“سر الحياة الهانئة”.. حين يتحدث المعمرون عن السعادة

خاص-الوثائقية

حين تكون فلسفتك في الحياة مبنية على الحب والمحبة والتفاؤل والإحسان وعدم الشكوى وبذل الجهد والعطاء والنظر للإيجابيات والتغاضي عن السلبيات ومساعدة الغير دون مقابل، فبالتأكيد ستكون قد اكتشفت سر الحياة الهانئة.

 

هذا السر حاول الفيلم الوثائقي “سر الحياة الهانئة” التي عرضته الجزيرة الوثائقية، سبره وكشف خفاياه على لسان 40 معمرا تتراوح أعمارهم بين 75 و103 أعوام، وقد رووا تجاربهم التي يبلغ مجموعها أكثر من 3 آلاف عام.

يشعر المشاهد لهذا الفيلم الشيق بعد نهايته بأنه يرى العالم بصورة أجمل وينظر للمستقبل بطاقة إيجابية ويتذكر حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ”.

نصائح صانع الجبنة التسعيني.. دستور الاستمتاع بالحياة

يتمحور الفيلم الوثائقي حول ثلاثة أسئلة طُرحت على المعمرين، وهي: ما هو تعريفك للحياة الهانئة؟ وما هو سر حياتك السعيدة؟ وما هي نظرتك للموت؟

وتفاوتت الأجوبة على السؤال الأول بين الانكباب على شغفك وتحقيق هدفك والثقة بنفسك وتقبل ذاتك وحب الحياة والعيش بسلام داخلي وانتهاز الفرص والتطلع دائما للتعلم واكتساب مهارات جديدة والابتعاد عن رتابة الحياة.

الدكتور “لو تيدون” (92 عاما) عمل لأكثر من 50 عاما في صناعة الجبنة بعد أن انتهى من مهنة الطب

 

كل هذه الأجوبة مجتمعة قد تشكل دستورا لمن يريد أن يستمتع بكل لحظة في حياته كما يفعل الدكتور “لو تيدون” (92 عاما) الذي عمل أكثر من 50 عاما في صناعة الجبنة، وكان قد درس الطب، وخلال دراسته كان يساعد والديه، وبعد 5 عقود انقطع عن مهنة الطب واستمر في صناعة الجبن رغم عقوده التسعة.

ويقول: إن الحياة الهانئة تتمثل في مساعدة الآخرين ومساندتهم ومواصلة الاستمتاع بالحياة، لطالما علمت أولادي ليبذلوا كل طاقاتهم عند قيامهم بأي عمل سواء أصبحوا معلمين أو عمال نظافة، عندما أعيد النظر في حياتي أتأكد كم كنت محظوظا، وهذا ما جعلني شخصا متفائلا طول حياتي.

“على المرء الاستمتاع بما يملكه”.. فلسفة مدربة اليوغا الثمانينية

إن التفاؤل وحب الحياة عند الطبيب “لو تيدون” هو نفسه ما جعل “إيمي كليفز” (٨٦ عاما) مدربة اليوغا تعتبر أن العمر مجرد رقم والأهم هو العمر البيولوجي، فـرغم أنها عانت الأمرين خلال الحرب العالمية الأولى واحتلال الجيش السوفياتي لمدينة ريفا عاصمة لاتفيا، فإنها حولت هذه المأساة إلى طاقة إيجابية تنقلها إلى من يحضر عندها دروس اليوغا.

ورغم تقدمها في السن تنصح الجميع قائلة: فكروا كالشباب وتصرفوا مثلهم واشعروا بأنكم شباب وانسوا أمر الأرقام، على المرء الاستمتاع بما يملكه، لا تتذمر أو تشكُ ولا تتطلع إلى ما لا يجلب لك السعادة.

“كفوا عن التذمر”.. يابانية تحدت مآسي الحرب العالمية الثانية

تكررت مأساة الحرب التي عاشتها “كليفز” مع “سوزي إتو بومان” (95 عاما) الأمريكية من أصول يابانية، فقد دفعت هي وأقرانها ثمن الحرب العالمية الثانية وخاصة المعارك بين الولايات المتحدة واليابان التي كانت أولى نتائجها احتجاز كل اليابانيين الموجودين في أمريكا بمعسكرات غير صالحة للعيش، وخسرت زوجها في هذه الحرب وربت ولديها لوحدها.

“سوزي إتو بومان” (95 عاما) أمريكية من أصول يابانية تعتقد بأنها قادرة على فعل أي شيء بوجود الإرادة

 

غير أن المأساة التي حُفرت كتجاعيد في وجهها أخفتها ضحكتها وتأكيدها بأنها ليست عجوزا، وتقول: دائما ما أسمع أصدقائي والمقربين مني يقولون لي إنني أشيخ ولم أعد أقوى على القيام ببعض الأعمال، أما أنا فأقول لهم كفوا عن التذمر، إذا أردت القيام بشيء ما فإنني سأفعله، وإذا لم تقنع نفسك بأنك تستطيع فلن تفعل ذلك، الحياة ليست سهلة بل محفوفة بالعقبات والعوائق التي علينا تجاوزها، وعلى المرء أن يكون قويا ومتفائلا حتى يتمكن من تخطي أي مشكلة تواجهه.

“بلانش براون”.. سعادة من رحم النضال الثوري

أما “بلانش براون” (٧٨ عاما) وهي مدربة رقص فلديها قصة أخرى مع التحديات، فقد كانت من اللواتي طالبن بالمساواة وحقوق السود ورفضن العنصرية والطريقة التي كانوا يعاملون بها، وهذا ما أثرى شخصيتها وجعلها متمردة على الواقع وتفعل ما يحلو لها في الحياة وتحقق رغباتها وترتب أولوياتها.

“بلانش براون” (٧٨ عاما) كانت من أوائل النسوة السود اللواتي طالبن بالمساواة وحقوق السود ورفضن العنصرية

 

تقول “بلانش”: تمضي الحياة بسرعة، لذا على الإنسان الاستمتاع بكل لحظة قبل فواتها، لطالما آمنت بأنني إذا صليت من أجل الحصول على شيء ما وسعيت إليه فإنني حتما سأحصل عليه.

“الحياة أشبه بالغابة”.. لعبة البحث عن السعادة الأبدية

وفي جواب السيدات والسادة عن سر الحياة السعيدة أجمعوا على “الاستمتاع بكل ما هو جميل والتفاؤل ومواجهة الحياة بابتسامة”، ويقول أحدهم اعمل أقل وأنتج أقل واستمتع بالحياة بقدر أكبر، بينما يعتبر آخر أن “شباب اليوم منشغلون بهواتفهم ويمضون وقتهم في المراسلة غير آبهين بالجمال الذي يحيط بهم”، ويرى ثالث أن “لا يخفى على أحد أن الحياة قد تعبث بنا، لذا علينا التفوق عليها إذا استطعنا، فالحياة أشبه بالغابة”.

سر الحياة السعيدة هو “الاستمتاع بكل ما هو جميل والتفاؤل ومواجهة الحياة بابتسامة”

 

وكان لافتا استشهاد إحدى السيدات بما قالته لها معلمتها: يكمن الكثير من الخير في أسوأ شخص بيننا، كما يكمن الكثير من السوء في أفضل شخص بيننا، لذا فعلينا أن لا نذكر بعضنا بالسوء.

بينما ركز آخر على الحياة الزوجية واعتبرها ركن الحياة السعيدة ووصف الزواج بالرباط المطاطي، وقال: يمكنك مط الرباط بشكل كبير وعليك الحذر من أن يتمزق، ولهذا إن لم تكن تريد قطع زواجك فأرخِ الرباط قليلا كي يعود لحالته الطبيعية.

“سيحدث شيء رائع حتما”.. أسرار التفاؤل

وفي تأثير التفاؤل على الحياة السعيدة تقول إحدى السيدات صاحبة الابتسامة الدائمة خلال المقابلة: أنا متفائلة بشكل كبير، عندما أستيقظ في الصباح أتوقع حدوث شيء جيد، لا أعلم ما هو هذا الشيء، وقد يتأخر للغد أو لبعده، ولكن في النهاية سيحدث شيء رائع حتما.

ويقال إن على المرء امتطاء صهوة الحياة بهدوء لأن طريقها طويل ومتعرج، وهو ما طبقته “سيال بيرغمان” (76 عاما) التي تملك فلسفتها الخاصة جدا لعيش حياة سعيدة، إذ تقول: أحب الكيمياء والفيزياء، وعملت ممرضة وأستاذة جامعية وباحثة بيئية وكاتبة ومحاضرة وعدة أمور أخرى، لستَ مرغما على القيام بشيء واحد طالما أن لديك الفضول والرغبة، قم بما ترغب به وغيّر مهنتك.

“سيال بيرغمان” (76 عاما) تعتقد بأنه طالما أن لديك الفضول والرغبة، قم بما ترغب به وغيّر مهنتك

 

وتابعت: من الجميل جدا أن يحظى المرء بشريك يقاسمه كل شيء، فإذا اكتشفت شيئا ما أو قرأت مقطعا شعريا جميلا أو مقطوعة موسيقية، فلا تتردد في مشاركتها معه، أظن أن الصدق والاحترام عاملان مهمان في نجاح أي علاقة، تعلمت خلال حياتي أن لا أسعى لتغيير أي شخص ولو قيد أنملة، ليس بوسع الإنسان تغيير أحد سوى نفسه، لندع الآخر وشأنه، ليتني وصلت لهذا الاستنتاج عندما كنت يافعة، مهما حاولت أن تغير أحدهم فلن تنجح، فجمالنا يكمن في النقص الذي لدى كل منا.

هاجس الموت.. نظرة المعمرين إلى الغائب المنتظر

بما أن الفيلم يتحدث عن سر الحياة الهانئة والسعيدة، فقد كان من الضروري سؤال هؤلاء الذي عاشوا حياتهم بالطول والعرض ويعطون نصائح عن كيفية العيش عمرا مديدا وسعيدا، ما هي نظرتهم للموت؟

بعض الأجوبة كان متوقعا، وبعضها كان فلسفيا، بينما كان جزء ثالث لا يفكر به أصلا.

تقول إحدى السيدات: إن الأزهار والحيوانات وكل الكائنات الحية تموت، وسأموت أنا في أحد الأيام، آمل أن يذكرني جيل أو جيلان قبل أن أصبح غصنا في شجرة العائلة.

بينما عبر أحدهم بقوله: لا أخاف الموت لأنني حين أسترجع الإنجازات التي قمت بها في حياتي، أشعر بالكثير من الرضا، أمل بالاستمرار في القيام بالأعمال الجيدة.

وقدم آخر نصيحة مفادها: استغل كل لحظة ودقيقة في يومك كما لو أنها الأخيرة لأنك لن تستعيدها.

“إيمي كليفز” (٨٦ عاما) مدربة يوغا، تعتبر أن العمر مجرد رقم والأهم هو العمر البيولوجي

 

وتؤكد إحدى السيدات عدم خوفها بقولها: لا أفكر بالموت أبدا، لأنني منغمسة تماما في الحاضر وتعلمت أن أستمتع بما لدي.

وأجاب أحد المعمرين قائلا: أتعايش مع فكرة موتي يوما بعد يوم، أنا سعيد في حياتي، ماذا عساي أن أفعل؟ أمضي بعض وقتي في الحديقة، ثم أذهب لزيارة أصدقائي وخاصة الأرامل منهم.

بينما تجنب آخر الحديث عن الموضوع بالقول: أحيانا أسأل نفسي إلى متى سأظل أسافر، وأمارس التمارين الرياضية، هذا ما يسمى العيش في المستقبل، وهذا أمر سخيف، عِش اللحظة وكف عن التفكير في المستقبل.

وبواقعية تقر إحدى السيدات قائلة: بما أن عمري الآن 81 عاما، فعليّ الاعتراف أنني أفكر في الموت، ومع ذلك لا أخشاه، فأنا بصحة جيدة وكل ما يشغل تفكيري متى وكيف سأموت؟ وأحب عبارة الممثل والمخرج “وودي آلن” التي تعبر عن موقفي من الموت: “لست خائفا من الموت ولكنني لا أريد أن أكون موجودا عند قدومه”.

“إيفلين ريتشوتي”.. عصارة قرن من صناعة السعادة

بحكمة هندية يقول أحد الأشخاص: لن يمحى ذكرك أبدا إذا تركت وراءك أثرا طيبا، وهذا ما أحاول فعله.

وتطبيقا لهذه الحكمة الهندية تعيش السيدة التي ألهمت صانعة الفيلم بإعداده “إيفيلن ريتشوتي” (103 أعوام)، إذ تقول: الإحسان للآخرين والتصرف معهم بود ولباقة يعود بالنفع عليك، تلك هي فلسفتي في الحياة، أحب كل دقيقة من حياتي، وأحب الحياة كما هي، ولهذا السبب أحب أن أعيش سنوات إضافية لأرى وأتعلم المزيد.

هذا التفاؤل والصلابة والطاقة الإيجابية اكتستبها “ريتشوتي” من العصر التي عاشت فيه حين كانت النساء لا يحق لهن التصويت، فنظمت والدتها ومجموعات أخرى من السيدات مظاهرات وانتزعن هذا الحق من مجتمع كان الرجال فيه وقتها أصحاب السلطة المطلقة.

“إيفيلن ريتشوتي” (103 أعوام) تعتقد بأن سر الحياة السعيدة هو التمتع بكل يوم من الحياة والإحسان لكل الناس

 

وتروي أنها عندما أصبحت في 18 من عمرها ذهبت رفقة والدتها للإدلاء بصوتها في حقبة مهمة في تاريخ الولايات المتحدة، كما تحدثت أيضا عن الفقر والعوز الذين مرت بهما، وكل هذا شكل شخصية هادئة بعيدة عن المشاكل ومحبوبة تساعد الجميع دون مقابل.

وتضيف: يتوقع الناس رؤية سيدة عجوز وجهها مجعد في سن 103، يسألني الجميع ما هو سرك؟ أجيب أن العمر مجرد رقم لا قيمة له، مشاعرك وتصرفاتك هي التي تحدد عمرك.

وتختم بقولها: إن سر الحياة السعيدة هو التمتع بكل يوم من حياتنا والإحسان لكل الناس، وفعل الخير والعيش بسعادة.

قد نقول إننا نحترم كبارنا ولكن غالبا ما نفارقهم ونحرم أنفسنا من متعة الاستماع إلى تجاربهم، فكل منهم يملك قصة، قصة تعود عليك بالفائدة وتزيدك خبرة وتتجنب مخاطرة، فتعلم أن تنصت لنصيحة شخص يكبرك بعقود ويعطيك خلاصة تجربة مر بها، فنصائح الشيخوخة تضيء دون أن تحرق مثل شمس الشتاء.