“لقمة عيش”.. خطوط حمراء تخنق العامل الفلسطيني داخل الخط الأخضر

إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ومجموعة من العمّال الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية يستعدّون لمعاناة يوم طويل وشاقّ، إنهم يسيرون على أحد مفارق الطرق في بلدة يطّا جنوب مدينة الخليل، وذلك للانتقال عبر الطرق الوعرة على مراحل متعددة، لتنقلهم هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار إلى داخل الخط الأخضر، إلى حيث ورشة البناء التي يعملون فيها.

 

كاميرا الجزيرة الوثائقية كانت حاضرة هناك، فتنقلت مع العمال بين المعابر والحواجز، ورافقتهم على الطرق الوعرة بين بلدات الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وسجلت يوميات العمال الفلسطينيين لحظة بلحظة، وعايشت آلامهم وآمال أطفالهم، ثم وثّقت هذه اللحظات في فيلم “لقمة عيش”.

حواجز الخط الأخضر.. طريق اللقمة المغمسة بالدم والإذلال

بينما كان السائق جعفر يحاول تنظيم العمال الـ12 في حافلته الصغيرة التي ضاقت بهم، يأتيه اتصال من والدته، تلك العجوز الفلسطينية المجرِّبة تخبر ابنها -بينما تحضر خبز الطابون لمجموعة أخرى- بمواقع جيش الاحتلال ونقاط التفتيش، وترشده إلى الطريق الأكثر أمنا. وتخبرنا عن الأخطار التي قد يتعرضون لها، وهي تصل للاعتقال أو الموت أحيانا إذا اصطدموا مع قوات الاحتلال.

على الحاجز الصهيوني رقم 300 بمنطقة بيت لحم، يصطف آلاف العمّال منذ ساعات ما قبل الفجر، من أجل التفتيش على تصاريح العمل التي بحوزتهم، ثم يُنقلون على مراحل متعددة في حافلات إلى معابر الاحتلال على الخط الأخضر، وتصاحبهم سيارات الجيش حتى الوصول إلى أماكن عملهم.

يقف العمال الفلسطينيون ساعات طويلة على الحواجز الإسرائيلية قبل أن يسمح لهم بالدخول للعمل في المناطق المحتلة

هذا المعبر الكئيب ذو الحواجز المعدنية الضيقة، ومعايير السلامة التي تكاد تكون منعدمة، والمعاملة غير الآدمية التي يتعامل بها جنود الاحتلال مع العمال الفلسطينيين؛ شهد الآلاف من حالات الاختناق والمئات من الوفيات جراء تدافع العمال. إنها اللقمة المغمسة بالدم لشعبٍ يعاني ويلات الاحتلال وضيق ذات اليد، ومعدلات بطالة غير مسبوقة على أراضي السلطة الفلسطينية، تضطرهم للعمل عند اليهود المحتلين.

وعلى حاجز جبع يخضع العمال الفلسطينيون لتفتيش جسدي صارمٍ من قبل قوات الاحتلال، في عملية إذلال يومي تمارس على العمّال الفلسطينيين فقط، بينما يمر العمال الصينيون والتايلنديون والأتراك باحترام ودونما مساءلة تذكر.

تصاريح العمل.. سوق سوداء تتحكم بأرزاق الفلسطينيين

في ساعات الصباح الباكر تصل مجموعة من العمال إلى مستوطنة “بيت شيمش”، المبنية على أنقاض قرية دير أبان الفلسطينية، بعد رحلة عبر الحواجز استغرقت أربع ساعات، علما بأن المسافة الحقيقية لا تحتاج لأكثر من ربع ساعة بالسيارة. وهناك سيبدأ العمل في الساعة السابعة صباحا.

يسلك العمال الفلسطينيون طرقا وعرة من أجل البحث عن لقمة العيش ويعرض ذلك حياتهم للخطر

أما أولئك العمال الذين لم يحصلوا على تصاريح من سلطات الاحتلال فسيلجؤون إلى عمليات التهريب بالسيارات عبر الطرق الزراعية غير المعبدة، أو حتى بالسير على الأقدام لمسافات بعيدة، مع ما يرافق تلك الرحلة من أخطار تصل حد القتل، فإذا ما قابلتهم دورية جيش الاحتلال فإما الهرب والعودة بلا عمل، أو الاعتقال. أما التحركات التي تثير الشكّ فيتعامل معها الجنود الصهاينة بالرصاص الحي.

ولا تنتهي المعاناة عند الحواجز، بل إن دوريات التفتيش تلاحقهم حتى داخل الورشات أو في المزارع التي يعملون بها، وعادة يحصل المتزوجون الذين تجاوزوا سن الثلاثين على تصاريح العمل، لكن حتى هؤلاء لا يحصل جميعهم على التصاريح، بل أكثرهم يضطرون لشرائها، ويبلغ ثمن التصريح الواحد حوالي 750 دولارا شهريا، يدفعها العامل إلزاما، سواء عمل أم لم يعمل.

“إنهم يكبرون دون أن أشعر بهم”.. حياة عائلية مُرّة

ها هي مجموعة العمال الذين انطلقوا مع جعفر من بلدة يطا هذا الصباح قد عادوا أدراجهم قبل الوصول إلى هدفهم، لقد وصلت إليهم الأخبار بوجودٍ مكثف لقوات الاحتلال على الطريق، وقد أوقفوا سيارة واعتقلوا جميع من فيها من العاملين. تستقبلهم أم جعفر بأكواب من الشاي، وبينما هم يستريحون تراقب هي الطريق بواسطة المنظار المكبر للتأكد من عدم وجود سيارات للاحتلال تلاحقهم.

من أجل لقمة الخبز، يغيب العامل الفلسطيني أسابيع عن بيته ولا يكاد يرى أولاده إلا قليلا

هذا سهيل العمور من بلدة يطا جنوب الخليل، وهو مقاول بناء يتحدث عن أطفاله الصغار قائلا: إنهم يكبرون دون أن أشعر بهم، أقضي معهم الجمعة والسبت فقط، بين راحة من عمل شاقّ طوال أسبوع مضى، واستعداد لأسبوع قادم، فمتى أتفقد حاجاتهم؟ وكيف أتابع دراستهم؟ ولكن هذا قدرنا.

ويضطر بعض العمال للمبيت في أماكن عملهم حتى يتجنبوا رحلة العذاب هذه، ويضحون برؤية أبنائهم وزوجاتهم لأسابيع أو حتى شهور، حتى لا يتعرضوا لوجبة الإذلال اليومي على أيدي قوات الاحتلال على الحواجز ونقاط التفتيش المتعددة.

حوادث الطرق وعربدة قطعان المستوطنين.. حياة على المحك

لا تخلو حياة العمال اليومية من حوادث الطرق، فهي ليست ممهدة أصلا للسيارات، بل طرق جبلية وعرة، وفرصة انقلاب السيارات بمن فيها واردة بنسبة كبيرة، هذه إحدى السيارات المرافقة لمجموعة جعفر قد انقلبت بمن فيها في طريق العودة، وأسفر الحادث عن مقتل أحد العمال وإصابة عدد منهم.

أما عصابات المستوطنين فتلك قصة أخرى، فالحقد الذي يملأ قلوبهم على كل من هو فلسطيني ليس له حد، ولا تقتصر “بلطجتهم” على الشجر والحجر والمواطنين في بيوتهم، بل يتعدى ذلك إلى السطو على العاملين داخل الخط الأخضر، وسرقة ما لديهم من المال والطعام، بل وقتلهم أحيانا، مثلما حصل للشهيد عبد محمد العبَيّات من بيت لحم.

شهيد فلسطيني قتل على ايدي مستوطنين أثناء عمله في مناطقهم في فلسطين المحتلة

وفي بيئة العمل القاسية، يفقد بعض العمال حياتهم نتيجة نقص أو انعدام احتياطات السلامة، مثلما حدث للعامل الشهيد مسباع الزهور من بلدة بيت كاحل جنوب غرب الخليل، وكان يتوجه إلى عمله يوميا عبر حاجز ترقوميا، وتقول زوجته سهير إنه استشهد بسبب سقوط هيكل من الحديد والخشب وزنه أكثر من 900 كغم.

وهناك حادث آخر تعرض له أحد العمال في منطقة بئر السبع حين كان يقوم بتركيب المكيفات في الطابق الـ13 في إحدى البنايات، وسقط من ذلك الارتفاع العالي، مما أدى إلى وفاته على الفور.

“لقمة العيش مُرّة”.. جائحة كورونا تصب الزيت على النار

ازدادت مآسي العامل الفلسطيني في زمن الكورونا، فما بين مطرقة رصاص الاحتلال وسندان عربدة المستوطنين، جاءته ثالثة الأثافي جائحة كورونا. وفي خضم تبادل الاتهامات بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال كان العامل الفلسطيني هو الضحية المزدوجة للفريقين، فالاحتلال يدعي أن العمال يجلبون الفيروس من الأراضي الفلسطينية، والسلطة تقول إنهم يأتون بالفيروس من الكيان المحتل.

فلسطينية تربي الأغنام لوقت الحاجة حيث الوضع الاقتصادي كان صعبا خلال فترة كورونا

وفي هذا الوضع المأزوم توقف كثير من العمال عن عملهم، وأخذوا يستنزفون مدخراتهم المتواضعة، بينما رضي آخرون بالإجراءات الاحترازية واضطروا للمبيت أسابيع وشهورا في أماكن عملهم داخل الخط الأخضر.

تقول زوجة المقاول سهيل العمور: لم يعد سهيل إلى المنزل منذ 26 يوما بسبب الإجراءات الاحترازية لكورونا، نحن لا نكاد نتدبر أمرنا، أنا –والحمد لله- أعتني بهذه الأغنام لوقت الشدائد والحاجات الطارئة، فسهيل معرض للتعطل عن عمله لأي سبب، ويجب علينا أن نجد البدائل لإطعام أولادنا، لقمة العيش مُرّة.

العاملون في الداخل الفلسطيني مضطرون للمبيت في ظروف سيئة بعيدا عن عائلاتهم بسبب صعوبة الدخول والخروج على الحواجز

وقد ازداد الوضع تأزما عندما أعلنت سلطات الاحتلال وقف حركة العمال نهائيا وإغلاق المعابر بالكليّة، واستمر ذلك الوضع لعدة أشهر، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي كبير على الوضع الاقتصادي المتدهور أصلا في الضفة الغربية، وتعطلت القوى العاملة نهائيا، إلا بعض التجاوزات التي كان يخاطر أصحابها بحياتهم، عن طريق العبور تهريبا إلى الداخل.

القبض على الجمر.. خطيئة تمنع العالم من حماية الفلسطيني

هؤلاء الذين قضوا على المعابر أو في الطرقات أو داخل أماكن عملهم، هم أناس بسطاء لهم أحلام وآمال بسيطة، كل همهم أن يؤمنوا لقمة عيش أطفالهم وتعليما متواضعا ومستقبلا آمنا، لكنّ منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي بأسره أشاح بوجهه عنهم، لا لذنب إلا لأنهم فلسطينيون قابضون على الجمر متمسكون بحقهم في الحياة، في مواجهة آلة بطش همجية.

 

مع ظروف كورونا، أغلقت السلطات الإسرائيلية المعابر، فشق ذلك على ألوف العمال الذين يتكسبون من عملهم في الداخل

هذا غيضٌ من فيض، مما يتعرض له الفلسطيني المرابط على أرضه من أساليب القمع الوحشية التي تمارسها سلطات الاحتلال بحقه، وكل فئات الفلسطينيين مستهدفة، يستوي فيها العامل والطالب، والرجل والمرأة، والطفل والشيخ. هناك لا يأمن الفلسطيني على نفسه، سواء أكان في بيته أو مسجده أو مكان عمله. وإذا قُدِّر له أن ينجو من رصاص الجنود، فلا يأمن بطش وبلطجة قطعان المستوطنين.