الكواكبي.. رجل أراد القضاء على “طبائع الاستبداد” فقضت عليه

“المستبد يتحكم بشؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه غاصب متعدٍّ، فيدوس برجله الملايين، ويخرسهم عن النطق بالحق والتداعي لمخالفته، والمستبد عدو الحق والحرية”. كلمات قالها المفكر والمصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن من الزمان، وأغلب الظن أنه دفع حياته ثمنا لها.

وفي طبائع المستبدّين تشابه عابر للعصور والأماكن، ولآفات الاستعباد أضرار تستمر عبر الأجيال، وقد أفنى المفكر والمصلح عبد الرحمن الكواكبي عمرا عزيزا في بيان طبائع الاستبداد، وتشخيص مصارع الاستعباد. ثم جاءت قناة الجزيرة الفضائية لتتصفح هذا السِفر القيّم، ولتسلط الضوء على أهم ما ورد فيه، ولتسبر أغوار آراء الدارسين له والناقدين في حلقة من حلقات برنامج “خارج النص”.

ابن حلب الثائر.. هجرة إلى الحرية

يقول “جان داية” الباحث والمتخصص في التراث الفكري: استخدم الكواكبي الأسلوب العلمي البسيط والمباشر في تأليف هذا الكتاب، وفي ذات الوقت كان عميقا في تحليل شخصية الحاكم المستبد والمحكوم المستعبد.

ويصفه الفيلسوف اللبناني د. ناصيف نصار بأنه كتاب نقدي فضح فيه المؤلف عيوب الاستبداد على صعيد التربية والعلم والدين والاقتصاد وكل مناحي الحياة الأخرى.

الكواكبي هو أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، ولد في حلب وأمضى فيها ردحا من عمره في صدام مع الدولة العثمانية، وقد أثار في كتابه قضية الاستبداد السياسي وآثاره الكارثية على حضارة الأمم، ويعتبر الكتاب من أوائل الكتب العربية التي تناولت فلسفة السلطة وسبل تهذيبها.

الكواكبي يصف كيف أن المستبد يضع كعب حذائه على أفواه الملايين من الناس فيسكتهم

يقول الكواكبي: زرت مصر راجيا ما فيها من الحرية، ولكني وجدتها مريضة بنفس ما يعاني منه الشرق كله، ووجدت نفس الأسئلة الكبيرة والمحيرة: ما سبب الانحطاط؟ وما هي وسائل النهوض؟ ووجدت أن مدار ذلك كله هو الاستبداد السياسي، وأن العلاج هو الشورى الدستورية.

“طبائع الاستبداد”.. كواليس التأليف

يقول الكواكبي عن كتابه إنه لم يقصد فيه ظالما بعينه أو حكومة بنفسها أو أمة مخصصة، وإنه يتحدث فيه عن محض الحق الذي يعرف بذاته لا بالرجال.

ويقول د. سلام الكواكبي حفيد الشيخ وأستاذ العلوم السياسية: الكتاب عبارة عن مقالات بدأ كتابتها قبل أن يتوجه إلى مصر، ثم هناك صار ينقحها وأعاد تبويبها وأصدرها على شكل كتاب شرح فيه عصارة فكره عن طبائع الاستبداد وطرح فيه بعض الحلول من مثل الشورى والديمقراطية ومبدأ المساءلة للحاكم والمحكوم والأخذ بأسباب العلم الذي يراه الكواكبي نقيض الاستبداد.

أما حسن أبو هنية الباحث الأردني فيقول: يبدو أن الكواكبي قد اطلع على بعض الترجمات والكتب الغربية التي تناولت هذا الموضوع وأشباهه، وقد يكون منها كتاب الإيطالي “ألفيري” الشهير حول الاستبداد -بل يكاد يكون قد نسخ عبارات أو فقرات من الكتاب كما هي- حول مسائل الحكم العادل وحكم العسكر، مع ما في هذه المنظومة من قهر للفرد، وما يصلح المجتمعات من الحكم الشورى أو الديمقراطي.

ويعلق د. سالم الفلاحات مدير مركز الأمة للدراسات: نعم، فالكواكبي شخّص الداء ووصف الدواء، وهو ليس مفكرا وحسب، بل كان مصلحا يرنو إلى أن تخرج الأمة من حمأة الانحطاط الذي غاصت فيه، وربما يكون قد دفع حياته ثمنا لذلك.

حكم العسكر.. أذرع النبتة الشيطانية

يتطرق الكواكبي إلى تعريف الجندية والعسكرية، ويرى أنها من الأسباب الأساسية في تخلف الأمم، وهي من منظوره تربي الناشئة على الشراسة والاتكال والطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر دون تفكير، فهي تميت النشاط وروح الاستقلال، وتكلف الأمة نفقات طائلة. حتى قيل: إن صاحب فكرة الجندية لو كان هو الشيطان، لكان انتقم من ابن آدم أشد ما يكون الانتقام.

وعن الظرف الذي كُتب فيه الكتاب يقول الفلاحات: ظنت المنطقة العربية أنها قد نالت الحرية بزوال دولة العثمانيين، ولكنها وقعت في عبودية أشد، يوم رهنت مصيرها بيد المحتل الأجنبي، ثم بعد أن دفعت ثمنا باهظا في الاستقلال عادت وعلّقت مصيرها بحكم العسكر وحكم الفرد.

محاربة الاستبداد والظلم والعبودية كانت الهم الشاغل لعبد الرحمن الكواكبي في حياته وكتاباته

وفي موضوع حكم العسكر يعلق أبو هنية: أسوأ أنواع الحكم هو الحكم الدكتاتوري الفردي السلطوي العسكري، وربما استدعيت شخصية الكواكبي وفكره في مرحلة ثورات الربيع العربي، نظرا لما عانته الشعوب العربية من حكم الجنرالات والمؤسسة العسكرية التي بدل أن تنتشل الأمة وتدفعها إلى التقدم والحداثة، فإنها أغرقتها في مستنقع التخلف والرجعية.

لم يقتصر تقريع الكواكبي على الحاكم فقط، بل إنه جلد الفرد الخانع المستخذي (الذليل الخاضع) بنقد لاذع، حيث خلص إلى أن هذه المجتمعات الخانعة تستحق أن تكتوي بنار المستبدين، بل ويزيد حتى يقول: إن كل راضٍ بالاستبداد هو مستبدّ في ذاته، فكيفما تكونوا يوَلّ عليكم.

فصل الدين عن السياسة.. قاموس العلمانية الغربية

يبحث المستبد دائما عن قدسية يشارك بها الله، ويتخذ في سبيل ذلك بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، بل إنهم يوجِبون له الصبر على ظلمه والحمد على عدله “وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا”، والأصل أن هذا هو واجبه تجاه الله وتجاه الناس، ولا محمدة له فيه وهم كذلك يصفون بالبغي والطغيان كل من انتقد حاكما ظالما أو عارضه بل ويبيحون دمه. “وما أحوجنا في الشرق إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، ولا بصلف الحكام الجهلة، فيجددّون النظر في الدين، نظر من لا يبتغي غير الحق الصريح”.

أعمال عبد الرحمن الكواكبي التي تم جمعها بعد موته

أثار الكتاب جدلا كثيرا وما يزال، حول علاقة الدين بالدولة، لدرجة أن كثيرا من الدارسين رأوا في الكواكبي المفكر الإسلامي الأول الذي دعا إلى فصل الدين عن السياسة. وهنا يعلق د. نصار: لم يكن الكواكبي فيلسوفا متمرسا لا في السياسة ولا في الدين، ولذلك طرح أفكارا ما زالت مثار جدل، ولا تحظى بإجماع لدى الدارسين له، منها أن الإسلام مبني على العقل المحض، وهي فكرة لا ينبري الكثيرون للدفاع عنها. ولكن نصوص الكتاب تسمح بالتأويل، بحيث نجد له عذرا فيما يقول؛ فهو لم يقل صراحة بفصل الدين عن الدولة، ولكن يمكن تفسيرها على أنه دعا إلى فصل الإدارة الدينية عن إدارة الدولة.

وفي نفس السياق يقول “جان داية”: هو كتاب إصلاح سياسي واجتماعي، وردت فيه عبارات لا ترد إلا في قواميس الغرب العلمانية، فمثلا: الدين هو ما يدين به الفرد لا الجماعة. وقوله في مكان آخر: لنأخذ بما أخذت به أمريكا والنمسا من الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية.

رجال الثقافة.. حرب المستبد الكبرى

يثير أبو هنية قضية العلاقة بين المثقف والسلطان فيقول: هي صدامية في أكثر الأحيان، وقد رأى الكواكبي أن حرب المستبد الكبرى تدور رحاها على المثقفين والنخبة، وأن العلم هو عدو المستبد الأول، وأن العلماء والمستبدين يتجاذبون العوامّ، والغلبة لصاحب القوة.

ضحى الكواكبي تقف على قبر جدها الذي نقشت على جدرانه أبيات شعر قالها حافظ إبراهيم في حق الكواكبي

أما د. سلام فيتناول علاقة فئة أخرى مع المستبد وهم المتزلّفون، فيقول: آفة المجتمعات التمجيد، وهو التزلف للحاكم المستبد كي يحصلوا على مصالحهم، ولكل مستبد ممجّدوه الذين يشتريهم بالمال غالبا، فيعطيهم ليأخذ ويمنع عنهم ليسيطر حتى يصيروا عبيدا يبتغون التزلف بالعطايا، ويورّث في النفس ذلا ونفاقا يدعوها إلى الكذب والخيانة، ويميت فيها الروح الوثابة للعزة والنور، حتى لَترضى بالتسفّل مع الفتات، على الرقي والتحضر.

مشروع الخلاص الأفلاطوني.. طوباوية الطرح

قدّم الكواكبي في نهاية كتابه مشروعا للخلاص، ورسم فيه معالم الثورة الناجحة التي لا تذهب بمستبد لتأتي بغيره: قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تكون مستعدة لقبولها، وأما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلّما تفيد شيئا، فالثورة الناجعة هي التي تحصد الاستبداد من جذوره وليس بقطع الجذع فقط، وهذا لا يكون بالعنف إلا في أضيق الحدود، فإن العنف غالبا ما يستأصل شأفة الأمة ويقوض بناءها.

ويختم بالبشرى: إن بواسق العلم وما بلغ إليه تدل على أن يوم الله قريب. فيسود العلم ويقلّ التفاوت بين البشر، وتنحلّ السلطة وتُستبدل بالعدل والتوادد، فيعيشون بشرا لا شعوبا وشركات لا دولا، وحينئذ يعلمون ما معنى الحياة الطيبة.

ويعلق ناصيف على هذه الخاتمة: وهذا تصور “طوباوي” (غير واقعي) لا يخضع للمعايير الواقعية، وتلك مدينة أفلاطونية لا وجود لها على الأرض، مما يدل على أن الكواكبي لم يكن صاحب مذهب متعمق في السياسة، ولا مشروع واقعي للإصلاح.

أما الفلاحات فيلتمس له في ذلك عذرا: هو ثائر وشاعر وأديب مرهف الحس صادق الوطنية، يمكن أن تعتريه بعض الهنّات والمبالغات التي يمكن أن تُغفَر له، والاستدراكات عليه لا تقدح في صدقه.

كانت نهايته مثل نهاية كثير من المصلحين الذين وقفوا ضد السلطات المستبدة، فقيل إنه مات مسموما دُسّ له السمّ في قهوته، ولا يُعرف من الذي نفذّ فيه حكم الموت، لكن حفيده يؤكد أن السلطان حاول استقطابه واستمالته فرفض، فكان هذا سببا في تعجيل موته.