“شموع الأمل”.. عندما ينقلك الفن إلى خارج أسوار السجن

خاص-الوثائقية

سجينان تورطا في قضايا حق عام، ليجدا في الإبداع والفن ملاذا لهما ومتنفسا من رتابة السجن الخانقة، الأول رسام وجد الحرية في لوحاته وجدارياته، والسجين الآخر انجذب للمسرح فقرر أن يمثل ويُغني ويصرخ لافظا الألم الذي طالما شعر به قبل دخوله للسجن وبعده.

فيلم “شموع الأمل” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، يتحدث عن قصة سجينين تونسيين هما محمد الصالح العبيدي والناصر شوشان اللذان دخلا السجن بقضايا التعاطي والاتجار بالمخدرات، ولكنهما قررا أن ينزعا عنهما هذه الوصمة لتقديم نفسيهما كشخصين مفيدين لمجتمع السجن أولا، ويثبتان أنهما مستعدان لفتح صفحة جديدة مع العالم الخارجي عندما يُفرج عنهما.

 

عودة الفن.. رسام ضل طريقه في صغره

كانت البداية مع محمد الصالح لعبيدي الذي قال إنه مولع بالرسم منذ صغره، وكان يرسم على كل شيء يصادفه كدفاتره وكتبه المدرسية، لكنه قرر ترك الدراسة لأنها لم تكن تستهويه ولحق بأبناء حيه، وتدريجيا دخل في عالم الجريمة، فبدأ بتعاطي المخدرات ثم انتقل للمتاجرة فيها، ليلقى القبض عليه ويدخل السجن، وفي السجن شعر بضيق شديد ووجد نفسه مضطرا للبحث عن متنفس للخروج من أجوائه.

عاد العبيدي إلى الرسم، وعاد إليه ولعه بالفن، وفي تلك الأثناء اقتُرحت عليه فكرة الرسم على الجدران، فاستحسنها، وجُلبت له الألوان والأصباغ وبدأ يتقن فن التعامل معها، لأن الرسم في صغره كان يقتصر على الورقة والقلم، أما الآن فهو مجهز بالأدوات والألوان.

يقول العبيدي: صرت أقضي كل أوقات فراغي في الرسم وتركيب الألوان وأجد راحتي في ذلك، ولا أدري كيف كنت سأقضي الوقت في السجن لو لم تكن لدي تلك الموهبة، أشعر براحة عندما أحول جدارا أبيض إلى صورة ملونة، وأفرح كثيرا عندما تنال هذه الصورة إعجاب الآخرين.

تحولت حياة السجين الناصر شوشان من روتين يومي إلى إبداع في الكتابة والتأليف

 

توبة المسرح.. تاجر المخدرات الذي استفاق أخيرا

بينما كان العبيدي يمزج ألوانه تحضيرا لرسم لوحة جديدة على حائط أبيض كان الناصر شوشان يتشاور مع زملائه في السجن الذين يمثلون معه في المسرحية، ويشرح مخرج المسرحية -وهو ليس سجينا لكنه يحضر مرة كل أسبوع تطوعا- طريقة التمثيل على المسرح والتفاعل مع النص والتعاون بين الممثلين لإخراج المسرحية بأبهى حلة.

وبعد الانتهاء من التحضيرات للمسرحية في غرفة بعيدة عن زنازين السجن يعود الشوشان ليروي قصته وكيف دخل إلى السجن فيقول: في عام 2013، اسودت الدنيا في وجهي بعدما حُكم عليّ بالسجن 18 عاما، وسألت نفسي كم بقي لي من العمر لأمضي هذه الفترة في السجن، دخلت وخرجت من السجن أكثر من مرة، وفي كل خروج أعود لبيع الحشيش وأسبب المشاكل ثم أرجع للسجن مجددا، أما الآن فقد تغيرت الأوضاع وأصبح للوقت قيمة، في السابق كنت مستهترا في الوقت والآن بت أقدره وأنظر للمستقبل بتفاؤل.

وتابع: أضاءت شموع الأمل في داخلي وصار لخروجي من السجن معنى، صرت أنتظر اليوم الذي سأخرج فيه من السجن وأقول لنفسي سأخرج غدا، فإن لم يكن غدا، فالعام المقبل أو بعد عدة أعوام ولكنني سأخرج يوما ما.

والدة العبيدي تزور ابنها في السجن وتبلغه سلام العائلة له وتتمنى له أن يخرج قريبا سالما ومعافى

 

“أتمنى أن تخرج وأقبلك وأعانقك”.. أيتام السجون

في أحد المشاهد المؤثرة، تزور والدة العبيدي ابنها في السجن وتبلغه سلام العائلة له وتتمنى له أن يخرج قريبا سالما ومعافى، وتخبره أن “أمنيتها الوحيدة أن يكون إلى جانبها، لأنها لم تعد لديها القدرة والصحة على القدوم إلى السجن لأنها تعاني من أزمات صحية متعددة وأمراض مزمنة إضافة إلى الإرهاق التي تعانيه وسوء الظروف”.

ويرد لعبيدي بوعد أن “يرسلها للحج أو العمرة عند خروجه من السجن”.

وختمت الوالدة بقولها “أنتظرك لتخرج وتجد عملا وتتزوج وتنجب أطفالا، وهذا ما يجعلني أرضى عليك في الدنيا والآخرة، اقض ما كتب عليك في السجن، أتمنى أن تخرج وأقبلك وأعانقك، أبقاك الله لي”.

وكحال لعبيدي، فإن الناصر شوشان لديه قصص إنسانية تفطر القلب، فهو لا يجد من يزوره أو يعطيه مالا أو طعاما منذ دخوله إلى السجن عام 2013، ويعيش فقط “من رزق الله”.

ويتابع شوشان باكيا: إن الظروف المادية لعائلته هي سبب عدم مساعدتها له، فالسجناء تزورهم عائلاتهم ويؤمنون لهم حاجياتهم ويسألون عنهم إلا أنا، فلا أحد يسأل عن أحوالي، فالسؤال بالنسبة لي يعني أنني موجود وما زلت على قيد الحياة، ومسألة الزيارة كانت الأكثر تأثيرا عليّ في السجن، كنت أحب أمي وأبي كثيرا وهما لا يملكان سواي، وعندما فقدتهما انهارت حياتي، فغيابهما كان أحد أسباب دخولي السجن.

محمد العبيدلي: عندما أرسم لوحة أشعر أنني خرجت خارج أسوار السجن

 

“أرجو أن أجد السبيل لإصلاح حالي”.. قلق ما بعد السجن

رغم الألم والحزن لا يزال شوشان وزملاؤه يتابعون تمريناتهم وتحضيراتهم، وما زال العبيدي يرسم لوحاته ويقول: في يومك الأول في السجن تشعر بالتأزم والانهيار، وكلما اقترب موعد الإفراج عنك، وفي كل يوم ينقص من مدة محكوميتك؛ تتحسن حالتك النفسية، غير أن المشكلة الكبرى هي ماذا ستصنع بعد أن تخرج، ومن سيساعدك لإصلاح حالك، أرجو أن أجد السبيل لإصلاح حالي، فطريق الانحراف لا جدوى منه ويبقى السجن سجنا في النهاية، فمن لا يحسن الاستفادة منه سيتضرر حتما على عدة مستويات.

وتابع: إن لم يكن لديك العزيمة لإصلاح النفس فلن تستفيد شيئا، ستظل تدور في نفس الحلقة المفرغة وتتعب دون طائل، عندما أبدأ برسم لوحة أشعر أنني خرجت خارج أسوار السجن، فالساعات التي تستغرق رسم اللوحة أنسى فيها عالم السجن.

عوالم الحب.. نكبات وهموم تقتادك إلى الزنزانة

لدى الناصر شوشان قصص مع الحب والسجن، تناقض من الصعب إيجاده، ولكنه اجتمع مع الناصر الذي يقول: عام 1996 أحببت فتاة وتزوجتها ثم دخلت السجن، بعدها قدمت طلب طلاق مني فآلمني كثيرا تصرفها، لأني أحببتها أكثر من نفسي ودفعني ذلك إلى أن خوض تجربة الكتابة، كنت أكتب بداية على ورق السجائر وأخفي ما أكتبه، ثم أنسخ لاحقا ما كتبته على دفتر نظيف، فأي فكرة تأتي على بالي أكتبها مباشرة حتى لا تضيع أو أنساها.

ويتابع: بين 2002-2004 أحببت فتاة أخرى وتزوجتها، فتبين أنها لا تنجب، فحصل الطلاق مرة ثانية، ثم تزوجت مرة ثالثة والحال هكذا إلى الآن.

في 2003 توفي والد الناصر، وبعدها بثلاث سنوات لحقته والدته، فبقي وحيدا يعمل في النهار ويسكر بالليل، وتحولت حياته إلى السكر وتعاطي الحشيش لينسى همومه ووفاة والديه.

يقول شوشان: بعت بيت العائلة -الذي كان عزيزا عليّ- لأنه يذكرني بوالدي، الناس لا ترحم، ولهذا فكرت ببيع البيت ثم العودة للسجن لأني وجدت جدرانه أرحم من البشر. ابنتي -أقرب الناس إلى قلبي- منعوها من زيارتي في المستشفى بعد تعرضي لحادث مرور.

محمد الصالح لعبيدي فنان ترك بصماته رسومات على جدران السجن

 

“حكم علي بعشر سنوات رغم غياب الأدلة”.. سياط القهر

ينتقل لعبيدي بين زنزانة وأخرى في السجن لإضفاء بعض الروح على جدرانه وتغيير أجوائها وإبعاد الرتابة عنها، ويُقر أنه “تاجر في المخدرات ولكن العقوبة كانت قاسية جدا، فقد ألقي القبض عليه من دون أدلة كافية، وعوقب بضعف العقوبة التي يمكن أن ينالها مروج مخدرات في فرنسا ثبت جرمه بالصوت والصورة، فهو يعاقب بـ4 سنوات سجنا “بينما حكم عليّ بعشر سنوات رغم غياب الأدلة”.

ويضيف: هذا يُعد ظلما، فمثل هذا الحكم قد يقتل البشر لإحساسه بالغبن والقهر، أنا مقتنع بوضعي في السجن، فمنذ سلكت طريق الانحراف وضعت الدخول إلى السجن في الاعتبار، أخذت كفايتي من الأموال والسجن، والآن أرغب في تغيير مسار حياتي، كنت أتناول أدوية مهدئة بترخيص من الطبيب ولكن انقطعت عنها نهائيا، وبعدت كليا عن كل ما يوجد فيه مخدر، وإذا أحسست أنني بحاجة لمخدر، أفرغ طاقتي في إحدى الجداريات، فالاحتياج للمخدر هو وهم يصنعه الإنسان لنفسه، السجن مثل الحي الصغير فيه الصالح والطالح، والمثقف والطبيب والوزير وأنت تختار بمن تختلط.

ويواصل: فإذا اخترت المجرمين زينوا لك عالم السجن حتى تتعود عليه، ومن فقد إحساسه بالحرية مات إحساسه، ويوجد آخرون ممن يرون أن الخطأ سبيل للاعتبار والاتعاظ حتى لا يعود الإنسان للسجن.

عن أمنياته بعد الخروج من السجن، يقول لعبيدي إنه يريد أن يدخل الفرحة على قلب والدته، وعليه أن يعمل ويطور المهنة التي بات يمتلكها، وهذا سيفتح له آفاقا جديدة، فوالدته هي التي عاشت المعاناة الحقيقية، “أنا كنت مرتاحا في السجن، فهي تكبدت عناء الزيارات وتوفير الطلبات وصعوبة المواصلات، لا تشعر الأم بالسعادة إن لم يكن ابنها بخير حتى وإن كسوتها ذهبا، وعندما تجد أن وضع ابنها يتحسن فستكون سعيدة ومرتاحة”.

حياة السجن روتين قاتل إن لم يجد السجين طريقة يغير فيها حياته هناك

 

يوميات السجن المتكررة.. رتابة الزنزانة وتنمر الزملاء

رغم مواصلته التحضيرات للمسرحية يشكو الناصر شوشان “رتابة السجن اليومية، فأنا أمضيت 7 أو 8 سنوات في السجن أكرر ما أفعله بشكل يومي، النسق نفسه ويقتصر التغيير على الانتقال من غرفة لأخرى أو جناح لآخر أو القيام بنشاط معين، ويختلف حال من يقوم بنشاط عن الآخرين، فأنا مثلا أخرج للقيام بنشاط في المسرح والسينما عوض النوم في الغرفة، بينما كنت قبل ذلك أكرر نفس الأعمال، أستيقظ في الصباح وأغسل وجهي، ثم أتناول الفطور وأخرج للساحة، ثم أعود منها وأتناول الغذاء، وبعدها وقت القيلولة ثم الخروج للساحة مجددا وتبدأ معها السهرة، أتحدث مع زملائي ونشاهد التلفزيون أو نتابع مباراة كرة قدم، ومن بعدها نخلد للنوم وهكذا دواليك، قصة كل يوم.

ويكشف شوشان حجم التنمر والسخرية الذي تعرض له هو وزملاؤه عندما شرعوا بالتمثيل، ويسألون بتندر عن موعد عرض المسرحية الجديدة، ويؤكد: نحن فهمنا أن الدنيا في تغير مستمر، وأن من يريد تغيير طباعه يستطيع ذلك، وساعدنا النشاط المسرحي على التفكير في أشياء جديدة، فالدور الذي تقمصته في مسرحيتي الثانية قريب جدا من حياتي الشخصية، ولهذا فإني أقدمه بتلقائية أكثر من أنني أمثله، فالدور يتحدث عن شخص فقد والدته ووالده وأخته وأخاه والزوجة والبيت والأطفال، فهو تجسيد لمسار حياتي.

مشهد مسرحي من بطولة الشوشان وزملائه يقدمونه أمام ضباط الشرطة ونزلاء السجن

 

أبطال الفيلم.. لقاء في سجن المهدية

في نهاية الفيلم يلتقي السجينان الحالمان بمستقبل أفضل، في سجن المهدية، إذ جاء العبيدي ليرسم لوحات على جدران السجن، وقد رسم لوحة على أحد الجدران أثارت إعجاب شوشان وقال له إن “اللون الأزرق يعبر عن الحلم، وفيها أيضا السواد الذي هو لون الحزن”.

ويشرح لعبيدي أنه “دائم التنقل من سجن لآخر لرسم اللوحات على الجدران، ولكنه في الأخير يعود لزنزانته، الرسم يخرجني من حدود السجن ويجعلني أعيش مع أفكاري خارجه”.

ويخبره شوشان أنه “يكتب الأغاني لأن كلماتها تحمله خارج أسوار السجن وتخفف من وطأته”.

فكلمات إحدى أغاني شوشان تقول:

راني حبيتها بجنون

وظنتها شموع الأمل قدات..

وحلمت بها حلم يملأ الكون

وقلت القدر عوضني في الذي فات.