“ظل الآخر”.. لقاء فكري ثائر بين طريد باريس وشريد طنجة

خاص-الوثائقية

حفلت فلسفات القدماء وأساطير البسطاء بقصص عن تلاقي أزواج من البشر، لا يجمعهم نسب ولا يوحدهم عرق، إنما هي أرواح ائتلفت على قواسم مشتركة من أخلاق أو سلوك أو نشأة اجتماعية، ثم صارت بينهم توأمة لا تنفصم عُراها، وأصبح لهم مصير مشترك يربطهم حتى الممات.

كان من نماذج التوأمة هذه، تلك التقاطعات الاجتماعية والثقافية بين الكاتب الفرنسي “جان جينيه” والكاتب المغربي الأمازيغي محمد شكري، حيث جاءت نتاجاتهما الأدبية كوجهين لعملة واحدة، مسبوكة من التشرد وقسوة العيش. تتبعت الجزيرة الوثائقية سيرتيهما، وقدمت تجربتهما في فيلم بعنوان: “ظل الآخر”، عرض ضمن سلسلة وثائقية تحمل عنوان “جسور التواصل”.

 

“نص جينيه كان قبرهم الوحيد”.. شاهد على المجزرة

في عام 1970 سافر الشاعر والكاتب الفرنسي “جان جينيه” إلى فلسطين بدعوة من منظمة التحرير الفلسطينية لمدة ثمانية أيام، لكنها استمرت لمدة عامين قضاهما متنقلا بين الثوار، ليكون شاهدا بعدها بسنوات على المجزرة البشعة في صبرا وشاتيلا؛ حيث صور الموتى مفتوحي الأعين والحفر الممتلئة بالضحايا التي بقي يتأملها طويلا، وظلت صورتها تبعث حريقا في جسده.

دوّن “جينيه” شهادته تلك في كتاب صغير بعنوان “أربع ساعات في شاتيلا”، وهو الكتاب الذي وصفه المفكر الفرنسي الشهير “جاك بريده” بقوله: “نص جينيه كان قبرهم الوحيد”، ولم يكن ذلك الالتزام من “جينيه” بالقضية الفلسطينية عرضيا أو مرحليا، بل استمر حتى آخر يوم في حياته، فقد كان آخر كتاب نشره في حياته “الأسير العاشق” معنيّا بالفلسطينيين.

قال عنه “ألبير ديشيه” من معهد الذكريات للنشر المعاصر في فرنسا: كان “جينيه” يحكي في هذا الكتاب عن ذكرياته في الفترة التي عاشها مع الفلسطينيين في مخيماتهم المنتشرة في الأردن ولبنان، فالكتاب نوعا ما مكرس للفلسطينيين.

أما الطاهر بن جلّون، وهو روائي مغربي فرنسي فقال: كان “جينيه” يناضل من أجل أن تتحدث الصحافة الفرنسية عن الفلسطينيين، وعن المأساة التي كانوا يعيشونها في ذلك الوقت، فقد كانت أفكاره ملتزمة بالقضية الفلسطينية، وضد العنصرية تجاه العمال المهاجرين العرب في فرنسا.

لم يكن ذلك الاهتمام والتعلق الذي يبديه “جان جينيه” مع العالم العربي مفاجئا، فالمرة الأولى التي ارتبط فيها اسم “جينيه” بمكان ما من العالم العربي، كانت أيام تجنيده في الجيش الفرنسي في أواخر عشرينيات القرن الماضي، ثم إرساله إلى بيروت، ومنها إلى دمشق التي مكث فيها سنة وشهرا، وظل يصف تلك الفترة بأنها الأسعد في حياته.

قضى “جينيه” عامين كاملين مع الفلسطينيين وشاهد مجزرة صبرا وشاتيلا عيانا وكتب عنها

 

“مقهى فرنسا”.. لقاء ثقافي على شواطئ الأطلسي

كانت المدينة العربية التي ارتبط بها اسم “جان جينيه” مصيريا هي مدينة طنجة المغربية. يقول “ألبير ديشيه”: علاقة “جينيه” بالعالم العربي قديمة جدا، فعندما ترك الإصلاحية في سن المراهقة وجُنّد، كان أول بلد أرسل إليه هو سوريا، ثم المغرب.

يصف محمد شويكة، الكاتب والناقد المغربي مدينة طنجة بقوله: لم تكن مدينة عادية، فتاريخها طويل مثقل بالثقافات، وهي نقطة محورية عند ملتقى الأطلسي والمتوسط، جمعت بين نمط العيش على جانبي المتوسط، تتميز باللغات الكثيرة المنتشرة فيها، كالعربية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية، فاللغات هي وسيلة الأدب والفكر والتواصل بين البشر.

ويعلق “ديشيه”: أظن أن وجوده في الخارج وتحديدا في المغرب كان أمرا مميزا، فالوجود على حافة الأطلسي في مكان مفتوح يجعل فيه ظهرَه للمغرب وأوروبا، ووجهه باتجاه المحيط الواسع، أمر يناسبه.

أتاحت طنجة لـ”جينيه” الذي امتلأت حياته باللحظات الصعبة أن يلتقي بالشخصية التي تشبهه، فالتقى ابن الشوارع الخلفية لباريس وطريد فرنسا بابن طنجة المنبوذ “محمد شكري”، فجمعهما ما كان يجب على كل منهما أن يحكيه، حكايات سوف تكون صرخة المهمشين والمنبوذين في الغرب والشرق على السواء.

كان من عادة شكري أن يتواصل مع الكتاب والأدباء الغربيين الذين يزورون طنجة، وكان “جينيه” واحدا منهم، فالتقى به في “مقهى فرنسا”؛ حيث كان كلاهما يترددان عليه، فكان يجمعهما فضاء ثقافي وجغرافي مشترك في طنجة. وفي البداية كانت العلاقة متناقضة بين الرجلين، فكلّ منهما لم يستطع قراءة الآخر، إلا أن ثمة ما كان يشدهما.

على الرغم من عالميته وشهرته الواسعة في فرنسا، آثر “جينيه” العيش في طنجة بالمغرب

 

“جينيه” وشكري.. سجين مدى الحياة وفقير مشرد

هرب “جان جينيه” المتشرد الذي لا يعرف أباه، من دار الإيواء إلى كنف عائلة لم يشعر في يوم أنه ينتمي إليها، فهرب ثانية، ولكن هذه المرة إلى السجن الذي اعتاد ارتياده لمرات، أما شكري فلم يدخل السجن، ولكن والده حول حياته كلها إلى سجن، فهرب من بيت العائلة منبوذا متشردا في شوارع طنجة.

اختلفت تفاصيل الرجلين، لكنهما اجتمعا على حياة التشريد حتى الممات. ففقدان الأب والعائلة يساهم في تشكيل شخصية معقدة حادة الطباع. يكفي أن نعلم أن شكري التحق بالمدرسة في سن العشرين، وقد عانى الأمرّين من الجوع والفقر، بينما عاش “جينيه” السجن ومرارة الابتعاد عن فضاء الحرية، فكان “جينيه” يعطف على شكري، ويحس أنه صورة من طفولته، فحاول أن يعوضه عن أيام الضياع التي عاشها.

حكم على “جينيه” بالسجن مدى الحياة عام 1948، وذلك لتعدد سرقاته وصعوبة إصلاحه كما رأى القضاة، ولولا وساطة عدد من المثقفين الفرنسيين المفتونين به وبحياته، من أمثال “سارتر” و”جان كوكتو”، من أجل الإفراج عنه لأمضى بقية حياته في السجن. وقد ساهم العفو الرئاسي عنه في ترسيخ مكانته الأدبية والثقافية عالميا.

أصبح “جينيه” أحد كبار الكتاب الفرنسيين، مما جعله يتخلى عن حياة السرقة والجريمة تماما، لتبدأ تلك الروح المتمردة حياة جديدة جعلته يرتبط مع العالم العربي عموما والمغرب على وجه الخصوص، وصار “جينيه” المترحل أيضا يعتبر أن جميع الأرض ملك له، ويحدوه قلق إنساني تجاه المعرفة والجمال.

“الخبز الحافي”.. الرواية التي نقلت المغربي محمد شكري إلى العالمية

 

“الخبز الحافي”.. سيرة ذاتية قاسية تصنع روائيا عالميا

تبدو حياة محمد شكري الذي يصغر “جينيه” بخمسة وعشرين عاما، كما لو كانت النسخة المعربة للكاتب الفرنسي، إذ تختلف التفاصيل ويبقى الجوهر واحدا، فقد تخلى شكري عن حياة التسكع في بداية عشرينياته، ولم يكن بعد يعرف القراءة والكتابة، فقرر التخلي عن كل ما سبق والانخراط في حياة أدبية ثقفية جديدة، عماده التواصل مع أدباء وكتاب العالم الذين تزخر بهم طنجة.

يمثل لقاء شكري مع المؤلف الأمريكي “بول بولز” الذي يستوطن مدينة طنجة، نقلة نوعية معرفية في حياة الشاب المغربي الضال، ذلك التعارف الذي يثمر عن أولى رواياته “الخبز الحافي”، وهي عبارة عن الجزء الأول من سيرة حياة محمد شكري الصعبة الصادمة، وقد صدرت الرواية بالإنجليزية، بترجمة “بولز”، قبل صدورها بالعربية. ليصبح شكري ذلك الروائي الكبير، الذي عرفه الجمهور العربي.

يقول بن جلون: “كنت أرى شكري في شوارع طنجة يائسا من العالم، فلا أحد يهتم به، والمثقفون المغاربة يهملونه، ولم يكن عنده ثقافة معينة مهمة”، وقال هو عن نفسه: “لو لم أكتب هذه الرواية لانتحرت، أو لصرت مجنونا”، لم يكن ثوريا ولا مهتما بالإيديولوجيا، بل اهتم بوصف تجربته الحياتية، لقد وصف طبقة اجتماعية معينة ووجد في هؤلاء صدى لإبداعه.

كانت إبداعاته أن يكتب سيرته ويشهد على حياته، دون أن يكون له خيال كبير، بل يأخذ من حياته ويكتب عنها، واستطاع أن يوصل أدبه من خلال الترجمة إلى تسعين لغة عالمية أوصلت شكري إلى ما هو عليه اليوم، وجعلت أدبه ذا قيمة عالمية اجتماعيا وفلسفيا.

لم تكن قيمة شكري الأدبية هي العامل الرئيس في تعرفه على جينيه، فهو يروي القصة على نحو آخر كما وردت في ذكرياته؛ كان جالسا في أحد المقاهي في طنجة ظهيرة أحد أيام نوفمبر/تشرين ثاني 1968، عندما لمح جينيه يتجه إلى المقهى المقابل، ورغم تحذير صديقه له لحدة في طبع الكاتب الفرنسي الكبير، فإن شكري لم يستمع له، وتوجه إلى “جينيه” وقدّم نفسه له على أنه كاتب مغربي.

نظر شكري إلى “جينيه” كمُلهم ومثل أعلى في الكتابة

 

ظل الكاتب الكبير على الصغير.. عطف الأب ولوعة التشرد

على الرغم من أن شكري كان يخطو خطواته الأولى في الأدب، فإن هذا اللقاء مثّل بداية انطلاقته على المستوى المحلي والعربي بل والعالمي، ولم تكن العلاقة بينهما ندّية، فقد كان شكري ينظر إلى “جينيه” على أنه الملهم والموجه والمثل الأعلى، بينما كان “جينيه” يعطف على شكري.

أياً كانت العلاقة، فإن لقاءهما على أرصفة طنجة كان مهما لكليهما، وعلى الرغم من أن “جينيه” لم يكن المعلم المباشر لشكري، بسبب أن الأمريكي “بول بولز” يحجز هذه المرتبة؛ فإن السمات المشتركة ليومياتهما في “الخبز الحافي” و”يوميات لص”، صبغت حياتهما بطابع مشترك لا يمكن للقارئ أن يتجاهله.

لقد كانا شخصيتين مستقلتين، وكانت تجربة “جينيه” أغنى بكثير من تجربة شكري، بالنظر إلى السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فشكري هو ذلك الأمازيغي المنفتح الذي يكتب بالعربية، أما “جينيه” فكان الأكبر سنا والأوسع خبرة، ولكن هناك تقاطعات في المُنجَز الأدبي بينهما.

وكان تأثير “جينيه” حاضرا، ليس بطريقة الكتابة والأدب، لكن في السلوك العادي اليومي، وبالرغم من الفارق في السن فإن شكري لاحظ الأسلوب الثائر في حياة “جينيه”، فهو لا يقبل بأي شيء، وينتقد كل شيء، ويتكلم بعنف عن القضايا التي تهمه. وكان شكري يرى كل هذا في نفسه، أو أن هذا هو المثال الذي يجب أن يصل إليه، لأن المرجعية الأدبية والاجتماعية والنقدية واحدة.

أقام جان جينيه أواخر عمره في مدينة العرائش المطلة على الأطلسي، وفيها دفن

 

مدينة العرائش.. حيث اختار “جينيه” مرقده الأخير

لا يكتفي شكري بكل تلك التجارب التي استفادها من علاقته بـ”جينيه” ومن هم على شاكلته من كبار الكتاب الذين ارتبط معهم بعلاقات وثيقة في طنجة، مثل “تينيسي ويليامز” و”بولز”، ولكنه كذلك يحكي عن علاقته بكل واحد منهم من خلال كتبه فيما يشبه اليوميات، ويرصد فيها لقاءاته بهم.

لكن ذلك الكتاب الذي كتبه عن “جينيه” لم يلقَ ذلك الترحيب المتوقع من الرجل العازف عن الظهور والأضواء بكل شكل في وقت ظهور الكتاب، إلا أن ذلك الامتعاض الذي أبداه “جينيه” بقي في إطاره فقط، ولم يتطور لأي رد فعل أكثر عدائية، ففي تلك الفترة من نهاية الستينات وبداية السبعينات لم يكن “جينيه” يحب أن يتحدث عنه أحد.

كان يحب أن يكون مجهولا، خرج من فرنسا هربا من الأضواء، أغضبه الكِتاب لأنه يدعي أنه باح بأسرار لم يكن عليه البوح بها، لكنه في النهاية تقبله، قبله من شكري تحديدا، ليس لأنه بوح ثقافي من كاتب ندّه، ولكن لشيء آخر، لنقل إنها علاقة العطف والأبوية التي يستشعرها “جينيه” تجاه شكري.

تنتهي رغبة “جينيه” في العزلة والابتعاد بعيدا عن صخب الحياة الثقافية الفرنسية إلى اختياره الإقامة الدائمة خارج فرنسا، وأين يمكن أن يقيم إلا في ذلك البلد الذي ارتبط به أغلب سنوات عمره، في المغرب لكن ليس في طنجة السياحية، بل في مدينة أصغر هي العرائش، على بعد 80 كم من طنجة، بطابعها المحلي الصرف، وروحها المغربية الواضحة، وبقي فيها حتى آخر عمره، وما بعد ذلك.

أراد الابتعاد عن صخب طنجة العالمية، إلى هدوء شرفات العرايش، حيث بإمكانه أن يطل على العالم بأريحية من هناك، في تلك المدينة كتب فيها كتابه الأخير، وأوصى أن يدفن فيها، حتى يبقى على شواطئ الوطن العربي الذي أحب، غير بعيد عن حدود فرنسا التي أنجبته.