كرة القدم.. شعبية جارفة في خدمة المال والسياسة

أيوب الريمي

تحولت كرة القدم التي انطلقت من المملكة المتحدة إلى دجاجة تبيض ذهبا للشركات الكبرى والدول

“كرة القدم تجارة ضخمة”.. هذه المقولة التي أطلقها سنة 1905 وليام ماكغريغر مؤسس دوري كرة القدم في إنجلترا وفي العالم؛ تحولت لواقع وباتت اللعبة التي انطلقت من المملكة المتحدة دجاجة تبيض ذهبا للشركات الكبرى والدول، وباتت محل تنافس محموم بين المعلنين وأصحاب المال، بل إن دولا كبرى وغنية لم تعد تدّخر جهدا في البحث عن موطئ قدم في هذه الرياضة التي تحولت لصناعة عالمية تهوي لها أفئدة الملايين بل المليارات.

فحسب صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية حصدت مباراة الكلاسيكو الإسباني بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة سنة 2018 على نسبة مشاهدات بلغت 640 مليون شخص، وتم بثها في 182 دولة عبر العالم، لتكون كرة القدم بذلك الرياضة الأكثر شعبية في العالم دون منازع.

فهي “أكثر من رياضة”.. هذه العبارة التي يرددها عشاق الكرة كي يعبّروا بها عن شغفهم بها وبالأحاسيس التي يعيشونها مع كل مباراة، تعكس بحق التحول الذي تشهده الساحرة المستديرة إلى صناعة مدرّة للمليارات على أصحابها، فكيف صدقت نبوءة مؤسس كرة القدم بأن هذه اللعبة هي تجارة ضخمة؟!

 

كرة القدم.. مرآة المجتمعات

تتفق عدد من الدراسات السوسيولوجية على أن كرة القدم وتطورها يعكس تطور المجتمع، وكمثال على ذلك انتشار ظاهرة الهوليغانز المعروفة بالتعصب للفريق واللجوء للعنف حد القتل، فقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها في فترة السبعينيات في بريطانيا، وهي نفس الفترة التي كانت تشهد مواجهات دامية في المملكة المتحدة بين قوات الجيش وما كان يسمى الجيش الجمهوري السري في إيرلندا.

هذا العنف الممارس في الشوارع أرخى بظلاله على العنف داخل الملاعب، إلى حين توقيع اتفاق سلام بين الطرفين سنة 1998، حينها بدأت ظاهرة الهوليغانز في الاختفاء تدريجيا، أما اليوم فالملاعب البريطانية تعتبر الأكثر أمنا والدوري في هذا البلد يعد الأفضل في العالم، ليعكس بذلك مكانة بريطانيا في العالم.

وبالنسبة للسوسيولوجي ريتشارد جوليانوتي مرت كرة القدم بأربع مراحل منذ تأسيسها:

المرحلة التقليدية والممتدة من ولادة هذه اللعبة وقواعدها نهاية القرن التاسع عشر إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الأولى، وخلال هذه الفترة تم تنظيم عدد من البطولات المحلية.

أما المرحلة الثانية فهي الفترة الحديثة بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وفيها شهدت اللعبة تطورا في قواعدها وتنظيمها.

ثم المرحلة الحديثة المتأخرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلى غاية سنة 1980، حيث بدأ بث المباريات عبر شاشات التلفزيون بشكل منتظم وتزايد نسبة مشاهدة المنافسات الكروية.

 

وكما دخل العالم الغربي لمرحلة ما بعد الحداثة بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وتكريس الهيمنة الأمريكية ومعها الغرب على العالم، فقد دخلت الكرة حسب نفس الكاتب المرحلة ما بعد الحديثة منذ سنة 1990 مع ارتفاع تكاليف البث الكروي، والانفجار الصاروخي لأسعار اللاعبين ورواتبهم، وباتت كرة القدم منظومة اقتصادية عالمية انتقلت من المحلي إلى الكوني، حتى بات عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” 211 دولة، وهو رقم يفوق عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي توصف بالمنظمة الأكبر في العالم.

وهكذا يمكن القول إن تطور كرة القدم وتحولها لصناعة، جعلها ترتبط بالتطور الاقتصادي والسياسي في أي بلد. ولعل كل متابع لكرة القدم يعلم أن دوري أبطال أوروبا بات الدوري الأقوى في العالم، بل إن هناك من يعتبره أفضل من مباريات كأس العالم، وحتى بالنسبة لهذا الأخير كان من نصيب دول أوروبية خلال الدورات الأربع الأخيرة، مع تسجيل تراجع لدول أمريكا اللاتينية التي تعيش أزمات سياسية واقتصادية لا حد لها.

وبالعودة إلى أهم النتائج والمسابقات الكروية خلال العقدين الماضيين، سيتبين أن ازدهار اللعبة مرتبط بالازدهار الاقتصادي الذي تعيشه أوروبا، ويكرس هيمنتها على المسابقات المحلية والقارية وحتى العالمية، وكأي صناعة في العالم لم تعد كرة القدم تعترف بالصدفة، بل أصبحت منظومة لا تقبل الخطأ أو التهاون، وتتطلب إستراتيجيات طويلة الأمد، واستثمارات ضخمة في الشباب والبحث العلمي، ولهذا انتشرت الأكاديميات الكروية في عدد من الدول الأوروبية التي تكوّن الشباب.

اللاعب البرازيلي نيمار يتقاضى في الساعة الواحدة ثمانية آلاف دولار، وهو لحد الآن صاحب أغلى صفقة انتقال في التاريخ

لعبة تبيض ذهبا.. للمحظوظين فقط

أظهرت دراسة لموقع “سبورتنغ إنتليجنس” (sportingintelligence) شملت 300 ناد كروي و17 بطولة في 13 بلدا أوروبيا، أن الرواتب المدفوعة للاعبي كرة القدم هي الأعلى في العالم مقارنة ببقية الرياضات، ويبقى الدوري الإنجليزي هو الأغنى في العالم، حيث يصل متوسط الراتب السنوي للاعب إلى ثلاثة ملايين دولار، مما يجعله الدوري الأغنى في العالم مقارنة بالإسباني والفرنسي والإيطالي والألماني، ويبلغ معدل الراتب السنوي للاعب في هذه الدول مليون ونصف المليون دولار.

فماذا عن الأندية؟ نادي باريس سان جيرمان يبقى الفريق الأكثر دفعا للرواتب لفائدة لاعبيه بمعدل يصل إلى 150 ألف دولار في الأسبوع، يليه نادي ريال مدريد بـ140 ألف دولار، ثم نادي مانشستر سيتي بـ130 ألفاً، ثم نادي برشلونة بـ120 ألفاً. وبطبيعة الحال فهناك لاعبون يتقاضون أكثر من هذه المبالغ أسبوعيا ومن بينهم اللاعب البرازيلي نيمار الذي يتقاضى في الساعة الواحدة ثمانية آلاف دولار، وهو لحد الآن صاحب أغلى صفقة انتقال في التاريخ بأزيد من 200 مليون دولار.

ورغم هذه الأرقام التي تجعل من لعبة كرة القدم مهنة تُجزل العطاء لممتهنيها، فهناك وجهة نظر اقتصادية أخرى تقول إن تصوير كرة القدم كتجارة ضخمة هو أمر مبالغ فيه، ويضربون المثل بأن معدل مداخيل الأندية الفرنسية -باستثناء نادي العاصمة- يصل إلى 47 مليون دولار سنويا، وهو رقم أقل بمرتين من الرقم الذي يسجله متجر كبير من سلسلة متاجر “كارفور” الشهيرة. ونفس الأمر في إسبانيا، فالناديان الكبيران في البلاد وهما ريال مدريد وبرشلونة، يحققان أرباحا سنويا تصل إلى ثلاثين مليون دولار، وهو رقم أقل بسبع مرات من أصغر شركة اتصالات في إسبانيا.

ولهذا يقول كثيرون إن الكرة تحولت للعبة النجوم، وهؤلاء قلة يجنون ثمار شعبية هذه اللعبة ويحققون أرباحا خيالية، فعلى سبيل المثال لا تقلّ مداخيل الثلاثي الأشهر حاليا في كرة القدم (ميسي، رونالدو، نيمار) عن مئة مليون دولار سنويا، لكن هذه الأرقام تبقى حكرا على صفوة من اللاعبين ولا تنعكس على الجميع.

الكرة تحولت للعبة النجوم، وهؤلاء قلة يجنون ثمار شعبية هذه اللعبة ويحققون أرباحا خيالية

لعبة تُغري السياسيين

لماذا يحرص السياسيون وقادة الدول على حضور المباريات التي تحظى بمتابعة جماهيرية كبيرة، بل أحيانا يُظهرون الكثير من التحرر والابتعاد عن البروتوكول في التعامل مع اللاعبين والحرص على التودد إليهم؟

الجواب هو البحث عن الشعبية، فلن يجد السياسي أكثر من ملاعب كرة القدم منصة توفر له متابعة جماهيرية بالملايين، ففي الملاعب تحضر العواطف ويغيب العقل.

حضر الرئيس الفرنسي ماكرون مباريات بلاده بما فيها المباراة النهائية التي فازت فيها فرنسا، وبعد هذا الفوز ارتفعت شعبيته

ماكرون.. تعزيز الشعبية

وليس أبلغ من استفادة السياسيين من الشعبية التي تمنحها كرة القدم من قصة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون الذي وجد شعبيته تتهاوى بشكل كبير بعد انتشار أكثر من مقطع فيديو له وهو يجد صعوبة في التعامل مع الشباب. وبعدها بأسابيع أعلن الرئيس الفرنسي أنه سيحضر كل مباريات منتخب بلاده إذا تأهل لدوري الربع من مسابقة كأس العالم التي أقيمت في روسيا سنة 2018.

وذلك ما كان، وحضر الرئيس مباريات بلاده بما فيها المباراة النهائية التي فازت فيها فرنسا، وبعد هذا الفوز ارتفعت شعبيته حسب استطلاع للرأي عشر نقاط، وهذا الارتفاع مكنه من تمرير عدد من القوانين المثيرة للجدل وإعادة النظر في نظام المعاشات في البلاد.

هدد ترامب بقطع المساعدات المالية عن أي دولة تصوّت ضد بلاده في منافسة استضافة كأس العالم لسنة 2026

ترامب.. تهديد ووعيد

ويحاول الكاتب الفرنسي باسكال في كتابه “إمبراطورية كرة القدم.. كيف تغزو الكرة المستديرة العالم؟”، دراسة تأثير الرياضة الأكثر شعبية في العالم على السياسة الدولية، ويضرب المثال بتحوّل الفوز بتنظيم كأس العالم إلى صراع يتسبب في أزمات دبلوماسية وتُنفق لأجله مليارات الدولارات، فلا عجب إذن أن يلجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التهديد بقطع المساعدات المالية عن أي دولة تصوّت ضد بلاده في منافسة استضافة كأس العالم لسنة 2026، في مزج غير مسبوق بين الرياضة والسياسة.

باتت كرة القدم قادرة على كسر العزلة عن أي بلد في العالم، كما حدث مع روسيا الدولة المستضيفة لمنافسات كأس العالم لسنة 2018

روسيا.. كسر العزلة

وباتت كرة القدم قادرة على كسر العزلة عن أي بلد في العالم، وتلمّع صورته لدى الرأي العام العالمي، وإن لفترة محدودة، كما حدث مع روسيا الدولة المستضيفة لمنافسات كأس العالم لسنة 2018.

فقبيل انطلاق المنافسات اهتز العالم بخبر تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال في بريطانيا، واتهمت هذه الأخيرة المخابرات العسكرية الروسية بالوقوف وراء الهجوم، مما خلف أكبر علمية طرد لدبلوماسيين روس من أوروبا، وأعلنت أكثر من دولة أوروبية أنها لن تبعث أي وفود رفيعة لمنافسات كأس العالم، وحذرت رعاياها من السفر إلى روسيا.

فكان السؤال الذي يؤرق المعلنين والشركات الرياضية ومؤسسات البث، هل سيؤثر هذا على تنظيم كأس العالم ونسبة الحضور؟ والجواب كان “أحسن مسابقة لكأس العالم في التاريخ”.. وهذا التصريح لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني أنفانتينو في وصفه لدورة كأس العالم المنظمة في روسيا، وهكذا أصلحت الكرة ما أفسدته الأزمة الدبلوماسية الأخطر بين روسيا والغرب، وكسرت عزلة موسكو فحولتها من دولة “معتدية” إلى دولة ذات قدرات تنظيمية كبيرة وحج إليها عشرات الآلاف من المواطنين الأوروبيين.

حاول بنيامين نتنياهو إجبار اللاعب الأرجنتيني ميسي على اللعب في القدس أمام المنتخب الإسرائيلي

نتنياهو.. يطلب الشرعية من ميسي

التأثير السياسي لكرة القدم، طال حتى النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، فاللاعب الأشهر في العالم أعلن اعتذاره عن المشاركة في مباراة لبلاده في القدس بعد حملة دولية واسعة تطالب اللاعب بعدم اللعب هناك أمام المنتخب الإسرائيلي، وقد أغضب رفض ميسي اللعب في القدس المحتلة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي اتصل هاتفيا بالرئيس الأرجنتيني وطلب منه إرغام ميسي على القدوم والمشاركة في المباراة. ويعلم نتنياهو رمزية لعب ميسي في القدس، فاللاعب الأشهر في العالم بات يتحكم في بناء الأفكار والتصورات لدى الملايين من الناس عبر العالم، ولعبه في القدس ضد المنتخب الإسرائيلي ستجعل الملايين يتصورون أن القدس هي مدينة إسرائيلية وليست مدينة محتلة.

على الصعيد العربي كانت كرة القدم أيضا حاضرة في الأزمة الخليجية، حيث ظهر أن دول الحصار لم تتقبل فكرة فوز قطر بتنظيم كأس العالم لسنة 2022

دول حصار قطر.. ملاحقة ملف 2022

وعلى الصعيد العربي كانت كرة القدم أيضا حاضرة في واحدة من أخطر الأزمات التي شهدها الشرق الأوسط، ويتعلق الأمر بالأزمة الخليجية، حيث ظهر أن دول الحصار لم تتقبل فكرة فوز قطر بتنظيم كأس العالم لسنة 2022.

وكشف موقع “ذي لوكال” (The local) السويسري أن ست دول عربية تقدمت بعريضة للاتحاد الدولي لكرة القدم تطالبه فيها بسحب كأس العالم من قطر، هذه الدول هي الإمارات والسعودية والبحرين ومصر وموريتانيا واليمن، وذلك في إطار المادة 85 من لوائح الفيفا التي تؤكد أن “سحب التنظيم ممكن في حالة ظروف غير متوقعة وقوة قاهرة”.

بل إن نائب الشرطة والأمن في دبي ضاحي خلفان كتب في تغريدة على حسابه في تويتر أنه “إذا ذهب المونديال عن قطر سترحل أزمة قطر، لأن الأزمة مفتعلة من أجل الفكة منه”، وهكذا باتت الكرة وقودا لأزمة دبلوماسية غير مسبوقة، ولعل هذه الدول تعلم حجم المكاسب التي ستجنيها دولة قطر من تنظيم كأس العالم، ولهذا فهي لا تدخر جهدا في سحب هذه الورقة منها.

لقد باتت كرة القدم أقوى ورقة للقوة الناعمة لأي دولة، وباتت تتحكم في المزاج العام داخل الدول، وترفع أسهم السياسيين أو تهوي بهم، ولا أدل على ذلك مما جاء في كتاب “ذي هوستس ويذ ذي موست” (The hosts with the most) الذي بيّن أن المؤشر الوطني للسعادة في بريطانيا ارتفع خمس نقاط بسبب النتائج التي حققتها بريطانيا في أولمبياد لندن، ولهذا باتت الدول والشركات تتنافس لتكون حاضرة وفاعلة في هذه الرياضة، وتنفق بسخاء لاستقطاب اللاعبين النجوم، لتكون كرة القدم بالفعل “أكثر من مجرد لعبة”.