“كولن باول”.. نهاية مجرم الحروب الأمريكية في بلاد الشرق

أمين حبلا

قبل رحيله بعقد أو يزيد قليلا، تحرك ضميره متأخرا، ليعترف بأنه كذب على العالم بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وقال إن تلك الكذبة ستظل وصمة عار في سجله إلى الأبد.

وفي سجلات الأبدية والخلود، يرسخ اسم الضابط الأسمر “كولن باول” باعتباره الرجل الذي ارتبط اسمه بالحرب في العراق مرتين، أولاهما سنة 1991 عندما قاد التحالف الدولي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، فيما عرف بعاصفة الصحراء. أما الثانية فقد كانت سنة 2003، حين تولى هندسة وبناء تحالف آخر أنتج عراقا مدمر الأركان شتيت البنيان، وخر تحت لهبه المتدفق أكثر من 200 ألف عراقي، ولسنوات طويلة استمر الدم منهمرا ولائحة القتلى في ازدياد.

إنه “كولن باول” ذلك الجنرال الأسمر الذي دخل عمق المفاصل العسكرية والسياسية لبلاده منذ منتصف نهاية خمسينيات القرن الماضي، وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي.

 

كان “باول” مجرد اسم عابر في ذاكرة الهجرة الأمريكية، لأب قادم من جامايكا، وسلسلة أجداد تقاذفتهم المهاجر وسفن الزمن الأمريكي الأسود، قبل أن تنتهي به على رأس الجيش الأقوى في العالم، وعلى رأس الدبلوماسية في بلاد العم سام، وتحت تمثال الحرية يقود أشد وأعتى معارك الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، ويسير بخطواته الواثقة على أنهار من دماء.

حرب فيتنام.. من الجيولوجيا إلى طيران أقوى جيوش العالم

من جامايكا حمل والده حقائب السفر وأحلام العيش السعيد، وفي منتصف الثلاثينيات وتحديدا في 5 إبريل/نيسان 1937 ولد “كولن” في أحد الأحياء الشعبية المتعددة السكان والأعراق في مدينة نيويورك، إنه حي هارلم الذي يشهد على خطوات متعثرة ولكنها متواصلة، من سعي الأمريكيين إلى الاندماج فيما بينهم، رغم مهاجرهم المتعددة، وأعراقهم المتباينة.

تلقى الطفل “كولن باول” تعليمه في المدارس العمومية في نيويورك، وتخرج بعد ذلك في كلية مدينة نيويورك حيث نال شهادة البكالوريوس في الجيولوجيا، وربما لو واصل تخصصه لوجد في ظواهر الطبيعية وفي آفاق المعادن ورسوبيات الصخور ما يغنيه عن حياة أخرى جعلته أبرز عناوين الحروب والأزمات العسكرية الأمريكية خلال الربع الأخير من القرن المنصرم، والعشرية الأولى من القرن الحالي.

كولن باول مستشار الأمن القومي الأمريكي

 

لكن الشاب القوي البنية اختار الطريق العسكرية، فتخرج سنة 1958 برتبة ملازم ثان في قوات التدريب، قبل أن يترقى بعد ذلك في مساره العسكري، بالتزامن مع مسار أكاديمي مكنه من نيل درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة جورج واشنطن.

لكن رحلة “كولن باول” مع الدم والحرب بدأت مبكرا مع حرب فيتنام التي اندلعت في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، واستمرت ملتهبة حتى نهاية إبريل/نيسان 1975، كان “باول” يومها قائدا لوحدة الطيران التي دكت آلاف المدن والقرى الفيتنامية، وأحرقت مئات الغابات التي كانت مأوى ومنطلق المقاومة الفيتنامية.

“السيرة الأمريكية”.. بريق نظام الشاه فوق صفيح الثورة الساخن

في دفاتر ذكريات “باول” أو في “السيرة الأمريكية” كما سمى هو مذكراته، محطات بالغة الأهمية، منها ذلك الدور المهم الذي أداه سنة 1978 قبل أشهر قليلة من انهيار حكم الشاه، حيث كان مكلفا من الجيش والرئاسة الأمريكية، باختبار قوة نظام شاه إيران، والتأكد من أن حكمه قوي وراسخ وقادر على الاستمرار.

نزل “باول” في طهران، حيث كان ضيف شرف للجيش والأمن الإيراني، وشاهد العروض العسكرية الضخمة، وتجول في الثكنات والوحدات العسكرية، وحاول الإيرانيون إقناعه بأن نظام الشاه في أوج قوته العسكرية والسياسية والأمنية، وأن الجيش يدعمه والشارع يهتف باسمه، رغم ما تموج به الأيام يومها من صراع مرير بين أنصار آية الله الخميني ودولة الشاه الواقفة على حافة الانهيار.

كتاب “رحلتي الأمريكية” لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق

 

ورغم انبهار “باول” بما رأى من قوة الجيش الإيراني وجاهزيته، فإنه لم يتجاهل مظاهر التوتر والحنق الذي يحمله المعممون الإيرانيون تجاه نظام الشاه، بل وأكثر من ذلك لم يغفل شهادات الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين الذين أكدوا له أن لا أحد سيهب للدفاع عن الشاه إذا اندلعت الثورة عليه أو اهتزت أركان ملكه، وخصوصا الجنود القادمين من أحياء الفقراء.

اعتبر “كولن باول” أن الإيرانيين قدموا له صورة براقة عن نظامهم، لكن الحقيقة كانت لامعة أيضا وسرعان ما اندلعت الثورة، وانضم لها جنود الطيران العسكري لحظة اندلاعها، وشهد “باول” بوضوح أن سياسات أمريكا وما صرفته من مليارات في إيران وعلى نظام الشاه، سقط تحت أقدام الثوار وانهار مع انهيار حكم محمد رضا بهلوي.

“عليك أيها الجنرال أن تبحث عن عدو جديد”.. نهاية الحرب الباردة

في العام 1987 عيّن الجنرال “كولن باول” في البيت الأبيض مستشارا للأمن القومي الأمريكي، كانت تلك السنوات الأهم في الحرب الباردة، حيث كان الاتحاد السوفياتي على شفا الانهيار، وجدار برلين يهتز قبل سقوطه، وفي السنة الموالية لتعيينه التقى بالرئيس السوفياتي الراحل “ميخائيل غورباتشوف”، فخاطبه قائلا: عليك أيها الجنرال أن تبحث عن عدو جديد، فقد قررت إنهاء الحرب الباردة.

كانت تلك النهاية بداية عالم جديد، فحينما انهار جدار برلين وتعانق الألمان بعد عقود من القطيعة، وبدأت الرأسمالية تتسيد العالم، كان لا بد من البحث عن عدو جديد، فلم يعد “غورباتشوف” عدو واشنطن.

في هذه الأثناء كانت سلالم الترقي ومراقي الصعود تنفتح من جديد أمام خطوات “باول”؛ فقد عينه الرئيس الأمريكي “جورج بوش الأب” قائدا عاما للأركان الأمريكية بداية أكتوبر/تشرين الأول 1989.

الجنرال الأسمر كولن باول كان المسؤول عن تدمير الجيش العراقي في طريق خروجه من الكويت

 

لم يطل انتظار القائد الجديد فها هو بعد ثمانية أشهر من تعينه يرسل نصف مليون جندي إلى منطقة الخليج لتحرير الكويت من الغزو العراقي، وهي خطوة لم ينتظر بها “باول” ولا رئيسه “بوش” موافقة الكونغرس، بل تدفقت حاملات الطائرات والسفن العملاقة تقل مئات الآلاف من الجنود وآلاف الدبابات، وتحدثت النيران بصخب على ضفاف الخليج، وانسحب الجيش العراقي أمام ضربات التحالف وتحررت الكويت من غزو غاشم باغتها على حين غرة، أما العراق فدخل بعد ذلك في زمن أمريكي بالغ القساوة مفعم بالحصار والدماء والدمار.

بعد ذلك بأزيد من عامين، أي في سنة 1993 تقاعد “كولن باول”، وشرع في كتابة مذكراته التي حملت عنوان “رحلتي الأمريكية”، وقد نالت انتشارا واسعا في الولايات المتحدة الأمريكية، وحولت الجنرال الأسمر الذي عاش تحت لهب المعارك وأنهار الدماء إلى كاتب مرموق وخطيب مبهر، يجوب الولايات المتحدة متحدثا عن السلام والحرية والمساواة في الفرص.

أحداث سبتمبر.. عودة القائد الأسمر إلى حروب العم سام

في عام 2001 وبالتحديد يوم 11 أيلول/سبتمبر، كان التاريخ الحديث على موعد مع منعطف جديد، كان يوما داميا وقاسيا، حين استيقظت الولايات المتحدة على برجين سامقين في نيويوك ينهاران تحت لهب طائرتين غريبتين تدكانهما دكا دون تردد، وقد انبهر العالم كله أمام تلك الضربة القاسية التي تابع تفاصيلها تنقل حية على أثير القنوات الأمريكية والعالمية، وفي وقت لاحق ظهر صوت قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وهو يعترف بمسؤولية التنظيم عن تلك الهجمة القوية التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الأبرياء، وأطلقت في العالم كله لهبا مستعرا من الحروب والدماء إلى اليوم.

تولى “باول” في هذه الأثناء رئاسة الدبلوماسية الأمريكية، وكان أصغر جنرال وأول أسود يتولى هذا المنصب الذي تعاقب عليه دهاة السياسة الأمريكية، واستمر في المنصب ذاته إلى حين استقالته سنة 2005.

هجمات سبتمبر أحداث فارقة غيرت علاقة أمريكا مع بلاد المشرق

 

كان الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش” مصابا بهستيريا الانتقام، فانتقلت قواته بسرعة إلى أفغانستان، وأحرقت الأرض والجبال، وعصرت الثلج على سيول الدماء المتدفقة من أجساد وأشلاء المدنيين والقرى والمدن الأفغانية.

وكانت المحطة الثانية هي التدمير الثاني للعراق، وكان القدر على ما يبدو يختص “كولن باول” بتسويق هذه المهمة والدفاع عنها أمام مجلس الأمن، وحينها كان العالم على موعد مع أكبر وأفظع كذبة في تاريخ السياسة والحرب.

سلاح الدمار الشامل.. كذبة القرن التي قتلت 200 ألف عراقي

في 5 فبراير/شباط 2003، قدم “كولن باول” أمام مجلس الأمن ملفا متكاملا عن سلاح الدمار الشامل العراقي، رغم أن أعدادا كبيرة من المفتشين الدوليين الذين جابوا العراق طولا وعرضا لم يحصلوا على أي شيء مما حواه الملف الكاذب الذي قدمه “باول” إلى مجلس الأمن، وتضمن الملف خطة أمريكية للقضاء على النظام العراقي، ووضع اليد على الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل، وحماية العالم من أن ينتقل هذا السلاح إلى الإرهابيين منعا لتحالف مفترض بين صدام حسين وأسامة بن لادن.

ورغم أن “باول” أنحى باللائمة لاحقا على الاستخبارات الأمريكية بشأن المعلومات التي استعرضها أمام مجلس الأمن، فإنه تحمل سياسيا وأخلاقيا وصمة الكذبة التاريخية التي قتلت على أقل تقدير نحو 200 ألف شخص، وفتحت بوابة الدم المتدفق على مصراعيها، قتلا وتهجيرا وتشريدا، ونقلت العنف بكل قسوة إلى جميع أنحاء وأرجاء المنطقة.

كولن باول مهندس الغزو على العراق يدلل بشواهد كاذبة على اقتناء العراق أسلحة دمار شامل

 

لاحقا اعترف باول بأنه كان كاذبا في المعلومات التي تحدث عنها أمام مجلس الأمن، وفي حديث لقناة الجزيرة في 8 سبتمبر/أيلول 2005 كرر الاعتراف بالكذبة المؤلمة، وقال بالحرف: إنه فعلا نقطة سوداء، لأنني كنت أنا الذي قدمته للعالم أجمع، وقد كان ذلك صعبا، ويبقى حتى اليوم أمرا صعبا.

يقول “باول” إن رئيس الاستخبارات آنذاك “جورج تينت” كان يظن أنه يقدم لي معلومات صحيحة، قبل أن يعترف بأن نظام الاستخبارات لم يكن يعمل بشكل صحيح، وعاد ليؤكد أنه لم ير أي دليل على وجود مثل تلك الصلة المفترضة بين صدام حسين وأسامة بن لادن، ليعترف مرة أخرى بأنه كان مقاتلا رغم أنفه.

ورغم أنفه أيضا أرغم على الاستقالة، لتحل محله السمراء “كونداليزا رايس” ويخرج من دائرة التأثير والسياسة، إلا ما كان من تصريحات هامشية يجدد فيها اعترافه وشعوره بالذنب جراء كذبته التي قتلت ولا تزال تقتل الأبرياء في مختلف أرجاء العراق، رغم أنه كان يغلف اعترافاته هذه بالحديث عن نجاح بلاده “لأن ديكتاتور العراق قد رحل”.

فيروس كورونا.. مصرع مجرم الحرب في معركته الأخيرة

خاض “كولن باول” في سوريا مفاوضات واسعة مع الرئيس بشار الأسد من أجل الاستجابة للمطالب الأمريكية، وكان في تلك المفاوضات حريصا على إطالة أمد النقاش، وعلى فتح أبواب متعددة أمام الحوار مع دمشق، رغم أن البيت الأبيض لم يكن يرى في هذه الزيارات المتكررة أمرا ذا بال، ولم تحقق بالفعل نتائج تذكر.

وسرعان ما خرج من الدبلوماسية الأمريكية إلى شارع واسع لا يتذكره فيه الكثيرون إلا عندما يذكر بنفسه من خلال إعلان موقف داعم للرئيس “باراك أوباما”، أو عندما يتلقى انتقادا لاذعا من الرئيس السابق “دونالد ترامب” الذي لم يتوان عن وصف “كولن باول” بالكاذب، حتى بعد رحيله، وفي مقام التأبين.

غزاة العراق بقيادة الرئيس الأمريكي بوش الابن

 

تلقى “باول” جرعتين من اللقاح المضاد لفيروس كورونا، وكان يستعد لأخذ جرعة ثالثة معززة، قبل أن تباغته إصابة قاتلة بالفيروس إلى جانب معاناته مع الهرم وأمراض أخرى بينها أحد سرطانات الدم، لتلفظه الدنيا في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، منهيا 84 سنة من السعي في دروب الحياة.