“كيغام جغليان”.. أرمني يصنع أرشيف غزة الحضاري والشعبي أربعين عاما

رسم المستعمر الغربي صورة نمطية للعربي وهي في الغالب صورة لرجل يركب جملا، حتى لو كانت الأرض بلا جمال، أو صورة جنوده بكامل عتادهم وآلياتهم العسكرية في أراض وساحات خالية، وكأنها أرض بوار بلا حضارة، ليبيح لنفسه المكوث ونهب الخيرات، بحجة النهوض بالمجتمعات البدائية، متناسيا ثقافتهم الضاربة في القدم.

وهذا ينطبق تماما على ما صنعه المستعمر البريطاني بأرض غزة التي هي جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين، إذ أنه لم يكتف بالاستعمار، بل شطر الأرض وفرقها. لكن جاء من يوثق التاريخ الغزّي، فوثق لغزة في نهضتها وجمال شواطئها، رجل لا يحمل دماء عربية، ولكنه صور غزة وكأنه ابنها، في صوره يعرض وجهة النظر الفلسطينية لرؤية الأحداث.

لقد صوّر غزة بعين محب، وروت صوره حركة الحياة اليومية بتفاصيلها في المدينة، إنه “كيغام جغليان” المصوّر الأرمني الذي انتقل من القدس إلى غزة عام 1945، وافتتح فيها أول أستوديو تصوير بعد أن قدم إليها مهاجرا لاجئا، لكنه أصبح فلسطينيا وجزءا من تاريخها.

يأتي هذا الفيلم “مصوّر غزة الأول.. كيغام جغليان” ضمن سلسلة أفلام “مصورو فلسطين” التي أنتجتها قناة الجزيرة الوثائقية.

“سمعت عنه قصصا كثيرة وعن أهميته في غزة”.. حديث الحفيد عن الجد

قام الحفيد “كيغام أفاديس” بعمل معرض خاص به في “البيس سنتر” في مدينة بيت لحم في عام 2008، وهذا الحفيد هو أستاذ في الموضة والتصوير والإخراج الفني، وقد ولد في القاهرة، أما أبوه فولد في غزة وترعرع فيها، وأمه فلسطينية من بيت لحم.

يقول “كيغام” الحفيد عن نفسه إنه حمل اسم جده، وهو اسم ثقيل وصعب في النطق، “سمعت عنه قصصا كثيرة وعن أهميته في غزة، كيف انتقل إليها، ثم أصبح أول مصور فيها”.

صور للإنسان الغزّي في حياته اليومية وثقها “كيغام جغليان”

يعترف كثير من أهل غزة لـ”كيغام” الجد بفضله في نقل صور غزة وتوثيقه للأحداث التاريخية المهمة. يقول المصور يوسف ناتيل: تفاجأت بأن مدينتي غزة كانت على هذه الشاكلة، ولولا أن “كيغام” الجد صورها، فلن نعرف تاريخها ولا شكلها الحقيقي، لقد كان فيها مطار وسكة حديد وكل مقومات المدينة المتصلة بالعالم، على عكس المدينة المحاصرة اليوم.

“علمنا كيف تكون ذاكرة غزة”

كان أهل غزة يعرفون “كيغام جغليان” جيدا، إذ يقول عنه الكاتب والمخرج السينمائي ناصر عليوة: كنت أرى “كيغان” في زواج إخوتي لأنهم يصورون عنده، كما أني كنت هاويا للتصوير أذهب إليه لتحميض الأفلام، وهو من جعلني أهتم بالصورة وأدرك أبعادها، وكان بالنسبة لي الأب الروحي، ليس فقط في مجال التصوير كحرفة، لكنه علمنا كيف تكون ذاكرة غزة، ولولاه لضاع منها الكثير.

أما ابنه “أفاديس” فيعتبر فنانا حقيقيا، فقد كان المصور الأول والوحيد في ذلك الوقت، حيث كانت العائلات الكبيرة تذهب إليه في غزة لتصور لديه، مثل عائلة الشرفا والشوا وأبو مدين، كان يصور العائلات ثم يحول الصورة لبطاقات معايدة للمناسبات.

“كانت غزة جميلة”.. أرشيف يوثق للتاريخ المغيب

يرى يوسف ناتيل أنه من خلال الصور الموجودة، يظهر أن هناك تراجعا ملموسا في الثقافة والحريات، سواء حرية الحركة أو حرية التعبير، لكن عدسة “كيغام جغليان” كانت حرة رغم الاحتلال. يقول ابنه “أفاديس”: كانت غزة جميلة، وكنا نسبح بملابس السباحة، وبحرها ساحر.

تمكن المصور الأرمني- الفلسطيني “كيغام جغليان” في الثلث الثاني من القرن العشرين تسجيل تاريخ ومعالم غزة

كان جامع أرشيف “كيغام” مروان ترزي يبحث في الصور، وأثر فيه كيف كانت غزة دولة متكاملة، وقد وثق في عدد كبير من الصور مباني تاريخية لم تعد موجودة، مثل مبنى السرايا الذي تعرض للهدم، وكذلك قصر الحاكم المصري الذي لقي نفس المصير، لكن هذه الصور ستبقى إرثا للأجيال القادمة.

لقد قام “كيغام” بتصوير معظم عائلات غزة وأفراحهم ومناسباتهم وأعياد ميلادهم سواء داخل الاستوديو الخاص به أو خارجه.

“كان التصوير لمن يستطيع امتلاك كاميرا”.. كسر احتكار العدسة

لقد كانت الصور في غزة محتكرة لفئة مجتمعية وسياسية محددة، لكن “كيغام” حولها إلى حالة شعبية. يقول ناصر عليوة: عندما نعود نحن الغزيون لأرشيفنا كتاريخ، فإننا نعتمد بما نسبته 95% على صور “كيغام”.

من يملك الكاميرا.. يملك تسجيل التاريخ.. كاميرا المصورة “كيغام جغليان” يحتفظ بها أحفاده إلى اليوم

ويقول هاوي التصوير زياد الشوا: كان التصوير لمن يستطيع امتلاك كاميرا، وكان جد جدي فريد يمتلك واحدة في الثلاثينيات من العصر المنصرم، ولا تزال موجودة، لكن بعد مجيء “كيغام” فتح العدسة للجميع وللناس البسطاء وللمرأة، وقد غير الصورة النمطية لغزة وأنها بلا حياة، وأنها فقط ثكنة عسكرية، حيث نقل الحياة اليومية الجميلة، وأظهر روح الشعب في غزة.

مآسي النكبة.. عين ترصد الاحتلال والتهجير

بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، تهجر كثير من أهل فلسطين إلى غزة، ووضعوا المهجّرين على شاطئها وأصبحت فيما تحمل اسم مخيم الشاطئ، وقد وثق “كيغام” بالصور عملية التهجير ونصب الخيام.

يقول مروان ترزي: تحولت الخيام فيما بعد إلى زينغو (قطع من صاج معدني)، ثم إلى سبست (خليط من مواد كيميائية)، كما أنه صور اصطفاف اللاجئين في طوابير الطعام، وعندما احتلت إسرائيل غزة ستة أشهر استطاع توثيق انسحاب الجيش الإسرائيلي.

سجلت كاميرا “كيغام جغليان” نزوح أهل فلسطين إلى غزة في نكبة 1948

يقول “أفاديس”: كنا نعيش في شارع عمر المختار وسط المدينة، وعلم والدي أن هناك شيئا ما يحدث، فأحضر بطانيات ووضعها على الشبابيك وأحدث فيها ثقوبا، ومن خلال الثقوب صور الجيش وهو ينسحب ويأخذ معه بعض الأسرى.

في عام 1956 صور “كيغام” مجازر خان يونس ودخول الدبابات وانسحابها، ولم يصور أحد تلك الصور غيره، لذا فهي صور نادرة.

حقبة الطوارئ.. إرث المصور الرسمي للحكومة المصرية

كان “كيغام” يغطي الاحتفالات في السابع من مارس/آذار بملعب اليرموك، وفي الأرشيف صور لفتيات يرقصن في الاستعراضات. وفي العام 1957 جاءت قوات الطوارئ لغزة، وعاد الحكم المصري مرة أخرى، وكانت كل فرقة طوارئ تحضر الأوركسترا الخاصة بها، فكانت هناك الأوركسترا الكندية والبرازيلية، وكانت تقام الحفلات في غزة، وهذا أيضا كله مصوّر.

كان “كيغام جغليان” احد المصورين الرسميين للقيادة المصرية

لقد كان “كيغام” المصور الرسمي للحكومة المصرية الرسمية، وكان يتقن الإنجليزية والفرنسية، فكان هو المصور الرسمي لقوات الطوارئ الدولية. ويعتبر مروان ترزي أن أهم مرحلة من مراحل تصوير “كيغام” هي مرحلة الدولة المصرية، حيث صور الرئيس المصري محمد نجيب والضباط الأحرار.

لقد وثق “كيغام” التاريخ السياسي لغزة في صور النكبة ونشوء المخيمات، وزيارة الملك فاروق والرئيس جمال عبد الناصر وضيوفه أمثال تيتو ونهرو وجيفارا، وكذلك صور الفنانين عند قدومهم لغزة مثل عبد الحليم وصباح وشادية ونجاة الصغيرة.

عصر الحرية التجارية والفكرية.. ما قبل الاحتلال

يقول مروان ترزي: في الستينيات كان لي أخ اسمه موريس، وكان يهوى التصوير، وكان متدربا عند “كيغام”، وبعد ذلك نشأت علاقة مودة بينهما، واعتبره “كيغام” ابنا له، فعلمه كل شيء حتى تشرب الصنعة بأعلى جودة، وأصبح يعمل لديه، وكنت أذهب لأساعده في تنشيف الصور.

وعندما بدأت مصر في عهد جمال عبد الناصر بتمصير البضائع عام 1957 وأقفل الباب أمام الاستيراد، أصبحت غزة سوقا حرة، فكانت البضائع تأتيها مباشرة على ميناءها، فبدأ “كيغام” يستورد أدوات التصوير، وكان المستورد الرئيسي لها، وعندما توسع عمله بدأ يستورد كاميرات للمستخدم العادي.

مع ازدهار التجارة، خاصة موانئ البرتقال في يافا، استطاع “كيغام جغليان” تأمين الكاميرات من الخارج للراغبين بشرائها

كانت السنوات من عام 1964 ولغاية عام 1967 حافلة بالأحداث، فقد استطاع أحمد الشقيري في تلك الفترة أن يكوّن جيشا كاملا بدباباته وعتاده وجنوده. يقول مروان ترزي: وثقت الصور والمسودات لجيش التحرير، لكن بعد حرب 1967 انتهى كل شيء، وبقيت الصور لتوثق التاريخ.

ويرى يوسف ناتيل أن مكتبة “كيغام” غنية بأرشيفها الذي يوثق لغزة، لكن بعد عام 1967 لم تظهر تفاصيل كثيرة للمدينة بسبب الأحداث التى تلاحقت عليها، وغدت غزة تحت الحكم الإسرائيلي، وأصبحت هناك قيود على حرية الحركة والصورة للناس.

“أشعر بالفخر به، وأعتبر نفسي امتدادا له”.. كفاح ملهم

يريد “كيغام” الحفيد أن يدخل على مشروع لجده كفنان تشكيلي وباحث وحفيد، ولا يريد إخفاء شيء، ولا يحاول أن يكتب سيرة ذاتية عنه كمصور لغزة، بل يريد أن يعمل جزئية عنه، ويحاول الربط بين عمله وأهميته لغزة، ليس فقط من الناحية الفوتوغرافية، بل الإنسانية كذلك.

يلتقي “كيغام” الحفيد بخبيرة الصورة “زينيا نيكولسكابا” التي تقول عن جده إنه كان رجلا مهما ومصورا رائعا، وأرشيفه لا يقدر بثمن، وكان ذلك في الفترة ما بين الأربعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهذا يعني أنه كان موجودا مع قيام الكيان الصهيوني واحتلال فلسطين، والحكم المصري على غزة، وحرب 1973.

حفيد “كيغام جغليان” يتوسط مجموعة من هواة التصوير في غزة

تقول زينيا: إنها حقا مرحلة حساسة، وقد وثق “كيغام” للأحداث السياسية والشخصيات البارزة، وبالإضافة إلى ذلك قام بعمل تأريخ وتوثيق يومي للمنطقة، وهذه التفاصيل لا نعرف عنها شيئا في أوروبا والولايات المتحدة، نحن لا نعرف عن غزة إلا الأخبار المفجعة، هذا الإرث في غاية الأهمية، وتظهر تلك اللمحة عن عمله أنه كان مصورا مميزا وصانعا للصورة على أعلى مستوى، وصوره ذات جودة عالية.

يقول “كيغام” الحفيد: قصته ملهمة للناس سواء في التصوير الفوتوغرافي أو الفنون أو حتى الناس العاديين، لأن فيها نوعا من الكفاح لرجل أرمني أصبح فلسطينيا وحفر طريقه بغزة، أشعر بالفخر به، وأعتبر نفسي امتدادا له رغم الفارق الكبير لأهميته.