“ليست النهاية”.. حين يجود الميت بجسده لإنقاذ الأحياء

ليس هناك أصعب في هذه الحياة من استنفاد كل وسائل العلاج، والاكتفاء بأخذ المهدئات أو العيش تحت رحمة الأجهزة الطبية في انتظار النهاية. وفجأة يظهر في نهاية النفق ضوء بإمكانية زرع عضو جديد من متبرع، والعودة إلى العيش مجددا بعيدا عن صوت الآلات الطبية، وبرودة قاعات الإنعاش والعناية المركزة.

لم تصل بعد ثقافة التبرع بالأعضاء إلى المستوى المأمول، حتى في الدول الغربية المتقدمة طبيا، ففي الولايات المتحدة نجد أن نسبة المتبرعين المفترضين لا تتجاوز 60% من البالغين، ويوجد ما لا يقل عن 80 ألف مريض على قوائم التبرع بالأعضاء، كما يموت كل يوم 20 أمريكيا ينتظرون الحصول على عضو ينقذ حياتهم بحسب إحصائيات رسمية.

ومن أجل الوصول إلى أكبر عدد من المتبرعين المفترضين، أقرت دول أخرى كفرنسا مثلا تعميم التبرع بالأعضاء بعد الممات على جميع مواطنيها، إلا في حالة الرفض والإقرار بذلك كتابة قبل الوفاة.

فيلم “ليست النهاية”

وتأتي زراعة الكلى في صدارة عمليات زرع الأعضاء حول العالم، ويجريها الأشخاص المصابون بالفشل الكلوي. كما تطورت في السنوات الأخيرة زراعة الكبد والرئة وأيضا القلب، بالإضافة إلى القرنية التي أصبح عدد من المستشفيات يتوفر على مخزون منها.

وعرضت الجزيرة الوثائقية فيلمين وثائقيين بخصوص التبرع بالأعضاء، أما فيلم “ليست النهاية” فيقدم للمشاهدين قصصا بشرية واقعية عن التبرع بالأعضاء في كندا. بينما يعرض الوثائقي “عطية الحياة” واقع حالتين إنسانيتين مختلفتين تنتظران متبرعا تحت وطأة المرض في لبنان، ثم في مرحلة لاحقة مراحل عملية زرع الأعضاء داخل غرف العمليات، وتحسن الحالة الصحية للمرضى.

وسنجيب في التقرير عن عدة تساؤلات ترافق التبرع بالأعضاء، وكيف تطورت زراعتها في السنوات الأخيرة، وأبرز المستجدات العالمية في هذا المجال، بالإضافة إلى التحديات التي تواجه زراعة الأعضاء البشرية وتحد من انتشارها أكثر، خصوصا في عالمنا العربي.

“القوة والسلطة الفردية”.. رفض الجسد للأعضاء الأجنبية

ظهرت عدة محاولات لزرع الأعضاء والأنسجة منذ أن بدأ الإنسان في ممارسة الطب والجراحة، وكانت البداية بزرع الجلد من أجل تجميل بعض مناطق الوجه، وكانت العمليات التي تجرى بطعم ذاتي من الإنسان نفسه تلقى النجاح، بينما كان الفشل مصير عمليات الطعم المأخوذ من شخص مغاير، وهو ما وثقه الطبيب الإيطالي “غاسباري تالياكوتزي” عام 1596، وفسر ذلك بما وصفه بـ”القوة والسلطة الفردية”. بينما سيتضح بعد ذلك أنه الجهاز المناعي للإنسان، إذ يرفض أي جسم غريب.

وفي بداية القرن العشرين حدثت أول ثورة في هذا المجال، عندما استطاع الجراح الفرنسي “ألكسيس كاريل” -بشراكة مع عالم وظائف الأعضاء الأمريكي “تشارلز غوثري”- زراعة الشرايين أو الأوردة، مما اعتبر تمهيدا لزراعة الأعضاء البشرية مع تطور الخياطة الجراحية، وبفضل هذا الاكتشاف حصل الجراح الفرنسي على جائزة نوبل للطب عام 1912.

الكلية هي أكثر الأعضاء التي يأمل مرضى الفشل الكلوي الناس التبرع بها

عناد الجهاز المناعي.. تاريخ طويل من فشل زراعة الأعضاء

بعد نجاح عملية “كاريل” و”غوثري” جرت محاولات عدة، لكنها كانت تنتهي دائما بالفشل، بسبب رفض الجسم للعضو المنقول، وقد شكلت سنة 1954 سنة نجاح أول عملية زراعة عضو بين شخصين مختلفين، وكانت زراعة للكلية بين توأمين حقيقيين، ولم يُرفض هذا العضو من قبل جهاز المناعة بفضل التطابق الجيني التام للتوأم.

وظلت إشكالية رفض العضو بعد نقله إلى المتلقي أبرز الإشكاليات التي تتسبب في فشل كثير من عمليات زراعة الأعضاء، وتركزت أبرز الأبحاث لسنوات على كيفية ثني الجهاز المناعي للجسم عن رفض العضو الجديد.

وبعد أبحاث عدة في هذا الإطار توصل علماء إلى حل جزئي من خلال أدوية تثبيط أو كبح المناعة التي تنضاف إليها هرمونات “الستيرويد” القشرية. وتساعد هذه الأدوية التي تؤخذ مدى الحياة في خفض نشاط بعض خلايا الجهاز المناعي، وتحد من خطر رفض العضو المزروع، لكنها في المقابل تقلل من قدرة الجسم على مكافحة الأمراض أو العدوى.

من النادر الحصول على رئتين صحيتين خصوصا من متبرع غير مدخن

خلايا الدم البيضاء.. سلاح الهجوم على العنصر الدخيل

عندما تتدفق دماء المُتلقي داخل العضو الجديد، فإن الجهاز المناعي سرعان ما يتعرف عليه كعنصر دخيل، ويصدر بالتالي أوامرا بمهاجمته بواسطة الأسلحة المناعية للجسم على رأسها خلايا الدم البيضاء، وذلك راجع إلى كون خلايا الجسم تتوفر على بصمة خاصة بها، وهو ما اكتشفه منذ 1958 الطبيب الفرنسي الباحث في علم المناعة “جون دوسو”، وأسماه نظام الفصائل النسيجية “إتش إل إيه” (HLA)، وهو يعتبر أكثر تعقيدا من الفصائل الدموية المعروفة، وأكد أن هذه الفصائل تتدخل بشكل كبير في الجهاز المناعي.

وقبل الحصول على العضو الجديد يجري الأطباء تحاليل لمعرفة مدى تطابق الفصائل النسيجية بين المتبرع والمتلقي. وكلما كان التقارب كبيرا، ازدادت فرص نجاح العملية، وخُفضت نسبة أدوية تثبيط المناعة التي يتناولها المتلقي طيلة حياته. وفي بعض الأحيان يستحيل نقل العضو رغم سلامته بسبب التباعد الكبير في الفصائل الجينية.

يمكن لميت دماغي واحد أن ينقذ حياة ثمانية أشخاص من خلال التبرع بأعضائه السليمة

ميت ينقذ ثمانية أحياء.. لغة الأرقام تتحدث

رغم كل الإشكاليات المرتبطة بالجهاز المناعي، واحتمال رفض العضو الجديد من قبل المتلقي، يبقى التبرع حلا جذريا لعدد من الأمراض المستعصية على العلاج، والمرتبطة بفشل عضو في أداء وظيفته المعتادة، فالشخص المتوفى دماغيا يستطيع إنقاذ حياة ثمانية أشخاص آخرين، بفضل أعضائه السليمة، وعلى رأسها الكليتان والقلب والقرنيتان والكبد والبنكرياس والرئة.

وبلغة الأرقام شهدت وتيرة عمليات زراعة الأعضاء المختلفة ارتفاعا ملحوظا خلال الفترة 2015-2019، مقارنة بالفترة التي سبقتها 2010–2014، وازداد عدد عمليات الزرع من المتوفين دماغيا بنسبة 37.8%، بينما وصلت هذه الزيادة إلى 73% بالنسبة للأعضاء المتبرع بها من الأحياء.

زراعة القلب عملية نادرة ولها دور طويل من المرضى لقلة المتبرعين

هبة الكبد والكلى.. عضو واحد لشخصين على قيد الحياة

ليس التبرع بالأعضاء دائما مرادفا للموت، فيمكن أن يعيش المتبرع والمتلقي معا حياتهما بشكل طبيعي، وذلك في حالة التبرع مثلا بالكلية أو بجزء من الكبد. وفي الحالتين يواصل المتبرع حياته الاعتيادية، لأن كلية واحدة تستطيع القيام بمهمتها بـأكمل وجه. كما أن الإنسان يملك القدرة على التبرع بجزء من كبده التي تنمو بسرعة وتستعيد حجمها الطبيعي وتؤدي وظائفها في غضون بضعة أشهر، سواء بالنسبة للكبد المزروعة في جسد المتلقي أو الجزء الباقي لدى المتبرِّع.

ويبقى التبرع بهذين العضوين الاستثناء الوحيد الذي يمكِن الشخص من الحصول على عضو يعيد له وظائف الجسم الحيوية، دون انتظار موت أحد الأشخاص دماغيا أو في حادث، وهو ما يفسر أيضا ارتفاع عدد عمليات زراعة الكلى والكبد حول العالم، مقارنة بالأعضاء الأخرى مثل القلب أو الرئة.

وأظهرت الإحصائيات أن الأشخاص الذين يتلقون كبدا من متبرع حي، يحظون بفرص نجاح العملية أكثر من أولئك الذين يتلقون كبدا من متبرع متوفى، كما أن عدم الانتظار مدة طويلة لإجراء عملية الزراعة، يساعد في عدم حدوث مضاعفات محتملة وتدهور صحة المتلقي.

وينطبق الأمر نفسه على الكلى، ونجد في الولايات المتحدة مثلا أن ثلث عمليات زرع الكلى يكون فيها المتبرع حيا، وهذا يعني قضاء وقت أقل على قائمة الانتظار، وتفادي مضاعفات غسيل الكلى بالأجهزة الخارجية. كما أن احتمال رفض الأعضاء من الجهاز المناعي، والآثار الجانبية للأدوية المضادة للرفض تكون أقل، على اعتبار أن أغلب المتبرعين الأحياء يكونون على علاقة قرابة دموية مع الشخص المريض، وهو ما يزيد من التقارب الجيني والوراثي.

بسبب ندرة الأعضاء، يلجأ المرضى إلى السوق السوداء ليحصلوا على عضو سليم حتى ولو كان الثمن باهظا

السوق السوداء.. ملاذ المضطرين في الطابور المليوني

يفوق عدد الأشخاص الموجودين على قائمة الانتظار للحصول على عضو جديد من متبرع ميت حوالي مليوني شخص حول العالم، ويتوقع أن يرتفع العدد إلى أكثر من 3 ملايين بحلول عام 2024. ولسوء الحظ يتوفى منهم سنويا حوالي 10% بسبب عدم تمكنهم من الحصول على العضو المناسب في الوقت المناسب.

ويطرح هذا الإشكال ضغوطا كبيرة على الأطباء والجراحين في المستشفيات، وأيضا على عائلات المرضى الذين يضطر بعضهم -بسبب فقدان الأمل في إيجاد متبرع- إلى التوجه إلى السوق السوداء، أو المتاجرين في الأعضاء، أو إجراء العملية خارج الإطار القانوني لها.

وتصف منظمة الصحة العالمية وضع التجارة الدولية في الأعضاء بالغامض بسبب ندرة المعلومات، ونقص الجهود في مجال تجميع البيانات، ويُجمع المتتبعون بأن نسبة عمليات زرع الأعضاء خارج الإطار القانوني لا تتجاوز 10% على الصعيد الدولي، وفي المقابل تشير التقارير إلى أرباح هذه التجارة غير المشروعة التي تتراوح ما بين 600 إلى مليار دولار سنويا.

وتعتبر إيران حتى الآن الدولة الوحيدة التي قننت بيع وشراء الأعضاء البشرية، ويتراوح مثلا سعر الكلية في هذا البلد ما بين ألفين إلى 4 آلاف دولار، بينما قد يصل في السوق السوداء إلى 160 ألف دولار.

الخلايا الجذعية أصل جميع الخلايا في الجسم، فمنها تنمو كل الخلايا

تقنية الزرع الذاتي.. ثورة الخلايا الجذعية

تعتبر الخلايا الجذعية أصل جميع الخلايا في الجسم، وهي تضمن تجدد الأعضاء والأنسجة، في عملية تستمر طيلة حياة الإنسان، لكن مع التقدم في العمر تصبح قدرة بعض الأعضاء على التجدد محدودة، خصوصا العين والدماغ والقلب، ويهدف العلاج بالخلايا الجذعية إلى إعادة تفعيل قوى الشفاء الذاتي للجسم، وذلك من خلال تحفيز عمليات التجديد، واستبدال الخلايا المشوهة أو المصابة.

وتستعمل هذه التقنية كثيرا في علاج بعض حالات سرطان الدم، خصوصا عندما يؤثر العلاج الكيميائي سلبا على عملية إنتاج خلايا الدم والجهاز المناعي للمريض، وفي هذه الحالة تستأصل كمية من الخلايا الجذعية الموجودة في النخاع العظمي من المريض نفسه، ثم تنقى من الخلايا السرطانية أو تعالج تلك المتضررة منها في المختبر، قبل إعادة نقلها إلى جسم المريض لإنتاج خلايا دم جديدة وسليمة.

وتساعد طريقة الزرع الذاتي في شفاء المريض بسرعة، مقارنة بعمليات زرع الخلايا الجذعية التي يحصل عليها المريض من متبرع حي، لأن الخلايا ذاتية وليست غريبة عن المريض.

وقد فتح هذا التطور الحاصل في العلاج بالخلايا الجذعية الطريق أمام تطوير هندسة الأنسجة التي يمكن استخدامها للحصول على أنسجة تشبه الأنسجة الأصلية، وتوظيفها في علاج الحروق وفي إنتاج الأوردة الدموية، وحتى إجراء عمليات إصلاح وتبديل أعضاء أخرى في جسم الإنسان.

ونجح جراحون أوروبيون منذ حوالي عشر سنوات في زرع أول قصبة هوائية صناعية في العالم، بعد تغطيتها بخلايا جذعية من المريض الذي أجريت له الجراحة، وهو ما مكن الجهاز المناعي للمريض من تقبلها بسهولة.

إحدى الفتاوى الكثيرة بشأن التبرع بالأعضاء

إجماع فقهاء الدين.. ثورة التبرع في دول الخليج العربي

تبقى نظرة المجتمع وقناعاته حاليا أبرز عائق أمام تطور ثقافة التبرع بالأعضاء في كثير من دول العالم، خصوصا في وطننا العربي والإسلامي، رغم إجماع فقهاء الدين منذ 22 عاما على جواز التبرع بالأعضاء، وقالوا إن التبرع صدقة جارية يبقى فضلها حتى بعد وفاة الإنسان، وأصدر مجلس هيئة كبار العلماء ومجلس الفقه الإسلامي فتوى تجيز أيضا التبرع بأعضاء المتوفين وفق شروط.

لكن التردد لا يزال هو السائد في كثير من الحالات، وتُحجم الغالبية العظمى عن تسجيل أنفسها في قوائم المتبرعين بعد الوفاة، رغم تشجيع العملية من قبل المؤسسات الحكومية في عدة دول.

وتعتبر دول الخليج من بين الدول المتقدمة في هذا المجال، ونجد في الكويت مثلا أكثر من 13 ألفا يحملون بطاقات التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، وفي قطر أيضا يقدر حاليا عدد المسجلين بقائمة المتبرعين بالأعضاء بنحو 300 ألف متبرع بحسب إحصاءات مؤسسة حمد الطبية، وفي السعودية يبلغ عدد مراكز زراعة الأعضاء 28 مركزا تجري عمليات زرع بنسب نجاح تزيد عن 95%، خصوصا عمليات زراعة الكلى والكبد والقلب والرئتين.

مصر والمغرب.. مكافحة التجارة وإحياء ثقافة التبرع

وفي شمال أفريقيا بذلت مصر مجهودات لمحاربة الاتجار في الأعضاء الذي عانت منه البلاد لسنوات بشكل كبير، بعدما صنفت الثالثة عالميا في تجارة الأعضاء البشرية بعد الصين وباكستان، قبل أن يصادق البرلمان المصري في 2010 على قانون ينظم عمليات التبرع بالأعضاء البشرية، ويحظر الاتجار فيها.

وفي المغرب تجرى سنويا حوالي 50 عملية زرع كلى، وجلها من متبرعين أحياء، في ظل غياب ثقافة التبرع بعد الوفاة، وتشير الجمعية المغربية لمحاربة أمراض الكلى إلى تسجيل 1100 مغربي فقط منذ 1989 في سجلات التبرع بالأعضاء على مستوى محاكم المملكة.

ويعول على تغير نظرة المجتمع ليصبح التبرع بالأعضاء يوما شبيها بالتبرع بالدم حاليا، وهي أنجح عمليات التبرع التي أجراها الإنسان على الإطلاق، إذ أصبحت إجراء روتينيا بعدما كانت شبه مستحيلة في الماضي. وهو ما ساهم في إنقاذ آلاف الأرواح سنويا، وأصبح في كل بلد حول العالم بنك دم وهيئات حكومية تدير المخزون الحيوي من هذه المادة الأساسية لعيش الإنسان.