سدانة الكعبة.. عهدة نبوية وإرث إسلامي عظيم

“خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف”.. عهدة نبوية وإرث إسلامي عظيم منحه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة يوم فتح مكة.

العناية بالكعبة المشرفة والقيام بشؤونها وتنظيفها وغسلها وكسوتها واستقبال زوارها.. أيّ شرف عظيم ناله بنو طلحة من رسول الإسلام العظيم.

تقول كتب السيرة فيما يرويه عثمان بن طلحة “كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظتُ له ونلتُ منه فحلم عني، ثم قال: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت، فقلت لقد هلكَت قريش يومئذ وذلت. فقال: بل عمُرت وعزت يومئذ. ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال”.

ولما كان يوم فتح مكة في العام الثامن للهجرة، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنهما ليأخذ منه مفتاح البيت الحرام، فأعطاه له كارها، فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففتح الكعبة المشرفة وكسر الأصنام وغسلها بماء زمزم -ومن هنا سُن غسلها- ثم صلى بها ركعتين.

ونزلت عليه الآية الوحيدة داخل الكعبة وهي من سورة النساء المدنية، يقول تعالى “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمّا يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا”. فخرج عليه الصلاة والسلام من الكعبة وهو يردد هذه الآية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم أسمعها منه قبل ذلك، فنادى عثمانَ بن طلحة فقال له “هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء”.

ثم قال “خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم.. يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف”، قال فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال “ألم يكن الذي قلت لك؟” قال فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت، فقلت “بلى أشهد أنك رسول الله”.

آل شيبة.. سدنة الكعبة

يروي الفيلم الذي بين يدينا الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “السدنة”؛ قصة أسرة شهيرة تُدعى آل شيبة، عُرفت بأنها تحمل شرفاً عظيماً اختصها به رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من 1400 عام وحتى قيام الساعة، وهي حمل مفتاح الكعبة، ويُعرفون باسم “السدنة”.

يتجاوز عدد أفراد أسرة الشيبي 400 فرد أغلبهم يعيش في مكة، وهم على مدى التاريخ يحظون باحترام وتقدير ورعاية حكام المسلمين.

يقول حسين الشيبي -وهو من السدنة- إن السادن هو المسؤول عن خدمة بيت الله الحرام وأي شيء يتعلق به سواء تلبيس الكعبة أو تنظيفها، فإذا تغير أي شيء فهذا سيكون تحت إشراف السدنة.

يذكر الباحث في الشؤون الإسلامية زيد الفضيل أنه لم يوجد مؤرخ أرخ للكعبة إلا وأرخ عن بني شيبة، وما من رحالة وصل مكة إلا وأشار إلى بني شيبة وذلك لارتباطهم بالكعبة المشرفة، ولا أحد يستطيع أن يثبت نسله بشكل دقيق مثل بني شيبة وبني هاشم وذلك لوعد النبي بذلك.

مفهوم السدانة -كما يصفه الفضيل- مفهوم إنساني، وقد ظهر مع مفهوم فكرة الأديان والمعابد، وكان لكل معبد خُدام يقومون عليه، لهذا فإن السدنة موجودون في الذهنية العربية قبل الإسلام، منذ زمن إبراهيم عليه السلام حين بنى الكعبة، كما أنهم موجودون في الثقافة الإنسانية سواء في مكة أو خارج مكة.

يقول عبد الملك الشيبي إن السدنة كانوا هم الذين يستقبلون كسوة الكعبة ويستلمونها ويحتفظون بها عندهم في أقبية خاصة داخل الحرم المكي، وكانوا مسؤولين عن تلبيس الكعبة بالكامل.

من إسطنبول إلى مكة

كان قِفل الكعبة يُرسل من إسطنبول ويسلم إلى آل شيبة كما يقول الباحث التركي زكريا كورسان، وكان يرسَل مع المفتاح الصرّة التي تحتوي على مجموعة من الهدايا العينية والنقدية. كان سلاطين الدولة العثمانية والموظفون في الدولة يقدرون من يحمل مفتاح الكعبة.

عدد أفراد أسرة الشيبي يتجاوز 400 فرد أغلبهم يعيش في مكة

إن الاهتمام بالكعبة والحرم المكي شرف ما بعده شرف، تهفو إليه النفوس وتعلو فيه المقامات وتسمو، لذلك اهتم السلاطين العثمانيون بالكعبة اهتماما كاملا.

وقد أرسل السلاطين المهندسين من إسطنبول لرعاية وبناء وترميم الكعبة الشريفة، وكانت آخر مرة لترميمها في زمن السلطان مراد الثالث في القرن الـ17، حيث بُنيت الكعبة وقتها بناء كاملا من جديد.

تجدر الإشارة إلى متحف توب كابي في مدينة إسطنبول الذي يضم ما يعرف بالأمانات المقدسة، وهي عبارة عن مجموعة من أقفال وأشياء أخرى متعلقة بالكعبة، وقد جُمعت في مراحل مختلفة.

وكان الملوك يتبارون في خدمة الكعبة كما يقول كبير سدنتها، فقد كان باب الكعبة المشرفة من الخشب والآن أصبح من الذهب، والمفتاح أيضا من الذهب، لو حصل أي خلل فيهما يُستبدلان معا، ويضيف أن كل ذلك لا يهم، ما يهم هو قدسية المكان الموجودة فيه الكعبة.

فتح الكعبة وتنظيفها

كبير السدنة الآن هو من يحمل المفتاح ويتلقى الأوامر مباشرة من الديوان الملكي، وتعطى تلك الأوامر عن طريق إمارة مكة، وتفتح الكعبة بطلب من ولي الأمر مرتين؛ الأولى في الأول من شعبان والثانية في الـ15 من محرم، وفقا لعبد الملك الشيبي.

قِفل الكعبة كان يُرسل من إسطنبول ويسلم إلى آل شيبة

ويقول كبير سدنة الكعبة صالح الشيبي إنهم كانوا يفتحون الكعبة مرتين إلى ثلاث مرات بشكل يومي، وعندما كثر عدد الحجاج وازدحم الحرم المكي وأصبح هناك تزاحم عند الباب، وحدث أن فقد بعض الزوار حياتهم وأصيب آخرون نتيجة الزحام، تدخلت الدولة ومنعت فتح الكعبة بشكل عشوائي.

والآن عندما يريدون فتح الكعبة لا يدخل إلا كبير السدنة و25 من السدنة، وتفتح فقط لغسلها أو لظروف استثنائية كوجود ضيف لدى الملك أو لإصلاح خلل، ويقول عبد الملك الشيبي إن ضيوف الإمارة وضيوف الملك يدخلون الكعبة مدة دقيقتين للصلاة فيها.

وتشير هنا فاطمة، وهي زوجة رئيس السدنة السابق عبد القادر، إنهم كانوا يقومون باستقبال الشخصيات الكبيرة والملوك الذين يرغبون بزيارتهم، وكانوا يقومون بواجب الاستقبال والضيافة.

غسل الكعبة وكسوتها

يبدأ غسل الكعبة بحضور الملك ومعه ضيوفه، ولا يكون في الكعبة سوى عشرة من السدنة. أما المواد المستخدمة في التنظيف فهي ماء زمزم وماء الورد ودهن العود، ويقوم الملك وأمير مكة والسدنة بتنظيف الجدار الرخامي داخل الكعبة، ويبلغ طوله مترين ونصف، وينظف بواسطة الشاش والعود، وبعدها تأتي ستارة الكعبة. أما الأرض فتغسل بماء الورد وماء زمزم، ولا تُستخدم أي آلات في التنظيف سوى المكانس والشاش وسطول الماء.

أما كسوة الكعبة فكانت تُصنع إما في إسطنبول أو مصر، ويقول زكريا كورسان إنه كان ينقش عليها آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية بخطوط عربية مختلفة.

كبير السدنة الآن هو من يحمل المفتاح ويتلقى الأوامر مباشرة من الديوان الملكي

وكانت الكسوة آنذاك رمز السلطان لأنهم لا يستطيعون الذهاب إلى الحج وترك مسؤولياتهم، فيرسلون من يحج عنهم وأحيانا يحج عنهم بعض أفراد من بني شيبة.

قبل توحيد المملكة كانت الكسوة تُجلب من أماكن متعددة كما أوضح مدير مصنع كسوة الكعبة محمد باجودة، وفيما بعد وبأمر من الملك عبد العزيز أصبحت الكسوة تحاك في المملكة، ويرجع تأسيس المصنع فيها إلى ما يزيد على 90 عاما.

وهناك كسوتان واحده سوداء خارجية وأخرى خضراء داخلية، وجرت العادة أن تُسلم الكسوة لكبير السدنة ويقوم بتسليمها مدير إدارة الحرمين الشريفين، ولكن في السنة الأخيرة سلمت الكسوة من قبل الملك سلمان، وكان تسليما رمزيا للوحة تمثل ستار الكعبة وكيس فيه مفتاح الكعبة وكيس فيه مفتاح مقام إبراهيم عليه السلام.

أما عن طريقة نقل الكسوة فيقول كبير السدنة إنها كانت تنقل عن طريق باب التوبة إلى السطح، ويتم تجزئتها إلى أجزاء، ثم يسدلونها من فوق سطح الكعبة المشرفة إلى الأسفل. وبواسطة الحبال والسقّالة يتم حياكتها وجمع أجزائها وتستغرق العملية وقتا طويلا. أما الآن فقد تغير الأمر وأصبح أكثر تطورا إذ تُنقل الكسوة عن طريق درج متحرك وتُجمع أجزاؤها بواسطة أزرار.

مفتاح الكعبة والسدانة

تعطى السدانة لأكبر آل شيبة سنا حتى لا تكون حكرا على جزء من العائلة دون الآخر، وبذلك لا يُظلم أحد لأنهم كلهم من أبناء طلحة.

وفي حالة وفاة كبير السدنة تقام مراسم لتسليم المفتاح لخليفته في اليوم الثالث من عزائه، وقد تم تسليم المفتاح مؤخرا لصالح الشيبي خلفا لعبد القادر الشيبي.

غسل الكعبة يبدأ بحضور الملك ومعه ضيوفه، ولا يكون في الكعبة سوى عشرة من السدنة

ولا يُعزل كبير السدنة أبدا، وفي حالة العجز يوكّل عنه مَن هو قريب منه، وعلى مر التاريخ لم يكن هناك خلاف على هذا الأمر إلا في حالات قليلة جدا.

وهنا يشير زكريا كورسان أنه عندما كان يحدث خلاف بين أمراء مكة وحامل المفتاح في بعض الأحيان، يقضي السلطان لصالح حامل المفتاح، كما حصل مع شريف مكة الحسين بن علي فقد رفض السلطان وقتها طلبه بعزل السادن.

ويقول محمد موسى الشريف، كان يحدث بعض الخلافات التي لا تكاد تذكر بين أشراف الحجاز والسدنة، وقد يعزل السادن ولكن تبقى السدانة لبني شيبة.

شرف السادن

الكعبة تشرف من يرتبط بها، وقد حظي آل شيبة بالاحترام والتقدير طول الحكم الإسلامي، وعلى امتداده منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا وذلك لارتباطهم بها.

الكعبة تشرف من يرتبط بها، وقد حظي آل شيبة بالاحترام والتقدير طول الحكم الإسلامي

يقول صالح الشيبي إن شجرة العائلة فيها حفظ للأنساب من أي تدخل خارجي، “لكن المشكلة تكمن في أنه كلما ولد مولود يتم تغيير شجرة العائلة من البداية”.

وقد مر على آل شيبة فترة كانوا لا يزوجون بناتهم إلا لشيبي خوفا على الوقف، أما الآن فقد انتهت هذه العادة، وتقول زوجة عبد القادر إنها ترددت في البداية على الموافقة على الزواج لأن زوجها كان متزوجا بأخرى، لكنها قبلت وفرح أبوها بذلك “إنه لشرف عظيم أن يكون ابني سادنا للكعبة وزوجي كبير السدنة”.

ويقول زيد الفضيل إن آل الشيبي أسرة يجب أن تكون حاضرة في تراثنا المعرفي، ويجب أن يعرف أبناؤنا وبناتنا ما لهم من حق لأن حقهم من حق الكعبة وبيت الله الحرام، ويجب أن يحظوا بهذه المكانة في تراثنا.