“شهيد الأبارتيد”.. الإمام الأسمر الذي قتله نظام البيض العنصري

“نشأت على سماع الكثير من القصص عن جدي، وكيف أنه كان بطلا شهيدا، فقد كان الناس يتحدثون عن الزلزال، وكيف كان مصدر إلهام لهم للنضال ضد الفصل العنصري، خاصة في غرب كيب تاون، نشأت وأنا أقرأ في كتاب “مقتل الإمام”، وأتذكر صورة الغلاف لرجل يسقط عن درج، كانوا يسمونه الإمام، وهذا اللقب كان يثير لدي شعورا بأنه كان رجلا ملهما بطلا”.

بهذه الكلمات استهل خالد شامس -أحد أحفاد الإمام عبد الله هارون- حديثه عن جده، وهو بصدد إخراج فيلم عن سيرته وجهاده بعنوان “أنا والإمام”. التقينا به مع ثلة من الشخصيات المرموقة في جنوب أفريقيا، ممن كان لهم حضور مميز مع الشيخ هارون، وذلك لإنتاج فيلم يتضمن حياة الشيخ واستشهاده، لتعرضه قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “شهيد الأبارتيد”.

جنوب أفريقيا.. إمام صغير ذو إطلالة غربية

في العام 1955 وفي يوم احتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وفي مسجد “كليرمونت” انتخب الشيخ عبد الله هارون إماما لأحد مساجد كيب تاون، ويعتبر لقب “إمام” من أهم مناصب المجتمع الإسلامي هناك، فهو إمام ومدرس قرآن وعلوم شرعية. كان عبد الله هارون أصغر إمام يتسلم ذلك المنصب وعمره 32 سنة، لكنه كان إماما ذا إطلالة عصرية ببدلة غربية، ولذا اعتقد كثيرون أنه لا يصلح لأن يكون إماما.

الشيخ عبد الله هارون إمام مسجد “كليرمونت” في كيب تاون بجنوب أفريقيا

يقول قاسم خان المنسق الدولي لمؤسسة الإمام هارون: كانت الإمامة لهذه المساجد المحلية تجري بالانتخاب، وقد فاز بفارق أصوات قليل، وقد قيل آنذاك إن والده لم يكن ليصوت له، لأن العمر كان مهما في اختيار الإمام، وليست المعرفة والحكمة شرطا، لكن الإمام هارون أثبت أنهم كانوا على خطأ، فقد كان لديه من الحكمة والبصيرة ما لم يكن عند من هو أكبر منه سنا في كيب تاون.

تعتبر جنوب أفريقيا دولة فريدة في القارة الإفريقية، تحكمها أقلية بيضاء عنصرية متعصبة، وقد قُسم أهل البلاد ما بين أبيض وهندي وملون وأسود أفريقي، وحسب فهمهم للإنجيل رأوا أحقية الرجل الأبيض في حكم الجميع.

نظام الأبارتيد والصهاينة.. وجهان لعملة واحدة

يقول فريد السيد محرر في صحيفة آراء المسلمين: إذا أردت أن تفهم ما هو الفصل العنصري (الأبارتيد) فانظر إلى إسرائيل، قامت مجموعة من الصهاينة المستوطنين باحتلال فلسطين، جاؤوا من بلاد شتى واحتلوا أرض الغير، وقالوا هذه أرضنا وسنحكمكم. الأمر كذلك بهذه البساطة في جنوب أفريقيا؛ جماعة من البيض استوطنوا هنا منذ 300 عام.

ظهور عبد الله هاورن كأصغر إمام لمسجد “كليرمونت” كان له تبعاته التي غيرت الواقع العنصري في جنوب أفريقيا

وعندما أصبح الفصل العنصري أيديولوجية رسمية للدولة عام 1948 -وللمصادفة فهو نفس العام الذي ولد فيه الكيان الصهيوني- حكموا الناس بنفس الطريقة، وقد كانت هناك علاقة وثيقة بين المتعصبين البيض والصهاينة اليهود في فلسطين، مع اختلاف بسيط، وهو أن البيض في جنوب أفريقيا كانوا لا يرون غيرهم بشرا أصلا.

وكان هؤلاء البشر يقسّمون الناس من غير البيض إلى ثلاث مجموعات: الهنود، والملونين، ثم السود الأفارقة، وكانوا يمايزون بينهم حسب الترتيب السابق، ويمنحونهم صلاحيات وامتيازات تبعا لذلك.

مسلمو جنوب أفريقيا.. اعتزال السياسة

تصف المتخصصة في الدراسات الإسلامية في هامبورغ بألمانيا “أورسولا غانثر” المجتمع المسلم في جنوب أفريقيا بقولها: المسلمون خلال الفصل العنصري ولمدة طويلة من الزمن لم يتخذوا موقفا سياسيا معينا، بل كانوا يُعتبرون موالين للنظام الحاكم إلى حد ما.

شجاعة هارون ومطالبته بحقوق الناس أدخلت كثيرين من الناس في الإسلام

لكن مقالا نشر في صحيفة “مسلم نيوز” في عام 1964 كان مثيرا للاهتمام حين قال: إذا أصدرت الحكومة أي قرار يقضي بمنعنا من ممارسة شعائرنا الإيمانية، فإن علماءنا سوف يقودوننا للدفاع عن عقيدتنا حتى الموت.

ويقول شفيق مورتون، وهو صحفي ومذيع في صوت كيب تاون: لما صار الإمام هارون يهتم بالسياسة، صار أكثر ما يشغله التحدث عن الوعي السياسي أولا، حيث كان فكر الناس السياسي في أفريقيا منصبا على الحاجات الأساسية فقط، وكان الشيوخ والعلماء يطلبون من الشيخ هارون عدم التحدث في القضايا السياسية الأخرى، لأن ذلك سوف يجلب لهم المشاكل.

خلال دراسته في كيب تاون، لم يتطرق أي من شيوخ الإمام هارون للحديث في السياسة، وبسبب استيلاء سلطات الفصل العنصري على الكثير من الأراضي فقد صودر بيت الإمام، ولكن عندما أرادوا أن يصادروا أرض المسجد تصدى لهم الإمام هارون بقوة، وحشد المسلمين وراء رأيه، مما دفع الحكومة للتراجع خوفا من اندلاع حرب دينية.

دهاليز السياسة.. توأمة حتى الشهادة

منذ اللحظة التي واجه فيها الإمام هارون الحكومة بدا أن السياسة والمواجهة لن تترك هارون، حتى لو أراد هو تركها، ولم يكن دخول الإمام هارون عالم السياسة مفاجئا، فتربيته وسلوكه كمسلم كانا يطغيان على شخصيته، ونزوعه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في محيطه، والانتصار للضعيف والمظلوم جعلاه خصما حقيقيا للسلطات العنصرية الحاكمة.

لقاءات عبد الله هارون السرية مع منظمات مناهضة للعنصرية جعلته في مواجهة مباشرة مع سلطات بلاده

تقول عنه ابنته فاطمة: بطبيعة عمله كمندوب مبيعات لشركة توزع الحلويات، فقد كان يسافر إلى البلدات المجاورة ويلمس معاناة الناس فيها، مما جعله متعاطفا معهم ومطلعا عن كثب على حالة العائلات التي اعتقل معيلوها دون محاكمة، أو اختفوا قسريا في جهات غير معلومة، فذلك ما جعله يتعمق في تجربته السياسية ومتابعته لما يحدث على الأرض.

وجد الإمام نفسه يدخل المناطق المغلقة التي يسكنها الأفارقة السود، وصار ينشر دعوة الإسلام بينهم، وأصبح لأول مرة على اتصال مع أعضاء مؤتمر عموم أفريقيا “باك” (PAC)، الذين كانوا يخططون للعمل على إلغاء طلب الحصول على تصاريح عمل للأفارقة، ووجد نفسه منخرطا في السياسة بشكل أعمق، ويتواصل مع غير المسلمين من السود والمنظمات التي تجمعهم.

كان الإمام هارون يتواصل مع الناس على أساس إنساني بغض النظر عن طوائفهم وأجناسهم، بل وكان له تواصل خاص مع بعض المسيحيين هناك من الذين لا يوافقون البيض في استعلائهم على الأجناس الأخرى.

مذبحة شارفيل.. أكبر عصيان مدني في تاريخ كيب تاون

قرر حزب “باك” التصدي لفرض استصدار تصاريح عبور من أجل حركة السود خارج مناطق الإغلاق، واستجاب آلاف من السود لتلك الدعوة، وفي فاتح آذار/مارس 1960 قدم الآلاف أنفسهم لمراكز الشرطة لاعتقالهم، كتعبير سلمي عن رفضهم لتلك التصاريح، لكن الشرطة تعاملت بعنف مع المتظاهرين السلميين وقتلت 69 شخصا بالرصاص في ما عرف لاحقا بمذبحة شارفيل.

احتجاج الناس السلمي على تصاريح عبور السود خارج مناطق الإغلاق أدى بهم إلى مذبحة راح ضحيتها 69 مدنيا

تلا تلك المجزرة عصيان مدني كان الأكبر في تاريخ كيب تاون، وهو ما دعا إلى تدخل الجيش وفرض حصار خانق على بلدات كثيرة، مما أدى إلى حدوث مجاعات في بعضها، وقد تأثر الإمام هارون كثيرا بهذه الأحداث، وصار يبتكر الطرق التي تمكنه من إيصال الطعام إلى الكثير من العائلات المحرومة، في تحدّ مباشر لأوامر السلطات، حتى أصبح تحت ملاحظة الشرطة السرية منذ ذلك الحين.

حكومة البيض العنصرية.. ظلال العلم البريطاني

لم يكن الإمام هارون يعارض قرارات حكومة الفصل العنصري فحسب، بل إنه كان يسعى جاهدا للإطاحة بها، وفي الوقت الذي كانت الحكومة تحل به الكيانات السياسية المناوئة لسياساتها العنصرية، فقد كانت تُلصِق بالإمام التهمة بعضويتها.

عنصرية بريطانيا جعلت للبيض يدا طولى في حكم جنوب أفريقيا صنف البيض فيها عرقا ساميا دون الآخرين

في عام 1961 قررت حكومة بريطانيا العظمى إنشاء دولة جنوب إفريقيا المستقلة بقيادة حكومة البيض دون الرجوع إلى رأي الأكثرية، ولذا فقد عمت الاحتجاجات أنحاء البلاد وشارك الشيخ هارون بفعالية في هذه الاحتجاجات من المنبر أولا، حيث طالب المسلمين بالصيام ثلاثة أيام احتجاجا، وثانيا تأمين بيوت إيواء للمطارَدين سياسيا.

في تلك الفترة حالكة السواد كان الشيخ هارون الأكثر تأثيرا ونشاطا، وكان يعقد الاجتماعات السرية في بيته، واستثمر تلك الاحتجاجات في الدعوة إلى الإسلام وتعاليمه العادلة، الأمر الذي جعل كثيرا من الناس يعتنقون الإسلام رغبة في العدالة والحرية، وكان كل همه أن ينال ضحايا الفصل العنصري العناية اللازمة، ولكن ذلك فتح عينيه وعقله على ما كان يحدث.

رحلة الحج.. بداية المعركة مع الشرطة السرية

استمر الإمام في نشاطاته السرية والدعوية حتى جاء العام 1966، حيث قرر الذهاب إلى الحج مع زوجته السيدة حليمة، ولكن هذه الرحلة كانت لها أبعاد سياسية أيضا، إذ توجه إلى لندن بدعوة من مؤتمر عموم أفريقيا “باك” دون علم من الإمام بالسبب الحقيقي لهذه الدعوة، حيث كان الحزب قد قرر الكفاح المسلح.

مسجد “كليرمونت” في كيب تاون ما يزال يخلد ذكرى الشيخ الشهيد عبد الله هارون

التقى الإمام بعدها بقس كنيسة ساينت بول الأب “كانون جوهان كولينز” الذي طلب منه توزيع الأموال على ذوي الضحايا والمعتقلين السياسيين في كيب تاون، فلم يمانع الإمام، وقال إن مساعدة المحتاجين واجبة في ديننا، كما أرسلت معه قيادات حزب “باك” شريطا مسجلا كرسالة لقيادات الحزب في كيب تاون.

أصبحت الحكومة غاضبة جدا من تصرفات الإمام، وبدا وكأنها مهزومة في إجراءاتها ضد المواطنين، ذلك لأن الإمام أخذ على عاتقه رعاية أسر القتلى والمعتقلين، خصوصا في سجن روبين آيلاند، وصار يفَرِّج عنهم المصاعب التي يلاقونها جراء فقد أرباب العائلات.

يقول خالد شامس أحد أحفاد الإمام: كان جدي كثير السفر، وكان أبا جيدا وإماما وناشطا سياسيا وتاجرا جيدا، وأعتقد أنه كان يسافر كثيرا كغطاء على تحركاته السياسية، وليلتقي بكثير من الذين يشاركونه الشأن السياسي في البلاد.

في طريق عودته كان الإمام متأكدا أن نشاطه قد وصل للشرطة السرية، وأن المراقبة عليه ستشتد، وقد علم بموت أربعة أشخاص في الحبس بررت الشرطة موتهم بكونهم قد انتحروا، غير أن الإمام كان سعيدا بما أنجزه في رحلته، ولم يكترث للخطر المحدق به مكتفيا بالقليل من الحذر، وما إن وصل حتى باشر نشاطاته الخيرية وتوزيع الأموال على عائلات المحتجزين.

يوم المولد النبوي.. خطبة الجمعة التي لم تكتمل قط

في يوم المولد النبوي من عام 1969، وبعد أن تجهز الإمام ليخطب في آلاف المصلين الذين ينتظرونه في المسجد قبض أفراد من الأمن عليه وأخبروه أنهم يريدونه في زيارة سريعة، وعند وصوله المركز الأمني أبلغوه أنه متهم بقضايا إرهاب، وطلبوا منه معلومات عن سفره الأخير، وفتشوا بيته تفتيشا دقيقا، وأبقوا على احتجازه منذ ذلك الوقت.

هارون تعرض لتعذيب وحشي في السجن لمدة 133 يوما أخرج بعدها جثة هامدة

استمر التحقيق مع الإمام منذ اليوم الأول لاعتقاله، وبشكل مكثف في الصباح والمساء، سألوه عن توزيع منشورات في الحج، وعن اتصالاته مع شخصيات مصرية وسعودية، ثم عن لقاءاته مع أعضاء “باك” في لندن، ولقائه مع الأب كولينز وإعطائه مبلغ 4000 دولار لتوزيعها على العائلات المحتاجة، لكنه رفض إعطاءهم أي معلومات، وطالب بتحويله للمحاكمة، غير أن التحقيق استمر بضعة شهور.

تقول المتخصصة في الدراسات الإسلامية في هامبورغ بألمانيا “أورسولا غانثر”: كان الإمام هارون عضوا في مجلس إدارة صحيفة “مسلم نيوز”، والمثير للاهتمام أن الصحيفة في فترة اعتقاله لم تعلق الصحيفة بأي مادة عن هذا الأمر، وبرروا ذلك بأنها صحيفة دينية بعيدة عن السياسة، وتهتم بأمور المسلمين الدينية والاجتماعية فقط، وأن المواقف السياسية تتعلق بأصحابها، وليس للصحيفة أي علاقة بها، وهذا يعطيك فكرة عن طريقة تفكير الجالية المسلمة في ذلك البلد آنذاك.

من 28 مايو/أيار وحتى 19 أغسطس/آب احتجز الإمام عبد الله في مركز شرطة كيب تاون المركزي، ومنع من الاتصال بأي شخص، وكانوا يتناوبون على التحقيق معه بمعدل عشرين ساعة يوميا، يرافق ذلك نوبات متعددة من التعذيب النفسي والجسدي.

ورغم منعه من الاتصال بالخارج فقد اهتدى خلال فترة سجنه إلى طريقة لتهريب بعض الرسائل إلى “بارني ديساي” أحد قيادات “باك” في لندن، وهو الذي ألّف كتاب “مقتل الإمام” لاحقا، كان يكتب على الغلاف الورقي لقطع البسكويت التي تجلبها له زوجته، ثم يضع الرسالة بين الطبقتين اللتين تعزلان الحرارة في حافظة القهوة، حيث كانت تأتيه زوجته بالقهوة في إحدى الزيارات، وتأخذ منه الحافظة الفارغة في الزيارة الأخرى.

“أحدٌ أحد”.. أنين بلال تحت سياط الرجل الأبيض

تقول “زيفيا” ابنة “بارني ديساي”: كان أبي يصيبه همّ كبير كلما تلقى رسالة من صديقه “الشيخ هارون”، وكان يعتبر نفسه مسؤولا بطريقة أو بأخرى عن ما جرى للإمام، فقد كنا نرى الإمام يزوره ويقومان بالتخطيط لأمور كنا نجهلها حينئذ، وكانا يقومان بالترتيب لبعض الأمور المالية وكيفية توزيع المساعدات على الأسر الفقيرة، وقد يكون الكتاب الذي ألفه عن الإمام صورة للتخلص من الذنب الذي أحس به.

عبد الله هارون المناضل من أجل الحرية سبق مانديلا في المطالبة بذلك وقتل في سبيل هدفه

يئس المحققون من أخذ أي معلومات مهمة من الشيخ فأصبحت جلسات التحقيق عبارة عن نوبات تعذيب قاسية، وأصبح الضرب حتى الإغماء حالة يومية يتعرض لها الشيخ، وكان التعذيب بالصعق الكهربائي أحد أشد المحطات اليومية إيلاما، وخلال جلسات التعذيب كان المحققون يصرخون: “نريد أسماء، زودنا بأسماء”، والشيخ لا يزيد على قول بلال: “أحدٌ أحد”.

كان هنالك جواسيس مزروعون في الأحزاب والمنظمات المناوئة للفصل العنصري، وقد اكتشف الإمام أحدهم بالصدفة، وكان من السود المجندين للتجسس على قيادات منظمة “باك”، وقد عرفه الإمام من خلال حديث المحققين إلى بعضهم، واستطاع أن يوصِل اسمه من داخل السجن برسالة إلى الأب “كولينز”.

جنازة الإمام الشهيد.. جثمان في حراسة الزلزال

بعد 133 يوما من التعذيب والمعاناة، وتحديداً في 27/9/1969 استشهد الإمام عبد الله هارون، حيث وجدت جثته في مركز شرطة مايتلاند، إذ وجدها أحد رجال الشرطة ملقاة خلف الباب عندما دخل المركز، وقد جرى الاتصال بزوجته وإخبارها بوفاته، حيث زعمت الشرطة آنذاك أنه تعثر عن الدرج وسقط ميتا.

ثلاثون ألف شخص حضروا جنازة عبد الله هارون وكانت مظاهرة لم تحسب لها الحكومة العنصرية حسابا

تحدث أفراد من عائلة الإمام ممن شاهدوا الجثة عن آثار تعذيب وكدمات وحروق في سائر أنحاء جسده، مما يعني أنه تعرض لأشكال قاسية من التعذيب، وما ذكرته تقارير التشريح المستقلة أفادت أن هنالك كسورا متعددة في أضلاعه، وجلطة دموية في منطقة الظهر أسفل عموده الفقري، ولم تكن كل هذه الإصابات نتيجة يوم واحد أو يومين من التعذيب، ولكنه تعذيب متواصل استمر لأسابيع.

كانت جنازته بمثابة ناقوس إنذار أيقظ المسلمين من سبات عميق، لم تكن مجرد جنازة عادية، بل كانت مظاهرة عارمة ويوم احتجاج استثنائيا، فقد شارك أكثر من ثلاثين ألف مشيع من مختلف أنحاء جنوب أفريقيا، ومشت هذه الجموع الغقيرة لأكثر من 8 كيلومترات إلى المقبرة.

حاولت شرطة الفصل العنصري تحديد مكان الدفن في مقابر المجهولين والمجرمين من الموتى، ولكن لأول مرة أجمع مسلمو كيب تاون على أن الشيخ يجب أن يدفن في المقبرة الرئيسية حيث العلماء ورجال الدين وقادة المسلمين، وكان لهم ما أرادوا، وبدا أن رجال الشرطة البيض كانوا يخططون لنبش القبر ونقل الجثة، إلا أن زلزالا حدث في تلك الليلة أجبر الشرطة على الفرار، وبقيت الجثة مكانها.

شارع عبد الله هارون.. جنوب أفريقيا تخلد شهداء النضال

لم يتنكر مجتمع جنوب أفريقيا لزعماء التحرر من المسلمين وغيرهم، بل خلّدوا ذكراهم واحتفظوا بأسمائهم، وكان للشيخ هارون المكانة الأسمى بين هؤلاء القادة والثوار، وفي نصب تذكاري مهيب وسط كيب تاون، وتحديدا في شارع عبد الله هارون، خلدت لوحة أسماء 117 شهيدا من شهداء النضال ضد الفصل العنصري على رأسهم الإمام عبد الله هارون.

تخليدا لذكرى هارون أطلق اسمه على الشارع الذي فيه مسجده ووضعت لوحة بأسماء شهداء الأبارتيد

تقوم مؤسسة عبد الله هارون بتنظيم معرض هام يتضمن لوحات عن مراحل حياة الإمام، ومحطات هامة من تاريخه النضالي ضد الفصل العنصري، وتركز اللوحات على إبراز الجانب الإنساني في شخصية الشهيد، وكيف نذر نفسه لنصرة المظلومين سواء أكانوا مسلمين أو غيرهم، بينما لا يزال “بارني ديساي” يكتب كلماته الأخيرة في كتاب “مقتل الإمام” كنوع من الاعتراف بهذه القامة السامقة.