كرة القدم والسياسة.. ساحة رياضية لتفريغ الصراعات منذ القرون الوسطى

يقول المؤرخ الفرنسي “بول دياتشي” في كتابه “كأس العالم وتاريخه السياسي”: مهما كان الأمر في المجتمعات الصناعية، تحتل الأحداث الرياضية مكان الحروب في تشكيل أماكن لذاكرة الأمم.

من بين جميع أنواع الرياضة تتمتع كرة القدم إلى حد بعيد بالتأثير الأكبر في بناء المجتمعات، فهذه اللعبة ترتكز بقوة على ميزة أنها رياضة الشعوب الكلاسيكية بلا منازع، كما أنها شكل من أشكال الثقافة الوطنية التي أصبحت محتوى إعلاميا مسيطرا على مساحات كبيرة من البث بدأ من خمسينيات القرن الماضي، تلك هي إحدى رؤى علم الاجتماع التي تبسط سبب سيطرة كرة القدم على الملايين من الأشخاص، حتى إنها أصبحت سلطة خامسة خفية في النظم الديمقراطية، وثالث السلطات في الأنظمة الاستبدادية إذا ما استثنينا السلطتين التشريعية وسلطة الصحافة.

“جورج بوش الابن”.. استغلال المنتخب العراقي في أوج الحملة الانتخابية

في أغسطس/آب من العام 2004 وقف الرئيس الأمريكي “جورج بوش الابن” ونائبه “ديك تشيني” ليعلنا بفخر كبير أن مشاركة المنتخبات العراقية والأفغانية في الألعاب الأولمبية التي احتضنتها اليونان آنذاك؛ هي من ثمار الحرب الأمريكية على الإرهاب، وخمنت صحيفة “الغارديان” البريطانية حينها أن “بوش” يخطط لزيارة أثينا لمشاهدة مقابلة المنتخب العراقي. في تلك الفترة كانت حملة الرئيس “جورج بوش” في الانتخابات الرئاسية في أوجها، دعمتها الحرب التي لم تجف دماء ضحاياها، والتي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق في مارس/آذار من العام 2003.

جورج بوش الابن في زيارته لإحدى المدارس في بريطانيا

اتُهم “بوش” حينها باستغلال الألعاب الأولمبية، وتألق منتخب العراق لكرة القدم في تلك الألعاب من أجل حملته الانتخابية، ونقلت “الغارديان” تصريح مدرب المنتخب العراقي عدنان حمد الذي قال: لقد قتل الجيش الأمريكي كثيرا من الأشخاص في العراق. ما هي أهمية الحرية عندما أتوجه إلى الملعب، في الوقت الذي تشهد فيه شوارع العراق إطلاق نار؟

أُعيد انتخاب “جورج بوش الابن” لولاية أخرى رغم دماء العراقيين التي لطخت يديه، وقد لا يكون ترشح المنتخب العراقي لكرة القدم إلى النصف النهائي للألعاب الأولمبية رغم جراح الحرب أحد أسباب فوز “بوش” في تلك الانتخابات، لكن لا أحد يمكنه أن ينفي أن الحكام مزجوا كرة القدم بالسياسة، أو ربما وقعوا في شراكها منذ بداية القرن العشرين.

ممنوعة باسم القانون في العصور الوسطى.. كرة القدم الإنجليزية

في العام 1314 أصدر ملك إنجلترا “إدوارد الثاني” قانونا يمنع كرة القدم بعد أحداث شغب خلال إحدى المباريات، وكان هذا المنع تشخيصا مبكرا لتدخل السياسة في كرة القدم من جهة، ولسطوة تلك اللعبة من جهة أخرى، وفي إنجلترا وحدها صدر أكثر من ثلاثين قانونا بين العامين 1314-1667 لمنع رياضة كرة القدم، وكان منع كرة القدم في البداية بتعلة شكاوى التجار في لندن من الضوضاء.

وبموجب ذلك القانون يُحكم بالسجن على كل من يمارس تلك الرياضة في لندن، لكن في الواقع كان يُعتقد أن كرة القدم هي إلهاء عن ممارسة الرماية التي كانت مهمة إلزامية لكل رجل إنجليزي في العصور الوسطى، بسبب الحاجة إليهم في الحروب في ذلك الوقت، وهو السبب المباشر الذي أدى إلى قيام الملكين “إدوارد الثالث” و”إدوارد الرابع” بحظر كرة القدم في العامين 1349 و1477.

لقد نصّ القانون الذي سنّه “إدوارد الرابع” على التالي: لا يجوز لأي شخص أن يمارس كرة القدم ومثل تلك الألعاب، وفي المقابل يجب على كل شخص قوي أن يتدرب على الرماية، لأن الدفاع عن الوطن يعتمد على رماة السهام هؤلاء.

هنري الثامن يتسلم حذاء كرة قدم صمم خصيصا له

في العام 1618 استغل “جاك الأول” ملك إنجلترا كرة القدم ليضرب المتشددين المسيحيين الذين لا يزالون يقدسون “الشابات” أو يوم راحة الرب حسب المعتقد اليهودي، وأمر المسيحيين بممارسة تلك الرياضة بعد قُدّاس الأحد. وفي خريف العام 1660 اقتحم قرابة مئة شخص مسلح منزل عمدة “يورك” بعد أن سلّط عقوبة على 11 لاعبا تسبب أحدهم في تحطيم زجاج نافذة الكنيسة، وفي ذلك العام أصبحت كرة القدم أكثر شعبية.

“كانت كرة القدم جزءا من مشاريع الاستعمار”.. السلاح الناعم

لم تكن إنجلترا الدولة الوحيدة التي منعت كرة القدم في مرات كثيرة، فقد نهجت فرنسا نهجها في العام 1319 و1369، وفي عام 1440 هدد أسقف “ترجييه” لاعبي كرة القدم بحرمانهم من الغفران، واصفا اللعبة بأنها “لعبة خطيرة وخبيثة، ويجب حظرها بسبب الكراهية والعداوة التي وراء غطاء المرح والترفيه”.

أدركت الدول الأوروبية خاصة فرنسا وبريطانيا -التي منعت كرة القدم في القرون الوسطى- أن لتلك الرياضة سحرا وقوة يمكن أن يقودا الجماهير إلى مسارات لا يمكن توقعها، لذلك كان لا بد من استغلالها لتكون سلاحا ناعما تروّض به السكان الأصليين لمستعمراتها.

ووصفت فصول كثيرة من كتاب “كرة القدم والسياسة: بين المحلي والعالمي” للكُتّاب “رايمون سباجي” و”جان ميشال دي فايلي” و”سوزان جبريل”؛ دور كرة القدم في التأثير على السكان الأصليين للمستعمرات، فقد ورد في الكتاب: كانت كرة القدم جزءا من مشاريع الاستعمار والإمبريالية، وارتبط تطور كرة القدم بتطور المستعمرات ومستوطنات البيض. كانت كرة القدم في تلك الدول جزءا من مجهودات كبيرة لبناء المستعمرات، وكانت أيضا نوعا من التنظيم والسيطرة الاجتماعية على الشعوب المستعمرة.

كأس العالم.. سباق السطوة والأرباح بين العراب الجديد والقديم

أصبحت كرة القدم لعبة ذات سطوة ومصدرا لتحقيق الأرباح، وبنيت فكرة تنظيم بطولة العالم لكرة القدم على هدف واحد، وهو انتزاع تلك السطوة العالمية من وصاية اللجنة الأولمبية الدولية.

صورة لأولى الاجتماعات للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)

ترجع فكرة إقامة كأس العالم لكرة القدم إلى الاجتماع الأول للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) الذي عُقد في باريس عام 1404، وحضرت ذلك الاجتماع سبع دول هي بلجيكا وفرنسا وسويسرا والدنمارك والسويد وإسبانيا وهولندا، وخلال ذلك الاجتماع ولدت فكرة بطولة كأس العالم لكرة القدم التي ستصبح الحدث الرياضي الأهم في التاريخ، ورفضت اللجنة الأولمبية الدولية فكرة إقامة البطولة خوفا من سيطرة الاتحاد الدولي لكرة القدم على اللعبة، وكانت نبوءتها صادقة بالفعل.

بعد قرابة العقدين أحيا المحامي الفرنسي “جول ريمي” فكرة بطولة العالم لكرة القدم، وعمل جاهدا من أجل إطلاق أول مسابقة عالمية لتلك اللعبة، ونجح في ذلك حين كان في منصب رئيس الفيفا، وأُقرت البطولة في 25 مايو/أيار من العام 1928، وكانت أشهى الثمار التي سيحصدها الاتحاد من تنظيم البطولة، هي أن يدير الاتحاد الدولي لكرة القدم مجرى العائدات المالية الغزيرة لمنافسات تلك اللعبة، رغم محاربة اللجنة الأولمبية الدولية بقوة، وبالتالي فقد امتلك سلطة المال التي ستسيل لعاب بعض الدول طمعا في عائدات تنظيم كأس العالم، حتى أن الأوروغواي (أول دولة تحتضن كأس العالم) شحذت جهودها الدبلوماسية للفوز بتنظيم تلك المسابقة، وجنّدت سفيرها في بلجيكا “أنريكو بويرو” ليقنع المنتخبات الأوروبية بالموافقة على تنظيم بلاده بتلك المسابقة.

يقول المؤرخ الفرنسي “بول ديتشي” في كتابه “كأس العالم وتاريخه السياسي”: هل أثارت المنافسة التي بدأها الفرنسي “هنري ديلوناي” وروّج لها مواطنه “جول ريمي” منذ ذلك الحين مثل هذا القلق الكبير من جانب الحكومات؟ ما هي الفوائد الحقيقية والرمزية التي يمكن أن تتوقعها الدول من تنظيم مثل هذا الحدث؟ يجب أن تكون الإجابة دقيقة.

ويجيب عن سؤاله قائلا: في الواقع بطولات كأس العالم التي أقيمت حتى الآن في سياقات مختلفة للغاية: أولا سياق كرة القدم وتطورها، بعد ذلك كان هناك حدث كبير في الإعلام، فقد أدت ثورة التلفزيون من العام 1954 (سنة بطولة العالم في سويسرا)، وخاصة في العام 1966 (كأس العالم في إنجلترا)، إلى قلب وضع كرة القدم، وذلك من خلال عرض الحدث الرياضي بطريقة جدية. كانت البيئة الجغرافية والسياسية والمالية أيضا حاسمة في قلب وضع كرة القدم نحو السيطرة الكاملة على بقية الرياضات.

كرة القدم.. مساحيق تجميل السفاحين الثلاثة

في العامين 1934 و1938 حاز المنتخب الإيطالي على كأس العالم، واستغل “موسوليني” فوز منتخب بلاده من أجل تسويق خطابات حماسية للجماهير في إيطاليا، بعد أن تخدرت بفخر كبير بإنجاز فريقها الوطني حتى كادت تنسى محرقة الفاشية.

وفي نهاية الثلاثينيات رفع “أدولف هتلر” ميزانية الدورة الأولمبية عشر مرات، فقفزت من ثلاثة ملايين دولار إلى ثلاثين مليون دولار، وكانت تلك الدورة واجهة لاستعراض القوة العسكرية النازية.

في تلك الفترة كان العالم يتقلب على صفيح ساخن، وانقسم إلى معسكرين أحدهما نار والآخر بارود، وحين اقترب أحدهما من الآخر انفجرت أبشع الحروب التي عرفتها الإنسانية، واندلعت الحرب العالمية الثانية مخلفة ملايين القتلى، وجراحا وأحقادا لم تندمل لمدة طويلة، فكانت ملاعب كرة القدم ميادين حروب جديدة أُفرغت فيها الأحقاد.

ظل العالم يتسابق بجنون نحو التسليح، ونحو الانتصارات أيضا في ملاعب كرة القدم، فاستغل الجنرال “فرانكو” حبه الكبير لنادي “ريال مدريد” الإسباني ليكون له موطئ قدم في أوروبا، وقد سخّر كل الدعم المادي للنادي الملكي، فأصبح هذا الفريق مسيطرا على دوري الأبطال في أوروبا حينها.

يقول الكاتب “جون كريستوف ماي” في “كرة القدم المتلفزة: مشهد جماهيري أوروبي (1950-1960): إن هيئة “أوروفيزيون” كانت المتحكمة في بث مباريات كأس العالم، وإن الحصول على حقوق البث في أي دولة يرتبط بعضويتها في “أوروفيزيون”.

ويضيف الكاتب: عقد الجنرال “فرانكو” صفقة كروية مكّنت إسبانيا في فترة حكمه من الحصول على عضوية في “أوروفيزيون” في مارس/آذار 1960.

مواجهة الأعداء.. أحقاد سياسية تُسكب في ميادين الكرة

كانت ألمانيا بشقيها الشرقي والغربي تذكّر الشعوب الأوروبية بحرب الاستنزاف التي قادها “أدولف هتلر” ودمرت أوروبا تدميرا، وحين فازت بكأس العالم في العام 1954 كان ذلك الفوز بمثابة ذر الملح على جراح الماضي.

اللقطة الشهيرة لمارادونا حينما سجل هدفا بيده ضد المنتخب الإنجليزي في بطولة كأس العالم 1986

وفي العام 1966 نظمت بريطانيا بطولة العالم في كرة القدم، فقد كانت تلك المسابقة أعظم حدث رياضي يصوره تلفزيون “بي بي سي” البريطاني، وشاهد العالم خلال نهائي الكأس مباراة أشبه بحرب انتقامية جمعت بين المنتخب البريطاني ومنتخب ألمانيا الغربية، وكان جماهير الفريقين كجماهير “وينستن تشرشل” و”أدولف هتلر” حينما تهيج بعد كل خطاب.

بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت مباريات كرة القدم استعراضا لقوى الدول، ففي أوج الحرب الباردة هزم المنتخب البولندي المنتخب البريطاني في العام 1973 في ملعب ويمبلي التاريخي، وكانت تلك الهزيمة أشبه بمعركة تخسرها بريطانيا على أرضها أمام الاتحاد السوفياتي وحلفائه.

وفي العام 1982 خاضت بريطانيا والأرجنتين حربا على جزر الفوكلاند استمرت أكثر من سبعين يوما،  وانتهت باستسلام الأرجنتين وانسحابها من الجزر التي تسيطر عليها بريطانيا، وبعد أربع سنوات خاض فريقا الدولتين حربا من نوع آخر على ميدان كرة القدم في الدور ربع النهائي خلال بطولة العالم التي احتضنتها المكسيك في العام 1986، لكن كان الانتصار في تلك الحرب لصالح الأرجنتين، كانت تلك المباراة انتقاما مبكرا من بريطانيا بسبب حرب الفوكلاند، واشتهرت بسبب الهدف الذي سجله “مارادونا” بواسطة يده، وقال: كانت يد الرب هي التي أدخلت الكرة في شباك المنتخب الإنجليزي.

لم تتوقف الأحقاد السياسية داخل المياديين، ففي العام 1998 احتضنت فرنسا كأس العالم، ووضعت الأقدار المنتخبين الإيراني والأمريكي في المواجهة وجها لوجها، وكانت العداوة بين الدولتين على أشدها، وكالعادة كان الميدان رمزا لاستعراض القوتين. وقد انتهت المواجهة بفوز المنتخب الإيراني، وكان ذلك الفوز بمذاق الفوز السياسي.

لم تتوقف الأقدار عن وضع دولتين لهما عداء سياسي تاريخي في مواجهة مباشرة في ميدان كرة القدم، فالجماهير اليابانية والصينية أحيت ذلك العداء خلال مباراة “كأس الاتحاد الآسيوي”، كما نقلت وكالات أنباء في 2009 أن النشيد الوطني الأرميني قوبل بصفير استهجان من الجمهور التركي قبيل بدء مباراة كرة القدم بين فريقي أرمينيا وتركيا في مدينة بورصة التركية في حضور رئيسي البلدين .ورغم دعوة أحد المسؤولين إلى عدم الصفير فإن الجمهور التركي في الملعب أطلق بقوة صفير استهجان لدى عزف النشيد الوطني الأرميني، قبل إطلاق حمامات بيضاء فوق الملعب.

الاتحاد الأوروبي.. رابط خفي يصنع الوحدة المعنوية بين الشعوب

درس مؤرخون سحر كرة القدم وتأثيرها في الشعوب، وحاولوا تفكيكها نفسيا واجتماعيا، وإبراز دور تلك اللعبة في وحدة أوروبا وولادة ما يسمى بالاتحاد الأوروبي.

المنتخب الإيطالي يؤدي التحية الفاشية في كأس العالم 1938

قد تبدو تلك الفكرة غريبة، لكن توصلت دراسة بعنوان “ذاكرة كرة القدم في أفق أوروبا: الرابط الضائع في عملية الاندماج الأوروبي” للمؤرخ الألماني “ولفرام بيتا”، إلى أن كرة القدم كانت الحلقة المهمة في اتحاد معنوي في أوروبا.

تقول الدراسة: يبدو أن الحلقة المفقودة في عملية التكامل الأوروبي هي إحساس بالهوية الجماعية الأوروبية، لذلك كان دور كرة القدم الأوروبية كبيرا في أن تضيف بعض المضمون الثقافي إلى الإطار المؤسسي الأوروبي. في الواقع يبدو أن كرة القدم مناسبة جدا لسد الفجوة، لأنها تحظى بتغطية إعلامية واسعة، وتنجح في التأثير عاطفيا على كثير من الأشخاص في جميع أنحاء أوروبا.

إن مفهوم الأمة هو نموذج أساسي لخلق وحدة المجتمع، وقد بلغ هذا النموذج ذروته في القرن العشرين، وأثبت قدرته القوية على تشكيل هوية جماعية في كل أنحاء أوروبا، وكانت كرة القدم أحد روافدها. تقول الدراسة: وجب تأصيل الأساطير والروايات الجماعية في ذاكرة مشتركة، وبالنظر إلى عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على إنتاج سردية مشتركة، فإنه ليس غريبا عدم وجود ثقافة ذاكرة أوروبية حقيقية.

لذلك كانت كرة القدم الرواية الأوروبية المشتركة التي خلقت انتماءات واعية وغير واعية للتاريخ والثقافة الأوروبية، ويُقاس ذلك على كل العالم، فالانتماء العرقي واللغوي والثقافي والديني المشترك هو الذي يجمع الجماهير، حتى وإن كانت من فريقين مختلفين، فعلى سبيل المثال من الأكيد أن الجمهور الفرنسي سيشجع الفريق الإيطالي في مباراته ضد روسيا.

يطرح عالم الاجتماع الفرنسي “جورج مينك” في كتابه “أوروبا وماضيها المؤلم” سؤالا عن ما إذا كانت تلك الذاكرة السلبية المستمدة من تجارب مؤلمة مع الديكتاتوريات، يمكن أن تكون في الواقع قاعدة مناسبة لتأسيس الثقافة الأوروبية، ويجيب “مينك” عن سؤاله قائلا: الخطاب التاريخي السياسي المثقل بالنصائح الأخلاقية المعيارية له تأثير اجتماعي محدود في أحسن الأحوال، ويساهم في أسوأ الأحوال بتحويل أوروبا إلى قارة تعددية من الماضي المؤلم، لذلك فمن المستحسن استكشاف ممارسات ثقافية أقل معيارية فيما يتعلق بإمكانية إنتاج روايات لعموم أوروبا، فكانت كرة القدم هي إحدى هذه الممارسات لإضفاء الطابع الأوروبي على كل أشكال الحياة في أوروبا.

اللاعب رقم 12.. أصابع الساسة التي تقحم نفسها في الأندية

عكست كرة القدم التعقيدات السياسية والثقافية في الدول الديمقراطية والتي تحكمها أنظمة استبدادية على حد سواء، وفي كل الأحوال كانت سياسة اللاعب رقم 12 في كل مباراة مهمة، ففي بريطانيا مثلا ارتبطت كرة القدم تقليديا بالطبقة العاملة الصناعية، وبالتالي كانت أقرب إلى حزب العمال العريق، وفي إسبانيا تُعد أندية مثل “إف سي برشلونة” و”أتلتيكو بيلباو” رمزين للهوية الكتالونية والباسكية، أما في فرنسا فتشترك السلطات المحلية في امتلاك بعض الأندية إلى جانب مستثمرين من القطاع الخاص.

لاعبو منتخب “أرسنال” يتفحصون كاميرا “البي بي سي” سنة 1937

ويمكن فهم الأحقاد بين جماهير أندية وأخرى بالرجوع إلى الأحقاد السياسية التي غذت الملاعب، ففي بعض البلدان كانت منافسات كرة القدم معارك قوية بالوكالة بين الفصائل السياسية المتنافسة، أو كانت بمثابة منصات للدفاع عن أفكار سياسية معينة.

يقول “رايمون سبايجي” في كتاب “كرة القدم والسياسة: بين المحلي والعالمي” إن السياسيين في إندونيسيا مثلا استخدموا أندية كرة القدم للوصول إلى جمهور كبير ولتعزيز أفكارهم القومية، أما في الأوروغواي فقد كان السياسيون يشغلون مناصب في إدارات أندية كرة القدم هناك. ويضيف قائلا: في ألمانيا مثلا فإن محاربة ما يعرف بالهوليغانيسم، هو في الحقيقة حرب ضد انتشار فكر النازيين الجدد في الملاعب.

أصبحت كرة القدم اليوم علاوة على أنها رياضة؛ صناعة وسلاحا قابلا للتطويع، لكنها تبقى رياضة نبيلة خاصة إن تصافح اللاعبون بعد المباراة.