ناجي العلي.. حنظلة فلسطين التي نغصت حياة المطبعين

هنا القاهرة ذات خريف من أوائل التسعينيات، وقد مضى أكثر من عقد على معاهدة السلام بين مصر واسرائيل، حيث توارى الاهتمام رسميا بالقضية الفلسطينية خلف أستار التطبيع، وامتد عدم الاهتمام إلى الإعلام وإلى المضامين الفنية ومنها السينما، في هذه الأجواء خرج إلى النور فيلم “ناجي العلي”، من إخراج عاطف الطيب وبطولة نور الشريف وتأليف بشير الديك، ليحكي لنا قصة حياة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي.

وقد فتحت قناة الجزيرة الفضائية بدورها ملف الفيلم المثير للجدل، وناقشت آراء مؤيديه ومعارضيه، ووقفت على الأسباب الحقيقية للهجوم العنيف الذي تعرض له الفيلم، وذلك ضمن حلقة من برنامج “خارج النص”.

حنظلة.. أيقونة الوجع الفلسطيني

يقول مؤلف الفيلم بشير الديك: نحن نتحدث عن أخطر قضية في التاريخ العربي بل والإنساني، كان كل همي أن أعمل فيلما عن القضية، فهي قضيتي ومكانها القلب.

وتحدث وليد الحسيني منتج الفيلم قائلا: اخترنا ناجي، لأن في قصته دراما حقيقية، وهناك أهداف مشروعة في حياته.

وقال عبد الله السناوي، صحفي مصري، عن ناجي العلي: هو فنان فلسطيني، انتقد منظمة التحرير بكل فصائلها ومستوياتها، وانتقد النظام العربي الرسمي، وانحاز للمهمشين، هو حنظلة بكل يأسه وضعفه.

أما براء الخطيب، وهو صحفي مصري، ومن الذين انتقدوا الفيلم، فقال: هو رسام عظيم وفلسطيني كبير، ولكن استخدام قصته لفيلم سينمائي كان حركة سياسية بعيدة كل البعد عن الأهداف الفلسطينية.

لم يأت اختيار ناجي من فراغ، فقد مثلت حياته وعمله ومقتله محطات الفلسطيني في الغربة الفلسطينية بكل مراحلها، ومعاناته بكل أبعادها، وكما كانت الشخصية صعبة فقد كان الفيلم صعبا في كل مراحله، بدءا من قصة السيناريو والإنتاج والتصوير، إلى تتبع حياة ناجي من فلسطين إلى الأردن إلى الكويت ثم في بيروت وفي لندن.

يقول محمود الجندي، وهو ممثل مصري، وأحد أهم الشخصيات في الفيلم: صوَّرنا في بيروت بعد الحرب الأهلية الدامية، في نفس الأحياء المهدمة، بل كنا نستخدم الذخيرة الحية في تصوير مشاهد القصف، لعدم توفر ذخيرة الصوت.

وعن أجواء التصوير هذه يقول الصحفي براء الخطيب: الصورة كانت ضعيفة، فأنت تصور في مكان مدمر أصلا، كان يمكن استخدام مواقع تصوير خاصة.

احتجاج ياسر عرفات.. عرض بإذن رئاسي

فيلم ناجي العلي هو فيلم عن شخصية مهمة مثيرة للجدل لم يمض على اغتياله أكثر من 4 سنوات، وقد صُوِّر في عاصمة عربية عانت من الحرب الأهلية والدمار، وقام بالبطولة نجم يعتبر في وقته من أهم نجوم الصف الأول في مصر والعالم العربي، هذه الخلطة المميزة أثارت انتباه سعد وهبة رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الذي أعجب بالفيلم وبالعمل الكبير الذي بذل، فقرر أن يكون فيلم الافتتاح في المهرجان.

لكن وهبة فوجئ برسالة ياسر عرفات عن طريق مندوب له إلى الرئيس المصري حسني مبارك يحتج فيها على الفيلم ويطلب فيها وقف عرضه، فطلب الرئيس مبارك من أسامة الباز أن يشاهد الفيلم ويخبره إذا كان هناك ما يمنع من عرضه، فلما شاهد أسامة الفيلم رأى أنه لا يحتوي على ما يمنع من عرضه وأخبر مبارك بذلك، وأعطى الإذن بعرضه.

ناجي العلي كان منتقدا للفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها “فتح”، لذلك حاول ياسر عرفات منع عرض الفيلم الخاص به

تهمة الخيانة العظمى.. معركة حامية الوطيس

كانت الأيام التي سبقت عرض الفيلم تنبئ بمعركة نقدية حامية الوطيس على صفحات الجرائد، بين طاقم عمل الفيلم وبين النقاد والصحفيين، ولكن بعد عرض الفيلم تغير مزاج كتّاب الأعمدة الرئيسية في الصحف، وبدلا من النقد الفني للفيلم، فقد واجه الفيلم حملات إعلامية منظمة من الصحف المصرية طالبت بوقف عرهه، وكان هنالك نقد لاذع لطاقم الفيلم وصل إلى درجة التخوين والاتهام بالمراهقة السينمائية، ولم يسلم ناجي العلي نفسه من التهم الهابطة والشتائم المقذعة.

وقد شاركت ثلاث صحف رسمية كبيرة في انتقاد الفيلم وانتقاد ناجي شخصيا، بل واختلاق أخبار كاذبة للغاية بحق ناجي، وتصدى له كتّاب كبار من عيار إبراهيم سعدة وسمير رجب، وكانت حملة منظمة أشبه بحرب ضد الفيلم، ووصل الأمر إلى السلطة السياسة عندما كتب وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني، ضد الفيلم. وكانت الأجهزة الحكومية التي سمحت للفيلم بالظهور في المهرجان الدولي، هي نفسها التي منعته من الظهور في المهرجان القومي.

رافق حملة منع الفيلم وانتقاده الشديد، ظهور رسومات لناجي العلي على صفحات الصحف تنتقد السياسة المصرية الرسمية، وهرولتها نحو التطبيع مع العدو الصهيوني، ويقول كاتب الفيلم بشير الديك في هذا السياق: لم تكن الرسومات ضد مصر، بل ضد السياسة المصرية تجاه قضية فلسطين، ونحن كذلك كنا ضد هذه السياسة، كان ناجي ضد كامب ديفيد، ونحن كذلك كنا ضدها.

صحف مصرية رسمية كبيرة شاركت في انتقاد الفيلم وفبركة أخبار كاذبة بحق ناجي العلي

إعلام الحكّام.. إذ ينحاز ضد الفن

ثلاث صحف رسمية كبيرة شاركت في انتقاد الفيلم وانتقاد ناجي شخصيا، بل وفبركة أخبار كاذبة للغاية بحق ناجي، وتصدى له كتّاب كبار من عيار إبراهيم سعدة وسمير رجب، وكانت حملة منظمة أشبه بحرب ضد الفيلم، ووصل الأمر إلى السلطة السياسة عندما كتب وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني، ضد الفيلم. وكانت الأجهزة الحكومية التي سمحت للفيلم بالظهور في المهرجان الدولي، هي نفسها التي منعته من الظهور في المهرجان القومي.

رافق حملة منع الفيلم وانتقاده الشديد، ظهور رسومات لناجي العلي على صفحات الصحف تنتقد السياسة المصرية الرسمية، وهرولتها نحو التطبيع مع العدو الصهيوني، ويقول كاتب الفيلم بشير الديك في هذا السياق: “لم تكن الرسومات ضد مصر، بل ضد السياسة المصرية تجاه قضية فلسطين، ونحن كذلك كنا ضد هذه السياسة، كان ناجي ضد كامب ديفيد، ونحن كذلك كنا ضدها”.

حجم الإنتاج الضخم الذي خُصص للفيلم كان مثار شك وريبة عمن يقف خلف إنتاجه وتمويله

شبهة المال السياسي.. رائحة أموال القذافي

يعتقد كثير من المراقبين أن حجم الإنتاج الضخم الذي خُصص للفيلم كان مثار شك وريبة، فلا الفنان نور الشريف يملك هذا المبلغ الطائل من المال، ولا جهة الإنتاج التي ظهرت في الفيلم كذلك، وقد توجهت كثير من الأنظار -كما يقول أشرف أبو الهول نائب رئيس تحرير الأهرام- إلى أن ليبيا ممثلة برئيسها معمر القذافي هي من تقف وراء إنتاج الفيلم، وأن كل الأفلام المشابهة في انتقادها لمصر وعلاقتها مع الكيان، كان يقف وراءها إما القذافي أو صدام حسين.

بينما يرى المدافعون عن الفيلم أن الطاقم المتجانس الكاره لإسرائيل وللتطبيع معها، هو من يقف وراء ظهور الفيلم إلى النور، وينفي منتج الفيلم وليد الحسيني أن يكون القذافي ساهم ولو بدولار واحد في إنتاج الفيلم.

ويؤكد وليد الحسيني وهو أيضا “المشرف السياسي” للفيلم، أن قصة الفيلم هي سرد وقائع وليست محكمة سياسية ضد أحد، وأن حادثة الاغتيال التي تعرّض لها ناجي العلي، لم يكن للفيلم فيها أي توجّه ضد أي فصيل فلسطيني، ولكن كثيرا من المراقبين السياسيين والأمنيين وكذلك وسائل الإعلام كانو قد أشاروا إلى تورط “حركة فتح” في اغتيال ناجي العلي.

وعن وظيفة “المشرف السياسي” للفيلم أثار كثير من المنتقدين أن هذه الوظيفة بمثابة فرض رؤية سياسية معينة على طاقم الفيلم والمشاهدين كذلك، بينما يرى النقاد المحايدون ووليد الحسيني كذلك أن أي فيلم له طابع سياسي أو وطني يجب أن يكون له مشرف أو موجه سياسي يتحمل مسؤولية ما يرد في النص من مواقف سياسية.

محمود الجندي كان الشخصية المصرية الوحيدة في الفيلم، وهو ويمثل شخصية شاب ينتظر قدوم الجيوش العربية التي تتأخر في المجيء

انتظار الجيوش العربية.. شخصية المواطن السكّير

من المآخذ التي يُسجلها النقاد المصريون على فيلم ناجي أنه تجاهل التركيز على حرب أكتوبر 1973، بينما ركّز على نكسة 1967 وعلى تنحّي عبد الناصر بعدها، ومن ثم خروج الجماهير العربية والمصرية لمطالبته بالاستمرار وعدم التنحي. ويدافع بشير الديك مؤلف الفيلم قائلا إن الدراما التي تحكي زمن الانحدار العربي الذي عانى منه ناجي لم تحتمل التركيز على حرب 73، الأمر بهذه البساطة، وليس تجاهلا متعمدا لهذه الحرب.

وعن الشخصية التي مثّلها الفنان محمود الجندي، وهي الشخصية المصرية الوحيدة في الفيلم، رأى المنتقدون للفيلم استصغارا للدور المصري في القضية الفلسطينية، حيث يمثل الجندي شخصية شاب في حالة سُكْر دائم، وطوال مدة الفيلم يكون ينتظر الجيوش العربية التي تتأخر في المجيء.

لكن الممثل محمود الجندي نفسه يرى أن هذه الشخصية فيها تحدٍّ كبير، وتمثل إلى حد كبير الشعوب العربية التي تعيش حالة من الذهول والتيه، ولكنها في الوقت نفسه تراهن على اتحاد الدول العربية من أجل تحرير فلسطين.

بسبب كثرة الانتقادات والتخوينات التي لحقت بنور الشريف بعد هذا الفيلم فكّر مليا أن يهاجر ويترك مصر

“إنت يا ابني صحيح خنت مصر؟”

حشد النظام والإعلام المصري كعادتهما جموع المطبلين والمزمرين الذين يحتاج إليهم للتشهير بقضية ما أو شخصيات معينة، وانهالت الشتائم وتهم الخيانة العظمى من كل حدب وصوب، إلى درجة المطالبة بمحاكمة نور الشريف وبشير الديك وعاطف الطيب وجميع أسرة الفيلم من المصريين بتهمة الخيانة الكبرى.

فُرِضت عزلة فنية تامة تشبه المقاطعة على نور الشريف وبقية الطاقم، لدرجة أن نور الشريف كان يفكر في الهجرة، بينما كان والد عاطف الطيب مخرج الفيلم يسأله: “إنت يا ابني صحيح خنت مصر؟”، وكان الوضع مؤلما كثيرا لكل أسرة الفيلم نتيجة هذه الحملة الإعلامية الممنهجة ضد الفيلم وطاقمه.

رحل أغلب الذين عايشوا الفيلم أو شاركوا فيه أو حتى الذين انتقدوه، ولكن بقي الفيلم شاهدا على مرحلة معينة من مراحل القضية الفلسطينية، وعلى فترة من فترات الصراع مع العدو المحتل، ومهما تباينت الآراء حول الفيلم بين مؤيد ومعارض، إلا أنه مثله مثل أي موقف سياسي يحتمل أن تكون ضده اليوم ومعه غدا، فقد رأينا كثيرا من الذين انتقدوا الفيلم أيام صدوره قد غيروا مواقفهم تجاهه فيما بعد.