سندريلا الشاشة العربية.. انتحرت أم قُتلت؟

خاص-الوثائقية

لم تكن سندريلا الشاشة العربية الفنانة المصرية سعاد حسني تعلم وهي تخط أمانيها على قصاصة ورق قبل رحلتها الأخيرة إلى المملكة المتحدة عام 1996 أنها تكتب نهايتها، وأنها ذاهبة إلى حتفها.

كتبت خطة رحلتها، وحزمت حقائبها وطوت قصاصة أمانيها ورحلت إلى عاصمة الضباب لندن، تراودها أحلام العودة وقد تحققت غاياتها، لكنها عادت بطريقة دراماتيكية مفجعة وصادمة لمحبيها ومعجبيها.

رجعت محملة في نعش، جسدا هامدا بلا روح، كان مشهدا مريعا يحمل الكثير من التساؤلات والشكوك. ووري جسدها الثرى في 28 يونيو/حزيران 2001. دفن جسدها ودفنت الحقيقة لتكتب بذلك نهاية غامضة.

يتناول الفيلم الاستقصائي “نهايات غامضة.. سعاد حسني” الذي أنتجته الجزيرة قصة وفاة السندريلا، وتساءل عما إذا كان موتها انتحارا أم تصفية؟

مساء الخميس 21 يونيو/حزيران 2001 أُعلن خبر وفاتها، حيث وُجدت السندريلا ملقاة على قارعة الطريق أمام “ستيوارت تاور” غربي لندن؛ برج الموت الغامض لمشاهير السياسة والفن المصريين، مثل الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري الأسبق، والعقيد شفيق مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر.

بدأ محقق الوفيات “أندرو جيفري” عمله في قضية الفنانة سعاد حسني واستمر تحقيقه عامين، وفي نهاية المطاف أقرت محكمة ويست منستر بموتها انتحارا.

وقد استند القاضي بول ناكمان في حكمه إلى الحالة النفسية والذهنية للفقيدة متغافلا عمق شخصيتها وعلاقاتها المتشعبة وتاريخها، ورغم ذلك اتخذ هذا الفيلم مسار التحقيق، واستند إلى ما استند إليه القاضي في إصدار حكمه.

كانت البداية مع الدكتور “عماد عبد الصمد” في لندن، وهو طبيب التخدير وعلاج الآلام، وقد كان أحد الأطباء الذين أشرفوا على حالة السندريلا، إذ تعرّف عليها قبل ثلاث سنوات ونصف من موتها.

ويشير الدكتور عبد الصمد أن سعاد حسني كانت تعاني من بعض المشاكل الصحية في أسنانها، ومشكلة في الظهر، وقد أصيبت بشلل ما يعرف بالعصب السابع بالوجه، وكان كل ما ترجوه هو التخلص من الآلام المبرحة التي كانت تعاني منها.

 

السندريلا.. اكتئاب مزمن

كانت الراحلة تعاني من اكتئاب مزمن رافقها نحو 15 عاما، ويفسر أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة محمد المهدي ذلك بأنها عانت في طفولتها لكونها ولدت في أسرة متواضعة مكونة من 17 فردا، فعاشت طفولة منسية مهمشة وسط هذا الكم من الإخوة.

لكنها وجدت في طريق الفن الكنز الذي فتح لها أبواب الشهرة والمجد من أوسع أبوابه، وفي آخر سنواتها وبسبب حالتها الصحية وتقدمها في العمر فقدت بريقها وجمالها وأضواء الشهرة، مما أدخلها في حالة اكتئاب خلفت جرحا عميقا مؤلما في نفسها.

ولم تكن هي الوحيدة في عالم الفن كما يشير الدكتور المهدي، فقد حصل الأمر نفسه مع الفنانة داليدا مما أدى بها إلى الانتحار، لكنه يضيف أن لا أحد يستطيع نفي أو ترجيح حالة الانتحار.

لا أحد يعلم سبب كآبتها، هل كانت بسبب آخر أعمالها (فيلم الدرجة الثالثة) الذي لم يحقق النجاح المرجو، أم دورة الزمن التي عبثت بمحياها الجميل وجسدها مما ترك بصمة واضحة، جعلتها ترفض الاعتراف؟

وفي هذا السياق يجيب الناقد الفني أشرف غريب صاحب كتاب “العندليب والسندريلا.. الحقيقة الغائبة”، بقوله إنه عندما يكون النجاح طاغيا تحدُث الهزة، ففيلم “الدرجة الثالثة” لم يكن إخفاقا ولكنه لم يحقق النجاح الكاسح الذي كانت تتوقعه.

ولدت في أسرة متواضعة مكونة من 17 فردا، فعاشت طفولة منسية مهمشة وسط هذا الكم من الإخوة
الساندريلا ولدت في أسرة متواضعة مكونة من 17 فردا، فعاشت طفولة منسية مهمشة وسط هذا الكم من الإخوة

 

فقد كانت أعمالها الأخرى تستمر عشرة أسابيع على شباك التذاكر، أما هذا الفيلم فقد استمر سبعة أسابيع فقط، أي أنه حقق 70% من النجاح، لكن سعاد لم تتقبل ذلك. كما أنها لم تقبل فكرة تخليها عن الصورة الذهنية للسندريلا المطبوعة في ذاكرة المشاهد، حتى إنها لم تقبل بدور الأم إلا بعد سن الأربعين.

ويضيف غريب أن سعاد حسني فضلت أن تبقى خارج البلاد بعيدا عن الأضواء، وقد قضت في لندن ثلاث سنوات ونصف أجرت خلالها أكثر من عشرين عملية لجراحة اللثة وزراعة الأسنان، حتى تستطيع ضبط ملامحها الشكلية للعودة من جديد، وقد تحسنت حالتها بشكل كبير وفقا لشهادة أطبائها، وقد تعافت بشكل شبه كامل وبقيت مشكلة زيادة وزنها فقط.

وأكملت سعاد حسني رحلتها العلاجية في منتجع “تشامبينيز الصحي”، ومكثت ثلاثة شهور لتلقي العلاج وخفض وزنها، وبعد تحسنها بشكل ملحوظ خرجت يوم الأربعاء 20 يونيو/حزيران قبل يوم من وفاتها.

ووفق حديث المدير الأسبق لشركة سافوي لنقل الركاب “مصطفى رجب”، فقد اتصلت سعاد حسني بنفسها قبل خروجها بيوم بشركة نقل الركاب وذهب إليها السائق كمال خضر، وهو السائق نفسه الذي أقلها يوم دخولها المنتجع.

وصلت سعاد إلى ستيورات تاور في نحو الساعة 4.30 من ظهيرة يوم 20 يونيو/حزيران، لم يكن مكان إقامتها ولكنها ذهبت لزيارة صديقتها نادية يسري.

وقد اتصلت بالطبيب عصام لتخبره أنها ستلتقيه في عطلة نهاية الأسبوع كعادتهما، لم تمر سوى ثلاثين ساعة على وجودها في الشقة، حتى عثر عليها ملقاة أمام ذلك البرج جسدا بلا روح.

مساء الخميس 21 يونيو/حزيران 2001 أُعلن خبر وفاة السندريلا

 

البحث عن الحقيقة

حاول فريق التحقيق في الفيلم الاتصال بالسيدة نادية يسري لكنها رفضت الإدلاء بأي تصريحات، وعاد الفريق إلى تسجيلات سابقة لها كانت قد ذكرت فيها أنه وفي أثناء وجود السندريلا في المنتجع بُث برنامج خاص عنها، وقد أخبرت سعاد بذلك وقالت إنها قامت بتسجيله لأنه كان برنامجا جميلا.

وأوضحت أنها عرضت على سعاد مشاهدته لكنها رفضت في البداية، ثم عادت وطلبت الشريط لتشاهده وأخذت تعيده أكثر من مرة، وقد كانت في حالة كآبة عالية، وتعمدت أن تستمع لإحدى أغانيها (بانو بانو على أصلكو بانو) وكأن شيئا يدور برأسها.

وكان على نادية المغادرة لقضاء بعض الأمور، وقالت لها عندما أعود سأستمع لما يدور في رأسك، فأجابتها سعاد: نعم سأخبرك.

وعند عودتها –تضيف نادية يسري- شاهدت سعاد تقف على الشرفة، ولكن عندما صعدت وجدت غرفة النوم فارغة وباب الشرفة مفتوحا، ثم نظرت للشباك فوجدته مقصوصا، وعندما نظرت إلى الأسفل وجدت سعاد على الأرض غارقة في دمائها بلا حراك.

فريق من المقربين من الفنانة الراحلة استبعد فرضية انتحارها، وذلك لوجود كدمات على جسدها

 

رفض فرضية الانتحار

ويستبعد فريق من المقربين من الفنانة الراحلة فرضية انتحارها، ويقول الكاتب الصحفي محمود صلاح إنه قابلها قبل موتها بقليل في لندن، وأكد أنه من المستحيل أن تقدم على الانتحار في هذه المرحلة، وأنها لو أرادت ذلك لفعلته في أوج مرضها وأزمتها، ويشير إلى سيناريو فيلم أعد لها في مصر كان من المقرر أن تباشر به بعد عودتها.

أما أختها غير الشقيقة “جنجاه عبد المنعم” فتقول إنه عند تغسيلها وُجد في جسدها العديد من الكدمات وضربة في الرأس، وهو ما يدل حسب قولها على وقوع اعتداء عليها، وليس نتيجة ارتطامها بالأرض، ورجحت مقتلها قبل إلقائها من الشرفة، وهو جزء من مخطط ليظهر أنه انتحار.

بعد تلك الشهادات كان لا بد للبحث أن يتخذ مسارا آخر والتفكير بطريقة تختلف عن المحقق واللجوء لمعرفة تاريخ الضحية وعلاقاتها المتشعبة أثناء فترة هامة بتاريخ مصر الحديث، وهي ستينيات القرن الماضي.

الأخت غير الشقيقة للسندريلا قالت “جنجاه عبد المنعم” إنه عند تغسيلها وُجد في جسدها العديد من الكدمات

 

انحراف بأجهزة المخابرات

في عام 1967 شكل الرئيس جمال عبد الناصر لجنة تحقيق لما عُرف بانحراف جهاز المخابرات، وبدأ التحقيق في شهر أغسطس/آب من نفس العام في تبديد الأموال السرية للجهاز وسوء استخدام النساء في العمليات الاستخباراتية.

وقد تم التحقيق مع العديد من الفنانات وضباط الجهاز وعلى رأسهم صلاح نصر مدير الجهاز وحسن عليش وكيل الجهاز، ورئيس قسم المندوبين في الجهاز ومحمد صفوت الشريف.

وذكر الشريف خلال التحقيقات أنه انضم للجهاز في عام 1957، وهو المسؤول عن عمليات السيطرة (الكنترول)، حيث يتم تصوير مجموعة من النساء بأوضاع مخلة، ومن ثم مساومتهن للعمل لصالح الجهاز.

ويقول الكاتب أشرف غريب إنه تمت محاكمة الضباط بما عرف وقتها بمحاكمة الثورة، واستجوب كل جهاز المخابرات وتمت مقاضاتهم عن كل الانحرافات التي حدثت، وقد اعترف صفوت الشريف خلال التحقيقات أنه تم تجنيد مجموعة من النساء في 1963، من بينهن سعاد حسني.

ويقول الدكتور عصام إن الراحلة حدثته بذلك، لكن ليس بتلك الصورة التي رويت في وسائل الإعلام وغيرها، ولكنها اعترفت أنه تم تجنيدها.

ويشار هنا إلى أن صلاح نصر ذكر في كتابه “الثورة.. المخابرات.. النكسة” أن بعض الزوار الذين كان يأتون لمباحثات سياسية سرية على مستوى القمة، كانوا يتصلون بنساء، وفي اليوم الثاني تأتي كل أسرار المحادثات من أفواه هؤلاء النسوة وتنتشر على الملأ، ففكر الجهاز بتجنيد نساء للحفاظ على تلك الأسرار.

وهنا يعلق الصحفي أشرق غريب بقوله إن الدولة المصرية كانت تعلم بكل صغيرة وكبيرة بشأن هذا الأسلوب، وإن لكل عميلة ملفها الكامل، وقد سوّق صفوت الشريف لتلك الفكرة ودافع عنها، لكن غريب عاد ليقول إن الهدف مما فعله صفوت الشريف كان لأغراض شخصية ولم يحقق أي شيء للجهاز ولا للدولة.

أما منير مطاوع -وهو كاتب صحفي مقرب من سعاد حسني وقد أجرى معها العديد من الحوارات- فيقول إن الضابط الذي وظفها حاول ابتزازها كثيرا، مشيرا إلى فظاعة ما تعرضت له.

ويضيف مطاوع أن الفنان حسين فهمي طلب من سعاد حسني الحضور للتكريم في مهرجان القاهرة السينمائي لكنها اعتذرت وبعثت تسجيلا صوتيا، وأرسلت أختها بالنيابة عنها لاستلام الجائزة.

وقد بُث جزء يسير من التسجيل مما أغضب سعاد حسني، ويوضح مطاوع أن الجزء الذي لم يبث هو الذي شكرت سعاد حسني فيه الرئيس على إنشاء المحطات التلفزيونية عوضا عن “الكاميرا الخفية”، وكانت هذه الكلمة سر مقتلها وفق لمطاوع، فمن قتلها معروف، والسبب هو الخوف من أن تكشف سعاد أسرارا تؤدي إلى إسقاط النظام.

قدمت أخت سعاد حسني طلبا لإعادة فتح قضية مقتلها بعد ثورة يناير
أخت سعاد حسني قدمت طلبا لإعادة فتح قضية مقتلها بعد ثورة يناير

 

ثورة يناير

ارتفع سقف الحريات في مصر بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وقدمت أخت سعاد حسني طلبا لإعادة فتح قضية مقتلها، وتقول جنجاه إن هناك قرائن أنه لو كُشفت قضية سعاد سيتم الكشف عن قضايا كبيرة أخرى.

وبهذا الصدد، يقول المؤرخ والمتخصص في شؤون المخابرات “نايجل جيمس” إنه إذا كان لجهاز المخابرات الثقة بعدم وجود عقاب، فلديه خيارين لتنفيذ العملية، أولها أن تكون العملية واضحة لترك رسالة لأشخاص بعينهم، أما الثانية فتكون بطريقة تثير الريبة والشك، وهناك طريق ثالث أن تجعل العملية تبدو وكأنها حادث عادي.

السندريلا وُجدت ملقاة على قارعة الطريق أمام “ستيوارت تاور” غربي لندن

 

انتهاء التحقيق

رفضت الشرطة البريطانية إجراء أي نوع من المقابلات بخصوص هذه القضية، ويقول خبير القانون الجنائي “ريتشارد ليفيت” إن أول عمل يقوم به محقق الوفيات هو إجراء تحقيق بالحيثيات المتعلقة بوقوع الوفاة من خلال فحص الجثة وتشريحها، ثم يقرر المحقق الاستمرارية أو إغلاق الملف، وإذا وجد أي ملابسات يقوم بعملية الاستجواب للوصول للحقيقة. لذلك فإن المحقق في القضية ارتأى من البداية أن الحالة لا تحتاج لتحقيق، وأنها مجرد حالة انتحار.

لكن محامي العائلة “أمجد سلفيتي” يقول إن عمل المحقق كان روتينيا ولم يأخذ بعين الاعتبار شخصية الراحلة، مضيفا أنه كان يتوجب عليه أخذ جنسية الضحية على محمل الجد، لأن القضية تكررت ثلاث مرات بنفس المكان ومع شخصيات مصرية بارزة.

ويضيف “مستوى تحقيق الشرطة البريطانية فيها دون الطموح، وقد أدى الأسلوب الروتيني إلى فقد القضية وعدم حملها على محمل الجد، وأنه قد يكون بحوزة الراحلة بعض الوثائق التي أرادت نشرها، والتي قد تضر ببعض الشخصيات النافذة”.

ومن الملفت أن صحيفة الأهرام نشرت أن الراحلة ماتت منتحرة قبل عام ونصف من صدور القرار النهائي للمحكمة البريطانية.

ومن المهم بالقضية شهادة الصحفي منير مطاوع، الذي ذكر للمحكمة أن أحد المقربين من نادية يسري أكد له أن سعاد كتبت مذكراتها، ولكن هذه المذكرات اختفت.

وقد وضعت نادية يسري النهاية بمثولها أمام المحكمة وشهادتها التي أكدت فيها حالة الكآبة التي عانت منها سعاد حسني، وأنها تُغلب فرضية موتها منتحرة، وبهذا انتهى سير التحقيق ودفنت السندريلا ومعها أسرار حياتها وموتها.