قصبة تاوريرت.. السينما المغربية حين تُطاوِل النجوم

بعد حلقات “السينما المصرية” في سلسلة من أربعة أفلام تحكي قصتها من التأسيس إلى الألفية؛ تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “ذاكرة السينما” وتتناول فيها السينما العربية إضافة إلى السينما النيجيرية والتركية. وتتناول السلسلة بدايات السينما وتطوراتها في كل دولة، إضافة إلى أبرز الأحداث التي أثرت فيها والتغييرات التي طرأت على محتواها والتحديات التي واجهتها والآمال المرجوة منها، كما تتطرق إلى أبرز الممثلين والنجوم الذين صنعوا السينما في هذه الدول، وتعرض لأبرز أفلام كل مرحلة. وفي الحلقة الثالثة نسلط الضوء على جانب من حياة أهل ورزازات البسطاء (الكومبارس)، الذين يجنون لقمة عيشهم من خلال أدوارهم الثانوية في السينما. 

 

حسن العدم

من ورزازات أو هوليود السينما الأفريقية كما يسمونها، تسلط الجزيرة الوثائقية الضوء في هذا الفيلم الذي أنتجته بعنوان “السينما المغربية” ضمن سلسلة “ذاكرة السينما”، على جانب من حياة أهل ورزازات البسطاء، الذين يجنون لقمة عيشهم من خلال أدوارهم الثانوية في السينما، وتسجل جانبا من أسلوب حياتهم ومعاناتهم اليومية، في الوقت الذي تلتقط فيه الكاميرا صورة ذات ضوء باهت لآمالهم وأحلامهم البسيطة على خلفية كالحة السواد.

 

كومبارس في السينما.. ونجوم في الحياة

“كن صبورا يا ولدي، أريدك أن تصبح رجلا في المستقبل، كي أعتمد عليك، أنا أعرف أن البرد قارس هذا الصباح، ولكن لا بد أن نتحمل، هذه طبيعة عملنا، أنت تعرف أنه لا يوجد لنا مصدر رزق غير هذا، وبالنسبة للدراجة الهوائية التي تحلم بها، لا تيأس يا ولدي سأشتريها لك”.

ويتابع محمد ولد سوسي الذي ناهز الخامسة والخمسين من عمره طريقه، وهو يمسك بيد ولده اليافع، كانت الساعة الرابعة فجرا في يوم شديد البرودة، وفي الطريق إلى العمل يصادف إلهام وصديقتها من بنات حارته، يحييهما بلطف وتردان عليه بأدب جم، يمازحهما: نحن لا نلتقي في مثل هذا الوقت إلا عندما نجد عملا ما، وتحرك البنتان رأسيهما بالموافقة.

وهناك، في آخر الطريق يلتقون بثلاثة من الشيوخ كبار السن، وبالسيدة مليكة أيضا، كانت البهجة تملأ المكان، لقد حصلوا على عمل أيضا، وعلى الرغم من برودة الجو والمطر الغزير الذي بدأ يهطل هذا الصباح، إلا أن هؤلاء النفر من قصبة تاوريرت في مدينة ورزازات جنوب شرق المغرب كانوا في غاية السعادة والانشراح.

تُرى ما سر سعادتهم في هذا الصباح البارد، وما هو العمل الذي حصلوا عليه لتبدو عليهم كل هذه البهجة، وكم هي الثروة التي سيحصلون عليها من هذا العمل؟

بعد قليل من الانتظار تأتي الحافلة التي يبدو أنها سوف تنقلهم إلى موقع العمل.

كانت إلهام تتمتم: نحن مضطرون لهذا العمل صيفا وشتاء، إنهم لا يعبؤون بمعاناتنا، وينجزون أعمالهم عبر الهاتف دون أي عناء، وفي آخر الأمر يكسب أحدهم مثل أجر 100 عامل في الكومبارس أمثالنا.

هل نعني أن هذه المجموعة من كبار السن والنساء والأطفال ذاهبون للعمل في السينما؟

نعم هو كذلك، ولكن ككومبارس، ليسوا نجوما ولا من ممثلي الدور الثاني أو الثالث، هم تلك المجاميع البشرية التي يحتاجها المخرج ليعطي للعمل الواقعية والحياة المطلوبة، هم تلك الوجوه التي خط عليها الزمن خطوطه، وتلك النظرات الشاردة التي فرّقتها معاناة الحياة وضيق ذات اليد، تلتقطهم الكاميرا لتصنع منهم فيلما يصفق له الجمهور طويلا، ويجني منه صنّاع السينما كثيرا، ثم هم “الكومبارس” في نهاية النهار يجنون دريهمات قليلة بالكاد تسد رمقهم حتى يحين موعد تصويرٍ آخر.

 

حرفة من لا حرفة له

مصطفي الراشدي ممثل مغربي، جاء إلى ورزازات قبل ثلاثين عاما تاركا قريته في نواحي مدينة فاس من أجل العمل، وليخفف من حمل والده الذي يعيل عائلة كبيرة، وليلحق أيضا بحلمه الذي راوده صغيرا، وهو أن يكون ممثلا سينمائيا مشهورا.

أما إلهام التي التقيناها هذا الصباح فتقول عن نفسها إنها تحب السينما مذ كانت طفلة صغيره، وتتردد على مواقع التصوير، وتراجع المندوبين صباح مساء حتى تحصل على لقطة في فيلم.

وتحلم الصبية البالغة من العمر عشرين عاما أن تكون نجمة سينمائية يشار إليها بالبنان، وتتابعها الأعين والكاميرات، لا مجرد كومبارس تكميلي.

أما محمد ولد سوسي فقد أنهى دراسته الثانوية قديما، والتحق بالجيش الملكي وظل يخدم فيه حتى أحيل إلى التقاعد منذ مدة، ثم تفرغ لتحقيق حلمه القديم في أن يكون ممثلا سينمائيا في ورزازات هوليوود السينما المغربية، تلك المدينة الصحراوية، حيث لا بحر ولا أراضٍ صالحة للفلاحة، يقتات معظم أبنائها على ما يحصلون عليه من العمل في السينما، وينتظرون بشغفٍ وصول أحد المندوبين ليخبرهم أن هناك تجارب أداء (كاستينغ) في يوم قريب، وأنه يتعين عليهم إحضار صورهم الشخصية، وترك أرقامٍ للتواصل معهم في حال أعجب المخرج بصورهم.

يعيش أهل ورزازات في حالة انتظارٍ معظم الوقت، وإذا خلت بعض المواسم من التصوير، فإنهم يهرعون إلى أي عمل لسد حاجاتهم، يعملون حمّالين في الأسواق وباعة متجولين، أو يعملون في الحقول المجاورة، وفي آخر النهار يجتمعون ليناقشوا آخر الأخبار عن مشاريع لأفلام جديدة، أو حتى أفلام وثائقية أو أخرى قصيرة، فيما تنشغل الفتيات بالتقاط صورٍ مميزة لهن تظهر مكامن جمالهن عسى أن يحظين بعين القبول من المخرجين.

 

على رصيف الانتظار

في الطريق إلى الأستوديو يلتقي مصطفى الراشدي بمحمد ولد سوسي، ويتجاذبان أطراف الحديث حول آخر عمل سينمائي جمعهما.

يقول له ولد سوسي: هل ما زلت حيا، مع أنني قتلتك في الفيلم.

يبدو أنه كان فيلم “بابل” حيث كان مطلوبا من الكومبارس ولد سوسي أن يقتل مصطفى.

يتنهد الكهل محمد ويسأل مصطفى: هل من تصوير جديد، هل لديك معلومات عن أي تجارب أداء جديدة؟

ويتابع: الحال كما ترى فأنا الآن بغير عمل، أرجوك إذا وجدت أي فرصة لا تنسَني، أنت تعلم جيدا أننا نتقن التمثيل أكثر من كثير من الأجانب.

يهز مصطفي رأسه بالموافقة ويجيب: لن أنساك إذا أتيحت لي أية فرصة.

يقول مصطفى الراشدي عن دوره في فيلم “بابل”: جاء في وقت عصيب بالنسبة لي، توفيت والدتي قبل أسبوع من التصوير، وكان المخرج يلاحظ ذلك الجرح الذي أدمى قلبي، ولعله أعجبته حالتي تلك فأسند لي دور والد الطفلين.

ويتابع مصطفى: كنت أراقب وجه المخرج بعد تصوير أية لقطة، لأعرف إذا كان راضيا عن أدائي أو ساخطا، وكنت أشعر بشيء من التوجس والخوف، فأنا في هذا الفيلم أعمل إلى جانب النجم الأمريكي الكبير “براد بيت” ونجوم عالميين آخرين من دول مختلفة، ولكنني كنت أزداد طمأنينة كلما لمحت المخرج وهو ينظر لي بعين الرضا.

في الأزقة الضيقة كان النساء يتسلين ببعض الغناء الفلكلوري على أنغام آلات بسيطة، فيما كانت إلهام وصديقتها يغسلن الملابس ويتبادلن الحديث عن العمل القادم.

تقول إلهام: سأشتري بأجري كله ملابس جديدة، وبعض الأثاث للبيت.

أما صديقتها فكانت تحثها على إكمال دراستها والالتحاق بمعهد سينمائي جيد.

ترد عليها إلهام: لا أحب الدراسة، سأطور نفسي عبر الأدوار الصغيرة حتى أصبح نجمة كبيرة، أتعلمين، تذكرت شيئا آخر أريد شراءه، كاميرا رقمية، حتى أصور نفسي في كل الأعمال التي أقوم بها.

تضحك صاحبتها وتقول: هذا جل همك، الملابس والكاميرا؟

تسألها إلهام: وماذا عن مشاريعك أنت أيتها العبقرية؟

فتجيبها: أريد أن أشتري بيتاً آخر، فهذا البيت لا يصلح لأثاث جديد يسكن فيه.

ويُمَنِّي محمد ولد سوسي زوجته بماكينة خياطة حديثة تريحها في الخياطة والتطريز عندما يحصل على دور جديد مثل ذلك الذي مثّله أمام النجم “بوب جون”.

 

عمل شاق وأجر زهيد

يتحدث الممثل مصطفى الراشدي عن أهل ورزازات فيقول إنهم بسطاء يرضون بالقليل، وأخلاقهم رفيعة عالية، والكرم عندهم بالسجية، حتى إن الواحد منهم قد يعطي الملهوف جميع ما يملك، ولكن هذه الصفات على رفعتها تسبب لهم الكثير من المشاكل مع منتجي الأفلام؛ فهؤلاء لا يعطونهم إلا أقل القليل طمعا في طيبتهم وتعففهم، مع أنهم يعملون في السينما منذ زمن، ويتقنون من الأدوار ما يتقنه غيرهم من محترفي التمثيل.

ويتابع مصطفى: يعمل الواحد من ورزازات اليوم بأكمله ولا يحصل إلا على وجبة خفيفة واحدة، قد يتقاسمها مع ممثلٍ آخر.

وهم يضطرون إلى تغيير ملابسهم مرات عديدة في اليوم، حسب الدور المسند إليهم، وقد تراهم بملابس خفيفة جدا في يوم شديد البرودة، أو بالملابس الثقيلة في يوم ملتهب الحرارة.

قد يبدؤون العمل في الرابعة صباحا ولا يعودون لبيوتهم إلا في ساعة متأخرة من الليل، يمرضون بسبب البرد ثم لا يكون الأجر الذي يتقاضونه (حوالي 200 درهم في اليوم الواحد، ما يعادل 20 دولارا) كافيا لشراء الدواء، ومع ذلك فإنهم صابرون يتحملون كل هذا الضنك في سبيل لقمة العيش.

إضافة إلى الأجر الزهيد والعمل الطويل الشاق، فإن محمد ولد سوسي يشكو من التفرقة والتمييز العنصري بين الكومبارس المغربي وأمثالهم من الأجانب.

يقول: في الوقت الذي يحصل فيه الأجنبي على ما لذ وطاب من الطعام والشراب أثناء اليوم، فإننا بالكاد نحصل على شربة ماء، وعندما يحصل الأجنبي على خمسة آلاف درهم يوميا لقاء عمله فإننا لا نحصل إلا على 200 درهم، مع أننا نتقن أدوارنا أكثر منهم بكثير، ألسنا جميعا بشرا، إذن فلماذا يفضلونهم علينا؟

ويضيف: ليست لنا حقوق ولا نقابة أو جمعية تدافع عنا، إننا نستدين حاجاتنا اليومية من البقالة والدكاكين الأخرى، على أمل أن يأتي يوم نصور فيه عملا نجني من خلاله شيئا قليلا نسدد به ديوننا، وهكذا نظل ندور حول ساقية الحياة.

تمضي الأيام مملة في ورزازات، الجميع يترقب الفرج، يأتي مندوبو المخرجين ويلتقطون صورا لأهل البلدة ويرحلون، ولا يعِدونهم بشيء، فقد يرضى المخرج ببعضهم، وقد لا يعجبه الباقون، وقد تسمح الظروف بالـ(كاستينغ)، وقد يتم التأجيل.

ومن يدري هل سيحصل المنتجون على المنحة التي وعدتهم بها بلجيكا، أم سيطرقون أبواب دولٍ أخرى لتقديم الدعم، والبريطانيون الذين عودونا على تصوير أفلامهم في مثل هذا الشتاء، هل سيأتون هذا العام أم سيتخلفون؟

فتاة مغربية (كومبارس) تقوم بتجربة أداء
فتاة مغربية (كومبارس) تقوم بتجربة أداء

 

كاستينغ.. إن شاء الله

أخيرا يأتي الفرج، ويقوم محمد ولد سوسي بتوقيع عقد العمل، لا تتخيلون مدى سعادته، أما مصطفى فيقول إنه جدير بأعمال عالمية، يتمنى أدوارا أكثر اتساعا، وخارج نطاق المغرب.

ويسجل انطباعاته عن عمله مع الأجانب، فيقول: إنهم يقدِّرون الشخص ويحترمونه حسب حرفيّته، وليس لديهم محسوبيات واعتبارات شخصية، إنهم متواضعون ويحترمون إنسانية الإنسان.

كم هم أوفياء أهل ورزازات، ها هو محمد في السوق يشتري ماكينة الخياطة التي وعد بها زوجته، وتلك إلهام قد اشترت أثاثا جديدا لتفرش به بهو البيت.

الحياة تدب من جديد في أزقة المدينة العتيقة، والمحالّ التجارية تفتح أبوابها، والتجار البسطاء يعرضون سلعهم، وترى الأطفال يشترون الحلوى وتبدو على وجوههم السعادة والبهجة، والفتيات الصغيرات يلعبن في الطرقات، أما النساء فيغنين ويزغردن.

وهناك على ناصية أخرى من الطريق يجلس بعض الرجال ممن لم يحالفهم الحظ في هذا الـ(كاستينغ)، ترى على وجوههم بعض الكآبة، ولكنك تلمح خلف هذه الوجوه اليائسة كثيرا من الأمل، فقد عوَّدَتهم المواسم أن تخالفهم يوما وتوافقهم يوما آخر، وهم بين الصبر والرضى والأمل العريض يتقلبون.