الحياة هنا، دخلت السجن ومعي عشرة آلاف بيزو، لم يتبق منها في اليوم الثالث سوى تسعين بيزو، إذا لم أعمل بجد كل يوم فسوف تموت عائلتي جوعا.

ويضطر “سيزار” إلى دفع ما يعادل 100 دولار شهريا أجرة هذه الحجرة الضيقة، ولذلك فهو وزوجه يصنعان المخبوزات ويبيعانها للسجناء وعائلاتهم كل يوم حتى يحصلا على المال الكافي لدفع الأجرة وإطعام صغيرتهما.

في داخل هذا السجن يبيع الناس ويشترون، ويشتغل النجارون والحدادون وأصحاب الحرف اليدوية
في داخل هذا السجن يبيع الناس ويشترون، ويشتغل النجارون والحدادون وأصحاب الحرف اليدوية

 

لا يموت فيها ولا يحيا.. عقوبة الخيانة العظمى

بالرغم من كل ما يدفعه “سيزار” فإنه أموره لا تسير بشكل جيد بالضرورة، فعائلته تتعرض لمضايقات السكارى ومتعاطي المخدرات، وإذا لم يكن بقربها كل لحظة فهي معرضة للاغتصاب أو السرقة، وكم كان حظه سيئا عندما اشتكى لرجال الشرطة عن تحرش أحد الرجال بزوجته، فالشرطة لا تستطيع فعل شيء، وبدلا من ذلك أبلغوا الأوصياء، والذين ما إن علموا بأمر الشكوى حتى أوسعوا سيزار ضربا وإهانة، وكادوا يطردونه وزوجته من الحجرة، فالحديث إلى الشرطة يعتبر خيانة في قانون “هوغو” وأوصيائه.

“فالينتينو” أحد الأوصياء، ويعتبر القوة التنفيذية للعقاب، يقول: أخطر جريمة يمكن أن يقترفها السجناء هي الاعتداء الجنسي، فهؤلاء عقوبتهم شديدة، يضربون بعنف ثم يلقى بهم في هذه البركة، بعضهم يموت غرقا، وآخرون يموتون تحت الضرب، أما الناجون فيقومون بأقذر الأعمال كتنظيف المراحيض، وجمع القمامة.

الكوميديا السوداء.. حين تكون الجريمة ميزة

في ملعب صغير لكرة القدم التقينا بـ”رونالد أورنا” وهو يداعب الكرة برجله. “رونالد” متهم بقتل شرطي، وأمضى ثمانية أعوام من مدة حبسه، لكنه يبدو مطمئنا، فتهمته ومدة محكوميته تعطيانه مكانة خاصة، ويملك من المال ما أعطاه فرصة السكن في حجرة واسعة يتشاركها مع خمسة مجرمين آخرين، يبدو أنه رجل اجتماعي، آثر أن يعيش مع غيره على أن يكون وحيدا.

عندما يحين موعد الغداء، فإن رجلا مثل “رونالد” يجد مكانا مناسبا للجلوس، ويتناول غداءه الوافر على طاولة نظيفة، وهي طقوس لا يتمتع بها الكثيرون مثل “رونالد”، بل إن أكثرهم لا يستطيع الحصول على الطعام أصلا؛ وهنا نلحظ “ميزة” الجريمة، يا لسخرية الكوميديا السوداء.

تقتضي عدالة الأوصياء أن يسجل اسم كل من حصل على وجبة اليوم في سجل خاص، حتى يتسنى للمعدمين الذين لم يحصلوا عليها اليوم، أن يتذوقوها غداً؛ القليل من الأرز والحساء، وبعض قطع الدجاج أحيانا.

ملعب كرة قدم صغير في ساحة سجن سان بيدرو
ملعب كرة قدم صغير في ساحة سجن سان بيدرو

 

طيف الحرية.. أغلى ما يحلم به البشر

في هذا العالم المجنون، فإن الضابط “إيفيان كيسبيه” مدير السجن ليست لديه أي فكرة عن خمسة من السجناء باتوا في عداد المفقودين رسميا، هل قتلوا أو ماتوا، هل هربوا، لا أحد يعرف.

يقول “إيفيان: نحن لا نجرؤ على الدخول، ليس مسموحا لنا، الأوصياء يتحكمون بكل شيء في الداخل، لا نعرف من مات أو قُتل، ليست لدينا القوة الكافية لاستعادة السيطرة.

ويبقى السجن سجنا والسجين سجينا، مهما كانت امتيازاته، فـ”رونالد” مثلا رغم امتيازاته التي يحظى بها في السجن فإنه يحلم بالحرية في كل لحظة، ما زال يحلم بليلة يقضيها وسط عائلته، سوف يصنع لهم بنفسه الأطباق التي يحبونها.

أما “بلانكو” فيخشى أن يفقد نفسه، إنه يقف على حافة الجنون ويبكي باستمرار، لا أمل له بالعودة إلى إسبانيا ثانية، فيما “ميشيل” وزوجها “سيزار” يحاولان التصرف بشيء من الواقعية والقبول بالظروف المتاحة في هذه الأجواء الكئيبة، ليس لديهما ما ينتظرانه في الخارج، ولكن الداخل مخيف.

أما “كارلوس غاييغوس” فهذه أول ليلة له في هذا العالم المجهول، ويبدو أن الوقت ما زال مبكرا جدا حتى يحلم بالحرية المفقودة.