ألغاز سقارة.. أقدم مقابر الفراعنة تُفشي أسرار مصر القديمة

خاص-الوثائقية

على الضفة اليسرى لنهر النيل تقع مدينة سقارة حيث أقدم وأكبر المقابر في مصر، وتعد المدينة إحدى عواصم مصر القديمة، ورغم أن من يعرفها من الناس قليل فإنها كنز حقيقي.

تقع مقبرة سقارة المهيبة في قلب العاصمة المصرية القديمة منف أو ممفيس وسط الصحراء، وقد اكتشفت مجموعة من المقابر والمعابد، لكن الخبراء يقولون إن تلك الاكتشافات لم تتجاوز 10% من حجم المقبرة العملاقة التي ما لا تزال تغطيها الرمال.

تعتبر هذه المقبرة كنزا حقيقيا لعلماء المصريات إذ اكتشفت مجموعة من الهيروغلوفيات التي كانت تغطي جدران القبور الملكية، وكان يعتقد أنها تمتلك قوى سحرية تمكن الملك من تخطي العوائق للوصول إلى الحياة الآخرة.

 

الملفت أن ملكات سقارة حصلن على نفس النصوص الهرمية التي توصلهن إلى الخلود، وهي حالة استثنائية في تاريخ مصر القديمة.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية سننضم إلى رحلة استكشافية لفريق البعثة الفرنسية السويسرية بقيادة عالم الآثار الفرنسي “فيليب كولومبرت”، وقد نفذت في عام 2017 واستمرت 60 يوما لكشف أسرار سقارة المحرمة.

أسرار الأسرة الحاكمة

تحوي المنطقة الشمالية في سقارة على الهرم السليم الذي يعود للملك جوسر، وقد بني في الألفية الثالثة قبل العصر الحديث، أي قبل أربعة الآف سنة، وهو مفتوح للزوار.

أما المنطقة الجنوبية فلا تزال مغلقة، وتجري فيها عمليات التنقيب التي تعتمد على التاريخ والعلوم والتكنولوجيا الرقمية، حيث يأتي فريق “فيليب كولومبرت” كل خريف ليكتشف المزيد من الخفايا والأسرار التي دفنت تحت الرمال ولم يتمكن العلماء من اكتشافها إلا بعد مئات السنين من البحث.

يضم موقع سقارة عدة مجمعات جنائزية، وتتألف هذه الهياكل الدينية من هرم ملكي وممرات ذات أعمدة والأهرامات التابعة لها، ويعود أهم هرم للملك بيبي الأول الذي حكم في الأسرة السادسة أي قبل ألف عام من عهد رمسيس الثاني، هناك أهرامات أصغر تعود للملكة أهمهن والملكة عنخس إن بيبي الثانية والملكة بهنو.

في غرفة دفن الملك بيبي الأول تكتسي الجدران بنصوص هرمية منقوشة عثر عليها في آلاف القطع الصخرية المتناثرة والمكسرة في كل مكان، لقد دمر معبد بيبي الأول وحرق وأعيد بناءه جزئيا واستغلاله لبناء القبور الفردية، كما فُكك على يد المماليك لإعادة استخدام أحجاره فلم يبق منه إلا القليل.

استغرق جمع القطع الهيروغليفية وإعادة وضعها في غرفة دفن الملك ثلاثين عاما من العمل المضني للباحثين. يقول “فيليب كولومبرت” المتخصص في تاريخ المصريات: كان هدفنا إعادة بناء هذا اللغز العملاق، وهذه هي النتيجة النهائية التي تمكنا من جمعها وإعادتها إلى غرفة الدفن تماما كما هو الحال مع بقية الهرم.

هرم الملك بيبي.. نبش في أسرار النقوش الهيروغليفية

تصوِّر الهيروغليفيات المنقوشة الرحلة الرمزية للملك المتوفى وانتقاله إلى الحياة الأبدية، ويصف عالم المصريات” أودران لابروس” التعويذات السحرية المنقوشة بأنها كتبت بلغة شعرية بالغة تهدف إلى تغلب الملك على الحياة السفلى والولادة من جديد.

هناك الهرم الكبير للملك بيبي الأول تحيط به أهرامات تعود في الغالب لزوجاته، وتصب البعثة اهتمامها على ملكتين منهن هن عنخس إن بيبي الثانية والملكة بهنو التي لا تزال شخصية غامضة بالنسبة للعلماء، وقد اكتشف قبرها عام 2010، وعندما دخلوه وجدوا عشرات آلاف القطع الهيروغليفية المتناثرة، وعند إعادتها إلى مكانها سيتمكنون من حل لغز الملكة وغموضها.

قاموس الرموز الهيروغليفية المصرية يساعد على فك الشيفرات المكتوبة

 

تحفظ القطع من أجل دراستها داخل غرفة الحفريات السرية خوفا من تعرضها لعمليات النهب، إذ كان اللصوص يقلبون أرض سقارة بحثا عن ذهب الفراعنة، وفي وقت لاحق استخدمت المقابر كمقالع لبناء البيوت المحيطة بالقاهرة.

قامت البعثة باستخراج ألف وخمسمائة حجر من قبر بهنو عند اكتشافه، ويعمل فريق العالمة “ماري نويل فريس” منذ ذلك الوقت على هذه النصوص، ويجري العمل بشكل دقيق وعلمي إذ تخضع كل قطعة للدراسة، والهدف من ذلك إعادة هرم بهنو كما كان.

للفريق عمل آخر هذا العام، وهو هرم عنخس إن بيبي الثانية، وقد اكتشف عام 2000، وستقوم البعثة بإعادة نصوص هرمها، كما أنهم سيبحثون عن أسس مجمعها الجنائزي.

كانت هذه الملكة إحدى آخر زوجات بيبي الأول، وبعد موته تزوجت بابنه مرن رع الأول الذي مات تاركا العرش لابنهما بيبي الثانية، لكنه كان صغيرا لا يتجاوز السادسة من عمره، فأشرفت الملكة على ولاية العرش،
وتشهد رموز مكتبها على ذلك حيث تظهر الملكة وهي ترتدي غطاء رأس على شكل نسر، لقد كانت شخصية استثنائية وقررت أن تكون الحاكم الأول في مصر قبل ألفي سنة من حكم كليوباترا.

أهرام الملكات.. استنطاق التاريخ من طبقات الرواسب

لا يزال العلماء يبحثون في الهدف من الأهرامات الفرعية، وقد تكون تكريما للزوجات، أما غرفة المخزن فهي مكان لحفظ المقتنيات الطقسية، وتتخذ المجمعات الجنائزية نفس الشكل، لذا يأمل العلماء وجود الهياكل نفسها في موقع عنخس إن بيبي الثانية.

يرى “فيليب كولومبرت” أن عملية الحفر تشبه تحقيقات الشرطة، إذ يجدون بعض القرائن ويحاولون باستخدام الدليل أن يحيكوا قصة يعيدون صياغة أحداثها بين من بنى ومن دمر.

لدينا العالم “خافيير هيناف” عالم الآثار في البعثة وهو الدينامو المحرك في عمليات التنقيب إذ يمكنه قراءة طبقات الرواسب المدفونة تحت الرمال، ويقول إنهم يعملون في مكان فريد ويصلون إلى طبقات سمكها أربعة أمتار تراكمت عبر الزمن، وهو ما يسمونه علم وصف طبقات الأرض، أي علم فهم تاريخ الموقع عن طريق طبقات الرواسب المتراكمة.

يبحث العلماء عن الأهرامات الفرعية التي قد تكون بنيت تكريما للزوجات

 

تتلخص وظيفة “خافيير” في ما لا يزال مستقرا في مكان وما تغير مكانه وما دمر وما انتشل وما يستحق التنقيب عنه، ليجمع بعد ذلك قدرا كبيرا من المعلومات الثمينة.

يعمل فريق الحفر بشكل جماعي وهم ثمانون شخصا يديرهم محمد عنتر الذي يعمل في المجال منذ عشرين عاما، ويشرف على فنيات العمل بكل دقة حتى لا يقع أي خطأ يؤدي إلى إتلاف القطع الأثرية، ومهمتهم إزالة الرمال مع تقدم الحفر.

يعمل الفريق وفق ظروف العمل نفسها التي كانت متبعة منذ القرن التاسع عشر باستخدام نفس الأدوات، إذ يعبئون الرمال بسلال القش ثم يدخلونها في العربات لنقلها إلى مكان بعيد.

يرى “فيليب” أنهم لم يجدوا أدوات تجتاز هذه التضاريس بشكل أفضل، ولا يوجد حل هندسي يمكنهم من إحراز تقدم بسرعة أكبر خوفا من تضرر الأبنية التي قد يعثرون عليها.

حفريات القرن التاسع عشر.. كنز لا يقدر بثمن تحت الرمال

في عام 1963 قدم فريق العمل الفرنسي السويسري إلى مصر بقيادة “أودران لابروس”، وبقي يرأس المنصب حتى عام 2007.
كانت أول بعثة فرنسية بقيادة “أوغست ماريوت” و”كاسين ماسبيرو” ثم بقيادة العالم السويسري “غوستاف جيكيير” الذي اكتشفت في عام ١٨٨٠ مقابر سقارة، حينها أدركوا أنهم وقعوا على كنز لا يقدر بثمن.

لقد عثروا على النصوص الهيروغليفية الغامضة التي تحوي قوى سحرية “تمكن الملك من اكتشاف وظائفه الحيوية في الحياة الآخرة”. يقول فيليب: إن صورة حاملي القرابين في قبر بيبي الأول وفوقهم الجثة في الهيروغليفية تصف بدقة ما يفعلونه، حيث يأتوا به من ملكياته من صعيد مصر ومصر الصغرى لحضور قرابينه الجنائزية في مطلع الاحتفالات السنوية.

كان للملوك فقط الأحقية في الخلود والتمتع بالنقوش على غرف الجنائزيات الخاصة بهم، وقد اكتشف حتى اليوم 11 هرما تحتوي على نقوش كلها في سقارة.

أكثر من ثمانين عاملا وباحثا يحفرون بأيديهم برفق خوفا على الآثار

 

بعد ذلك أرسوا نوعا من الديمقراطية إذ حصلت بعض الملكات على تلك النصوص المنقوشة، وهذه نقطة تحول إذ تمكنت الملكات من  التمتع بالخلود، لكن كيف حصل ذلك بأن ينتقل الحق الحصري للملوك للملكات، ومتى وكيف حققن تلك الضربة المحكمة؟

من وجهة نظر “أودران لابروس” فإن الملكة عنخس إن بيبي الثانية كانت امرأة قوية لا تعتمد على أحد رغم أنها حكمت باسم ابنها، كانت تتمتع بقوة فلماذا لا تتمتع بالخلود؟ بفعلتها تلك أحدثت ثغرة في امتياز الخلود ومنحت نفسها صلاحية العيش في الآخرة، وهذه خطوة ثورية في تاريخ مصر القديمة، حيث كانت النساء لا تجيد القراءة ولا الكتابة، لكنها بعد ذلك سنّت للملكات من بعدها هذه الأحقية ونقلت الامتياز للأخريات.

بعد عدة سنوات أعطت الملكة بهنو -التي لا تزال شخصية غامضة- الأوامر نفسها فيما يتعلق بقبرها، إذ أن القرائن العلمية لا تتيح التعرف عليها بشكل دقيق، وهل هي زوجة بيبي الأول أم الثاني؟

أمام مدخل الملكة عنخس إن بيبي الثانية فقد تحطمت الجدران والأرضيات، الدليل الأول الذي وجدته البعثة ينبئ بالبوابة هو العتبة الهائلة، إذ أن حجمها الضخم يشير أنها لم تبتعد كثيرا عن موقعها الأصلي، وكتب عليها اسمها وكل علامات منصبها.

أما البوابة فيطلق على الأنماط الشبكية الغريبة المرسومة عليها لعبة “السيني” وهي تشبه لعبة الداما، ويفسر “فيليب” ذلك بأنها من فعل الحراس عندما كانوا يشعرون بالملل يلعبون الداما.

ويعد هرم الملكة “عنخس إن بيبي” الثانية هو الأكبر بعد هرم الملك، مما يشير إلى مدى التأثير الذي تملكه هذه الملكة.

مخازن الأثريات.. معامل فك الرموز الهيروغليفية

في مخزن الحفر يجمع علماء المصريات آلاف القطع الأثرية تحت إشراف الخبيرة في علم النقوش “ماري نويل فريس”، ويتطلب عمل فريق العمل المكون من إسلام و”أوريلي” و”فرانسوا” الدقة المتناهية، ويحتاجون إلى الوقت الكافي والصبر ليعيدوا ترتيب الزخارف الهيروغليفية المحفورة على الحجر الجيري، تنقل هذه الصور على الورق بدلا من تحريك القطع الحجرية الثقيلة والهشة التي يتطلب ترتيبها محاولات عديدة.

تقول طالبة الدكتوراه في علم المصريات “أوريلي كويريون”: ينبغي أن نفهم النقش أو الرسم التوضيحي على القطع الحجرية، قد يكون النقش في بعض الأحيان تالفا أو دقيقا لذا يجب التلاعب بالإضاءة لفهم ما جرى نقشه.

غرفة الأثريات التي بنيت بعيدا عن الموقع كي لا تغطي بعض الآثار المحتملة

 

بعد فهرست القطع سوف تعاد إلى قبر بهنو، وتمثل الأجزاء المحددة باللون الأزرق ما بقي مكانه داخل الهرم، أما اللون الأحمر فيدل على الأجزاء التي يجب إعادة إنشاءها من النصوص، فهم يحاولون تجميع القطع المتناثرة التي يحتفظون بها اليوم على رفوف المخزن، وعندما يكون الرسم محددا بعدة أعمدة فهذا يسهل عليهم الأمر، وعند وجود قطع صغيرة يصبح العمل معقدا.

لفك الرموز الهيروغليفية تستعين “ماري نويل” بمنشورات صادرة عن علم المصريات الدولي، لكن الفريق لا يستطيع حتى الآن ترجمة رغبات بهنو في حياتها الآخرة، سيحصلون على النتيجة بعد تجميع النقوش وإعادتها إلى مكانها.

قاعدة البيانات.. بطاقات فهرسية لمئات الحجارة الأثرية

كل صباح يذهب فريق العمل إلى مجمع الملكة عنخس إن بيبي الثانية، لقد اكتشفت في هذا اليوم قطعة غرانيت، فدبت الحماسة والفرحة في قلوب الفريق، وتظهر القطعة شيئا فشيئا خلال عمليات الجرف، بعد ذلك يحدد نوع القطعة المكتشفة لتحديد مكانها، ويتوقع العلماء أنها رأس الهرم، يرى “فيليب كولومبرت” أن الملكة أعدت لنفسها شيئا ملكيا للغاية.

يبدأ العلماء بتصور الهرم التابع، حيث يعلوه حجر القمة وسطح ناعم ملمع بشدة وقمة ذهبية تتلألأ، لا بد أن ذلك مثير للإعجاب، لكن هناك عقبة واجهت الفريق حين وجدوا مسلة ليست بمكانها المعتاد، إذ أن المتعارف عليه وجود مسلتين على مدخل المجمع  الجنائزي، ويتساءل العلماء ما إذا كان المدخل في جهة مغايرة؟ لكن هذه المرة أخطأ العلماء، فلم تكن قطعة الغرانيت رأس الهرم.

قطعة الجرانيت التي حيرت الباحثين ثم وجد المصري عنتر جاد موضعها الصحيح

 

يقول “فيليب كولومبرت”: نشهد تقلبات نفسية، فتارة نكون متحمسين ونختلق فرضيات جديدة مع ظهور قرائن جديدة، وبعدها ندرك أننا على خطأ، ليتلاشى ما بنيناه ونبدأ من جديد، قد تكون قطعة الغرانيت رأس مسلة. يتناقش الفريق في المسألة ويتعين عليهم الانتظار حتى ينتهي التنقيب لمعرفة الحقيقة.

بيت الحفر هو موقع مستأجر من قبل وزارة السياحة خلف موقع سقارة مباشرة ويكون خارج المكان خوفا من البناء على موقع أثري، وفي مخزن الحفريات يقوم الأخصائيون بمسح القطع، وعليهم تجميع عدد ضخم منها، لإعادة بناء جدران معبد الملكة عنخس إن بيبي الثانية عليهم التعامل مع 1500 قطعة ويستخدمون بذلك بطاقات الفهرست والأوراق.

ويعاينون في كل جلسة من 15 إلى خمسين قطعة لأن معاينة القطع في نفس الوقت أمر مستحيل، لذا قاموا بإنشاء قاعدة بيانات فقد كانوا يحتاجون لصور رقمية، لكل قطعة بطاقة فهرست في قاعدة البيانات بالإضافة إلى بيانتها الثكنية وصورة وبيان توضيحي يميزها، وانطلاقا من ذلك يمكنهم إعادة المشاهدة المهشمة.

طائرة الدرون.. تحليق التكنولوجيا في تاريخ الفراعنة

تمكن قاعدة البيانات العلماء من إدخال الكلمات الرئيسية بسرعة لتحميلها، فمثلا يحملون صور جميع القطع التي تصور حاملي القرابين فتكتمل الصورة شيئا فشيئا، لأنهم لو اعتمدوا على الذاكرة لوحدها لما تمكنوا من تحقيق أهدافهم بهذه السهولة، لقد أضافت التكنولوجيا الرقمية الكثير لعمل الفريق، وجعلتهم أكثر دقة وكفاءة مع اختصار الوقت.

باتوا يستطيعون إعادة إنشاء الهياكل الملكية المتهدمة بصور ثلاثية الأبعاد، يقول المهندس المعماري “إيمانيويل لاروز”: نستخدم الطائرة المصورة (الدرون) وتفيدنا هذه الثورة في تقنية المساحة التصويرية التي نستخدمها، إذ تسمح لنا باستخدام لقطات متعددة من زوايا مختلفة من أجل رسم نموذج ثلاثي الأبعاد، ونستخدم أدوات تسمح لنا بقياس الزوايا والمسافات، وبعد إجراء الحسابات يمكننا تحديد نقاط مرجعية في هذه المساحة، ثم إنشاء خرائط دقيقة والتحقق من الارتفاعات والاستقامة والزوايا القائمة.

ويرى “إيمانويل” أن البنائين المصريين على الرغم من أساليبهم المحددة وأنهم لم يكونوا يمتلكون سوى الشواقيل والحبال والأوراق وأقلام الرصاص، فإنهم صنعوا أشياء غاية في التعقيد.

استحدام طائرات الدرون لتصوير المشهد جويا يساعد على إعدة نمذجة شكل المنطقة

 

كان “ماسبيرو” و”ماريت” أول من فهم تاريخ مصر القديمة بشكل كامل ومحترف، لكن اليوم هناك متخصصون يتمتعون بخبرة أكبر ويعملون بشكل جماعي .

قبل اكتشاف رأس الهرم اكتشف فريق “فيليب كولومبرت” رأس مسلة ينتمي لأحد العمودين على باب المجمع الجنائزي، ولم يتوقع العلماء ذلك نظرا لحجمها والمادة المصنوعة منها، كانت المسلات التي عثر عليها صغيرة نسبيا ومن حجر الجير.

يكتشف العلماء فتحة في أسفل الهرم تشير إلى وجود قطعة أخرى تثبت به. يقول فيليب لم نر مسلة من قطعتين، ليست المسلة المسطحة من صنع المصريين.

لكن إن لم تكن مسلة فما الهدف من قطعة الغرانيت، ورأس الهرم أيضا يصنع من مادة أخرى غير الغرانيت، ولكن هذا المجمع يعود للملكة عنخس إن بيبي الثانية التي لا مثيل لها، لكن عليهم التأكد أن زاوية رأس الهرم تتطابق مع القاعدة.

فك اللغز.. هرم بهنو يبوح بأسراره

لم يجد العلماء من قاعدة الهرم سوى زاوية سمحت لهم بتحديد انحناء الهرم، لكنها لا تتطابق مع قطعة الغرانيت، تبع الفريق حدس عنتر جاد الذي لا يخيب، فهو مشرف سابق للحفريات ويعرف كل أركان الموقع. يقول “فيليب” لقد أمسك بقطعة غرانيت لم نعرها أي اهتمام، وقال لي انظر إنها مثيرة للاهتمام ويوجد حفر في أسفلها.

كان رمز رع (إله الشمس) وهو نفس الرمز على القطعة الأخرى وهكذا حل اللغز، إنها كانت مسلة وعند نقلها كسرت، وبدل العودة إلى أسوان وصعيد مصر التي تقع على بعد ٨٠٠ كيلومتر جرى قصها، ثم ترميم النصفين.

المسلّات معالم مصرية شهيرة ترافق أكثر الآثار

 

كانت المسلات تصنع من مادة الغرانيت مرتفع الثمن، وتنقل من مكان بعيد عكس المسلات الجيرية المتوفرة، وكانت الرحلة من وإلى صعيد مصر بعيدة جدا وخطرة، لذا عندما كسرت أصلحت. كان العلماء يسلكون الطريق الخطأ والآن عرفوا بداية الطريق للهرم التابع للملكة عنخس إن بيبي الثانية.

الخطوة الثانية للفريق كانت إعادة النصوص لقبر الملكة بهنو، وتشرف “ماري نويل” على ترميم الجدران، سيقومون بترميم الجدار الشمالي بناء على الجزء السفلي الذي ما زال محتفظا ببعض أجزاءه داخل النمط الشبكي في قائمة الموتى.

يوجد على الجدار نبيذ وماء ودالية عنب وصلوات ونصائح عملية وتعويذات سحرية لتساعد على تخطي الملكة العقبات التي تعترضها، تصف لها السلالم التي تمكنها من الوصول إلى الجنة وأن تستخدم أيضا أشعة الشمس للوصول، أو اتباع نجمة كي تتمكن من الوصول إلى الخلود. لقد بدأ هرم بهنو يبوح بأسراره.

الملك بيبي الثاني.. فوضى فقدان السيطرة على المملكة

يساعد عنتر البعثة في مهمتهم، وتقول “ميري نويل” عنه إنه يمكنه تميز الأحجار من ملمسها ولونها وشكلها، ثم يذهب إلى الرفوف يحضرها ويتلاعب بها فتصبح مندمجة، وتلك اللحظة تتويج لسبع سنوات من العمل المضني، فلقد انتهوا هذه السنة من إنهاء مترين مربعين من الجدار الشمالي وسيضعون خططهم للعام المقبل دون أي ضمانات لإنهاء المشروع لأن أي خطأ في الأسفل يجعل تركيب الجزء العلوي مستحيلا، لذا عليهم التروي والحذر، فبعض القطع صغيرة لا يمكنهم إعادتها، وربما ستحتاج لثلاثين سنة أخرى لإعادتها، لكن أيضا هناك عشرات القطع الكبيرة التي لم يجدوا مكانا لها وهذا أمر يصعب تجاهله، وسيكشف قريبا عن مقبرة بهنو للعلن.

العثور على رأس خشبي يعتقد بأنه كان يتعمل للشعر المستعار

 

قبل مغادرة البعثة بأيام اكتُشف رأس تمثال خشبي، ويعود تاريخ هذه القطعة للعصر الحديث من المملكة، أي بعد ألف عام من ملكات سقارة، الشعر المستعار على التمثال يعود لسيدات المجتمع المخملي، يتساءل العلماء إن كان هذا التمثال جزءا من الطقوس الجنائزية في ذلك العصر، قد يكشف رؤية أخرى للمجتمع المصري القديم.
عاما بعد عام يضع العلماء تصورا أكثر وضوحا عن المملكة القديمة، وعن الظروف التي تسلّم فيها ابن الملكة عنخس إن بيبي الثانية الحكم.
يرى “أودران لابروس” أن المملكة في عهد ابنها بيبي الثاني بدأت تفقد السلطة، وعلى الرغم من وجود أسطورة القوة المصرية الموحدة في “منف” انهارت بقية البلاد، ومرت بفترة عرفت بالفترة الانتقالية الأولى، لكن سرعان ما عاد الاستقرار مع ولادة الدولة الوسطى، ورغم ذلك فلم يكن بالإمكان سد الثغرة التي أوجدتها عنخس إن بيبي الثانية في الخلود إذ حصلت جميع النخب المصرية على نصوص الخلود.

يمكّننا علم الآثار من فهم الحضارة بشكل أفضل ويرى علماء المصريات أن النصوص كنز وهي أشبه بحوار يجرى مع قدماء المصريين.

يقول “خافيير هيناف”: حضارة لا تعرف ماضيها ويخشى على مصيرها من التلاشي، لقد شهد التاريخ حضارات سعت لمحو حضارات أخرى لكنها لم تدم على الإطلاق.

أما “فيليب كولومبرت” فيقول: إننا نملك تصورا مغلوطا عن قدماء المصريين، لأننا لا نملك سوى الأشياء التي صمدت حتى يومنا، لذا نعتقد أنهم يركزون على حياتهم بعد الموت فقط، علينا أن ندرك أننا لا نستطيع فهم مصر القديمة بشكل كامل وصحيح.

أحرزت البعثة في عام ٢٠١٧ تقدما كبيرا واستطاعوا الكشف عن بعض أسرار المقابر التي تعود للأسرة السادسة، لكن المقبرة كبيرة وما زالت تحتفظ بالكثير من الحكايات والخفايا.