“ليوناردو بريشته”.. “دافنشي” يكشف اللثام عن وجهه بعد خمسة قرون

خاص-الوثائقية

تقودنا لوحة فنية نادرة لرجل غريب ذي إطلالة وملامح مألوفة إلى رحلة شيقة ممتعة نسافر بها عبر الماضي، وتعود بنا إلى الوراء إلى عصر النهضة في إيطاليا، لتشبع فضول الخبراء في عالم الفن، وتجيب عن كل التساؤلات التي أثارتها.

ففي عام 2008 اكتشفت لوحة قديمة أثارت الكثير من التساؤلات، وشكلت بداية لتحقيق مكثف وبحث واسع المدى في أوروبا، شمل خبراء مشهورين عالميا ومؤرخين وعلماء وحتى بعض محققي الشرطة.

يروي هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية جوهر هذا التحقيق، حيث تعيدنا فيه أحدث التقنيات العلمية وأكثرها تقدما 600 عام إلى الوراء، إلى حياة الفنان الشهير “ليوناردو دافنشي”، للكشف عن صورة قديمة ذات سمات مألوفة، ولنعرف ما إذا كانت هذه اللوحة هي رسم شخصي لهذا الفنان.

 

لوحة نابضة بالحياة.. سيد توسكانا يستيقظ من مرقده

في أحد صباحات عام 2008 تلقى البروفيسور الإيطالي المتخصص في تاريخ الفن “نيكولاس بارباتيلي” اتصالا من أحد مقتني اللوحات، ويطلب منه الاطلاع على مجموعته التي يتجاوز عددها مئة لوحة، وق ذهب “بارباتيلي” على الفور إلى ساليرنو الإيطالية، وكان من بين تلك اللوحات لوحة بورتريه ملفوفة ببطانية صوفية، وقد طلب صاحب اللوحات فحصها على وجه التحديد لأنه يريد بيعها بالمزاد.

أصيب الخبير الإيطالي بالصدمة لدى مشاهدته اللوحة، هل من المعقول أن يكون قد عثر أخيرا على صورة شخصية لـ”دافنشي”؟

لقد استطاع “بارباتيلي” بصفته مؤرخا فنيا أن يتعرف على الفور من خلال السمات الرمزية الموجودة في اللوحة أنها رسم ذاتي لـ”دافنشي”، فهذه اللوحة تتطابق مع نظيرتها في متحف أوفيتزي أكبر متحف في فلورنسا، تلك اللوحة التي اعتبرت لسنوات على أنها بورتريه ذاتي لـ”دافنشي”، لكن فيما بعد تبين أنها رسمت في القرن السابع عشر، أي بعد مئة عام من وفاة الفنان الإيطالي الشهير، واكتشف الخبراء أنها مزورة.

فتحت اللوحة الجديدة بابا واسعا من التساؤلات، هل من الممكن أن تكون هذه هي الأصلية؟ وهل من الممكن أن تكون النسخة الموجودة في متحف أوفيتزي نقلا عنها؟ وهل هي اللوحة التي اختفت للأبد؟

إنها لوحة رائعة تنبض بالحياة قد تضاف إلى لوحات “دافنشي” سيد توسكانا، لكن لا بد من التحقق من ذلك، لذا قرر “بارباتيلي” أن يحمل على عاتقه المهمة، وبدأ برحلة بحث طويلة شيقة سنتتبعها خطوة خطوة، لنتمكن من تفكيك خيوطها والخروج بحكم مقنع على اللوحة.

بدأت رحلة البحث بزيارة مرمّم اللوحات المتخصص في تدقيق الأعمال الفنية “جيانكارلو نابولي”، وهو خبير متخصص في مجاله، يقول عن نفسه: لم يسبق لعيني وحدسي أن خيبا ظني، لكن عندما رأيت تلك اللوحة كان انطباعي الأول أنها أبهى من أن تكون قد رسمت في القرن السادس عشر.

“بارباتيلي” بصفته مؤرخا فنيا يتعرف على اللوحة أنها رسم ذاتي لدافينشي

 

ورشة “لودوفيكو”.. أولى الخطوات في طريق المجد

ولد “ليوناردو دافنشي” عام 1452 وتوفي عام 1519، والرجل المرسوم في اللوحة يقترب عمره من الخمسين عاما، أي أن اللوحة إن كانت تمثل “دافنشي” فقد يكون قد رسمها في بداية القرن السادس عشر.

عاش “ليوناردو” في جمهورية فلورنسا في القرن الخامس عشر، إبان عصر النهضة، وكانت الجمهورية في أوج صعودها الفني في كل المجالات في الرسم والنحت والعمارة، وقد تميزت المدينة بمستواها العالي من الثقافة والرخاء المادي، وكانت تحكمها عائلة “ميديتشي”، وهم  تجار صوف ناجحون وأصحاب بنوك ومصارف، وكان هذا الأساس الاقتصادي الذي شكل ازدهار الفن فيها، وعرف عن أفراد العائلة الحاكمة حبهم للفن، ومن بينهم “كوزيمو الأول”، ثم الرجل الذي لقب فيما بعد “لورينزو” الرائع، وقد كان شغوفا بفن العمارة والشعر، وقدم الدعم لعدد من الفنانين من ضمنهم “مايكل أنجلو” و”دافنشي”.

يقول المؤرخ الفني “روس كينغ”: إذا كنت في ذلك الوقت شابا يافعا وأردت أن تصبح فنانا، فقد كان عليك الذهاب إلى مدرسة فنون ومكان لبيع القطع الفنية أو ورشة فنية، وهذه أماكن التلمذة والتدريب المهني، فهناك يتعلم المرء أسرار المهنة وكيفية خلط الأصباغ أو كيفية الرسم بالمنقاش الفضي والتصاميم والرسم بالصباغة الزيتية وغيرها.

ومن أكثر المعامل الفنية شهرة في تلك الحقبة معمل الرسام “لودوفيكو سفورزا” المقرب إلى عائلة “ميديتشي”، وقد بدأ “دافنشي” التدرب في ورشة “لودوفيكو” في عام 1467 وكان عمره 15 عاما، حيث تعلم الرسم والصباغة وفن النحت والعمارة والفنون الميكانيكية، ومكث في المعمل حتى بلغ العشرين.

اهتم “لودوفيكو” بتلميذه “دافنشي” وصقل موهبته، فقد أدرك بأنه شخص موهوب، وقد عملا كشريكين أو كفريق عمل، وتمثل ذلك في لوحة تعميد المسيح بدأها “لودوفيكو” وأنهاها “دافنشي”، وقد رسم الملاك الذي يظهر في أقصى اللوحة.

“نيكولاس بارباتيلي” بروفيسور إيطالي متخصص في تاريخ الفن

 

إعادة ترميم اللوحة.. خدوش المحاولات السابقة

نعود إلى رحلة البحث مع “نيكولاس بارباتيلي”، فبعد 15 يوما اتصل به مرمم اللوحات “جيانكارلو نابول” بعد أن أنهى تنظيف اللوحة وبدت مختلفة تماما، لكن ظهر بها بعض العيوب والثقوب والخدوش التي تعود -كما يقول المرمم- لمحاولات ترميم سابقة.

كانت هذه العيوب فقط هي الظاهرة في البداية، لكن مع عملية التنظيف وجدت شقوق دقيقة، سببها الرئيسي احتكاكها بالخشب على مر العصور، وهي حالة متكررة في لوحات عصر النهضة، وكانت استنتاجات المرمم مشجعة لإثبات أن اللوحة تعود للقرن السادس عشر بشكل لا يدع مجالا للشك.

لكن كان لا بد من إجراء المزيد من الأبحاث، ومن أجل ذلك، كان على “بارباتيلي” أن يأخذ اللوحة في جولة حول أوروبا، وكانت المحطة الثانية مدينة نابولي الإيطالية حيث مركز “إينوفا” المتخصص في الدراسات العلمية والأعمال الفنية التاريخية، وذلك من أجل تحديد العمر الدقيق للوحة التي عرفت باسم لوحة (لوكان)، وكان لا بد من إخضاعها للتحليل بالأشعة السينية على يد الخبير “جيوفاني باتيرنوستر”.

منذ العصور القديمة وحتى القرن التاسع عشر لم تتغير الصبغات، فقد كانت صبغات معدنية في الغالب، وبعضها نباتي أو حيواني، ولم تتطور الصبغات العضوية والصناعية إلا في القرن التاسع عشر. ومن اللحظة الأولى كان هناك عنصر ملفت في البورتريه، وهو الريشة البيضاء التي تزين القبعة حيث كان بياضها ناصعا وكأنها دهنت بصباغ صناعي، وهذا يدل على أنها لم ترسم في عصر النهضة، لذا أخضع الخبراء الوجه بأكمله للأشعة السينية.

يقول “جيوفاني”: عند النظر في الرسم البياني للخد نستطيع أن نتبين وجود الإثمد والرصاص، وهذا هو تركيب الإثمد الرصاصي، وقد يكون الأصفر النابولي الذي تعود الآثار الأولى لاستخدامه لبدايات القرن السادس، وهناك الأحمر القرمزي والأزرق النيلي والأخضر السماوي.

كانت تلك المواد سامة في بعض الأحيان، وكان يحضّرها المتدربون، وكانت تُخلط بالبيض، وعرف هذا الصباغ بـ”ألتومبيرا” الدهني، لكن الصباغ الذي دهنت به الريشة كان من ثاني أكسيد التيتانيوم الذي لم يعرف إلا في أوائل القرن العشرين، وهذا يعني أنها رسمت في وقت لاحق أثناء عمليات الترميم، باستثناء ذلك فإن الأصباغ المستخدمة في بورتريه “لوكان” تعود إلى حقبة “ليوناردو”. وقد شجعت هذه النتيجة “بارباتيلي” للاستمرار في بحوثه.

في عام 1481، كلف الأغسطينيون في دير “سان دوناتوو فيسكوبيتو” دافينشي برسم لوحة “عشق المجوس”

 

شجرة في عهد “دافنشي”.. استنطاق الخشب للبوح بأسراره

كانت الخطوة التالية في رحلة التحقق من اللوحة فحص قاعدتها الخشبية، لذا استعان “نيكولاس بارباتيلي” ببروفيسور الفيزياء “فيليبو تيراسي” الذي استخدم في هذه المرحلة تقنية التأريخ بالكربون المشع، وقام بإزالة ثلاث شظايا من الجزء الخلفي للوحة.

من المعروف بأن النبات -كأي كائن حي- يحتوي على عنصر الكربون 14، وعندما يموت تقل كميته مع الزمن بشكل تدريجي، وتقاس الكمية الباقية من الكربون لتقدير عمر الخشب. وهنا يقول “فيليبو”: من الضروري معرفة أننا نحدد عمر الخشب في تقنية الكربون 14 ولا نحدد عمر الرسم، حيث تتعلق المعلومات التي نجمعها بفترة نمو الشجرة التي يأتي منها الخشب، وقد حددنا تلك الفترة من عام ١٤٧٤ إلى عام ١٥١٧.

تؤكد تلك الدراسة أيضا أن اللوحة تعود لعصر النهضة في نهاية القرن الخامس عشر وحتى مطلع القرن السادس عشر، وهو دليل قوي على أنها رسمت خلال حياة “ليوناردو دافنشي”.

في عام 1481، قام الأغسطينيون في دير “سان دوناتو فيسكوبيتو” بتكليف “دافنشي” برسم لوحة “عشق المجوس”، وهو أول عمل كبير يكلف به، وقد أعطي ثلاثين شهرا لإنجازه، وكان من عادة أصحاب العمل وضع مجموعة من الشروط الصعبة على الفنانين عند تكليفهم بأعمال، وأهمها تحديد الموضوع والمبلغ الذي سيدفع للفنان مع التكلفة وموعد التسليم، وهو الشرط الأهم.

لكن “دافنشي” لم يكمل لوحة المجوس قط، لقد أعيد ترميم تلك اللوحة مؤخرا، وقد ظهرت على شكلها الطبيعي، وقد تميزت بثراء التفاصيل وعمق التركيب ومدى براعة سيد توسكانا الذي يعتبره الكثيرون أكثر الرسامين تفوّقا على مر العصور، لقد أعطى “دافنشي” كل شخصية تأثيرات حركية، ووضع العذراء والطفل في نقطة الوسط لافتا تركيز المشاهد إليهما.

على ظهر اللوحة، لقد ظهرت كلمات لاتينية وهي (بنكست ميا) بمعنى (أنا الشخص)

 

“أنا هو”.. رسالة غامضة على ظهر اللوحة

عاد “نيكولاس بارباتيلي” إلى المرمم في ساليرنو الذي اكتشف أمرا جديدا على ظهر اللوحة، لقد ظهرت كلمات لاتينية وهي “بينكست ميا” (PINXIT MEA) كتبت الكلمات من اليمين إلى اليسار، وهي تدل على أن كاتبها يستخدم يده اليسرى وهي طريقة عرف بها “ليوناردو دافنشي” الذي دون أفكاره وتجاربه في مجالات متنوعة كعلم التشريح والمياه والهندسة المعمارية وعلم من النبات، وذلك في آلاف الصفحات المكتوبة بشكل منهجي ومعكوس في دفاتر مذكراته ومخطوطاته.

يذهب الفنان “بيتر هوهنسات” -وهو خبير بكل ما يخص “ليوناردو”- إلى المكتبة في فينشي مسقط رأس “ليوناردو”، ويطلع على النسخ المطابقة لمخطوطات سيد توسكان. يقول: إن (PINXIT MEA) نص لاتيني لا يعتبر صحيحا مئة بالمئة، وقد يقرأ بكل سهولة، أما (ميا) فهي تعني نفسي، وأما (بنكست) فتعني رسم نفسي، وقد تعني أنا هو الشخص الذي يتحدث، أو أنا الشخص في اللوحة، لكن ترجمة اللاتينية لا تدعمها تماما.

لقد كتب “دافنشي” باللهجة التوسكانية طوال حياته، وهو ابن غير شرعي لكاتب عدل في “فلورانتين”، ولم يستطع الالتحاق بالجامعة فتعلم اللاتينية بنفسه، لكن ذلك قد يفسر أن معرفته المحدودة باللاتينية أعطت الصيغة النحوية الغريبة لعبارة (PINXIT MEA).

للتأكد من خط اليد، ذهب “نيكولاس بارباتيلي” إلى مونتيفورتيه أربينو ليقابل “سيلفانا يوليانو” وهي خبيرة في التحليل الجنائي للكتابة اليدوية. إن تحليل خط اليد يعتمد على مقارنة عينات في كتابات مختلفة، وتعمل “سيلفانا” كبروفيسورة بتاريخ الفن، وهي اليوم منكبة على دراسة مخطوطة “أتلنتيكوس” التي تحوي أكثر من ألف صفحة من ملاحظات دافنشي.

تقول “سيلفانا”: لقد توصلنا إلى خصائص وتفاصيل دقيقة من حروف محددة، بعد ذلك جرى تقييمها ومقارنتها بعبارة (PINXIT MEA) التي استنسخت نفس الخصائص، وهذا يدعم أن هذه الكتابة تعود إلى “دافنشي”.

موقع البؤبؤين في اللوحة متباعدان، العين اليمنى تنظر للأمام بشكل مستقيم بينما العين اليسرى تزيغ قليلا بالنظر

 

“القديسة آن والعذراء والطفل”.. لوحة العودة إلى الوطن

رُسم بورتريه “لوكان” في عام 1500 ميلادية، وقد اضطر “دافنشي” وقتها إلى مغادرة ميلانو بسبب الحرب، فقد غزا ملك فرنسا لويس الثاني عشر مدينة لومبارد وأسقط حاكمها، وعاد “دافنشي” إلى توسكانا التي غادرها منذ عشرين عاما وقد تغيرت كثيرا، وفي ذلك الوقت كان في الخمسين من عمره.

لم يعد “آل ميديتشي” في السلطة وقتها، وتوجب عليه البدء من جديد، وحدث أن تنازل له صديقه القديم “فيلبينو ليبي” عن مهمة أوكلت له، وهي لوحة القديسة آن العذراء والطفل، وقد ساعده هذا العمل على الوقوف على قدميه من جديد لدعم سمعته وتوفير دعم مادي.

على الرغم من أن “دافنشي” لم يكمل عدة لوحات من لوحاته، فإنه عمل طوال حياته على لوحة القديسة آن والعذراء والطفل، هناك في اللوفر رسمان حبريان لها ولوحة ورسم فحم محسن بالأبيض.

لقد انبهر الرهبان في الرسم الأول للوحة وعرضوه على الناس، وهرع كل أهالي فلورنسا لرؤيته في دير سيرفايد، وجاءوا للاستمتاع بتلك اللوحة، فالرسم عملية فكرية قبل كل شيء، وهي تغذي كل العلوم، وهو نشاط عقلي كما قال “دافنشي”، ويضيف: تكمن وراء الرشاقة والإتقان في رسم الشخصيات والمناظر الطبيعية المبهمة كمية من المعرفة والعمليات الفكرية التي جرى تحصيلها قبل البدء في الرسم.

كانت مهمته رسم الحقيقة لتقريب نظرته إلى العالم من خلال الوجوه والأجسام التي رسمها، إضافة للبحث الذي أجراه في علم التشريح، لتبدو اللوحات أكثر واقعية، وكأنها رسمت في لحظة طبيعية من خلال نظرة او ابتسامة تجعل اللوحة نابضة بالحياة بشكل يفوق التصور.

السؤال المطروح هنا، هل يوجد في بورتريه “لوكان” هذه الخصيصة التي تجلت في لوحة الموناليزا؟

لا شك أن الاهتمام الشديد بالتفاصيل الذي أولاه الفنان في لوحة “لوكان” كان مبهرا، فقد أظهر عضلات الفك مع اعوجاج طفيف في الخد، وتجعدات اللحية والشعر المرسوم بعناية فائقة، لقد كانت طريقة رسم الشعر علامة الجودة الدالة عليه، والملفت في تلك اللوحة سحر النظرة التي تظهر كأنها تراقبك أينما حللت، وهي تذكر بلوحة الموناليزا، ويبقى التساؤل المطروح: إن كانت هذه اللوحة لـ”دافنشي” فهل تكون بورتريه ذاتي له؟

أظهر دافنشي في لوحته عضلات الفك مع اعوجاج طفيف في الخد، وتجعدات اللحية والشعر المرسوم بعناية فائقة

 

ذو اللحية الوسيم.. 5 قرون من الجدل حول وصف “دافنشي”

منذ خمسة قرون كان شكل “دافنشي” موضوعا للجدل، لقد ولد في قرية فينشي الذي أعطته اسمها، وترك معاصروه أوصافا قليلة له من قبل “باولو جيوفيو” و”جورجيو فساري”.

يقول “روس كينغ”: “الوصف الوحيد المكتوب لـ”ليوناردو” جاء من أشخاص لم يلتقوا به وكتبوه بعد عقود من وفاته، وقد اتفقوا بالإجماع على مدى وسامته وشعره الطويل ولحيته المجعدة الجميلة وأناقته المدهشة”.

وتمثل لوحة بالطبشور الأحمر الفنان بملامح رجل عجوز، وقد كان ينظر للوحة حتى وقت قريب على أنها بورتريه لـ”ليوناردو دافنشي”، لكن العلماء اكتشفوا أن تلك اللوحة تعود للعام 1480، وقد كان حينها في عقده الرابع، وهذا مدعاة للشك بهوية هذا الرجل العجوز.

هناك أيضا لوحة “وينسر” التي رسمها “جيوفاني فرانشيسكو ملزي” عام 1515، وهي صورة لـ”دافنشي” لم يطعن فيها.

وقد بالغ المؤرخون في نسب بعض الشخصيات في لوحاته أنها صور ذاتيه له كلوحة الرجل “ألفيتروفي” أو شخصية الشاب في لوحة “عشق المجوس”، وفي الآونة الأخيرة عثر على لوحة بورتريه يعتقد أنها تعود له في مخطوطته عن الطيور.

تصميم ثلاثي الأبعاد لوجه دافينشي

 

زواج الفن بالعلم الحديث.. رحلة إلى إسبانيا

للتعرف على وجه “ليوناردو” الحقيقي ومدى مطابقته مع بورتريه “لوكان” قرر “نيكولاس بارباتيلي” السفر إلى إسبانيا، هناك أجريت دراسة بالتعاون مع الباحث “كريستيان غالفر” الذي ألف دراسة عن تطور التمثيلات التصويرية لوجه “دافنشي”، وقد توصل مع مجموعة من المتخصصين في “علم النفس المورفولوجي” التابعة للحرس المدني، وهي وحدة عمليات مركزية متخصصة في التعرف على الوجوه.

قرر هؤلاء الخبراء تطبيق هذا العلم على الفن، وتحديدا على وجه “لوكان” وعلى بورتريه “ملزي” والبورتريه المزعوم في تورينو. يقول “كريستيان غالفر”: الرجل في صورة “وينسر” وفي صورة “لوكان” هما الشخص نفسه، الشيء الوحيد الذي لا يتزامن مع هذه الصور هو البورتريه المزعوم من تورينو.

في جامعة “تالين” تقرر إعادة بناء رسم ثلاثي الأبعاد لـ”دافنشي”، وذلك بالاستعانة بلوحة “لوكان” ولوحة “وينسر”، سيتشارك في هذا البحث “جيان غليني” مستشار متحف لوكان، ومدير قسم تاريخ الفن البروفيسور “أوريست كورماشوف” الذي سيقوم ببناء ثلاثي الأبعاد بطريقة كلاسيكية عن طريق النحت، وستقوم المصممة “هيلين كوك” بإعادة بناء ثلاثي الأبعاد عن طريق استخدام أحدث التقنيات الرقمية على الكمبيوتر.

لقد قام “أوريست” بصنع تمثال لوجه “دافنشي” وقامت “هيلين” بوضع تصميم ثلاثي الأبعاد، وكان الثلاثة متحمسين لرؤية وجه “دافنشي” بصورة أكثر واقعية من خلال الرسم ثلاثي الأبعاد على جهاز الكمبيوتر، وكان أول شيء فعلوه هو وضع وجه “ليوناردو” باللوحة على التصميم، لكنهم أصيبوا بخيبة الأمل لأن الصور لم تتطابق بشكل مثالي لذا ظنوا أنهم وقعوا في خطأ ما.

لو نظرنا إلى موقع البؤبؤين في اللوحة لوجدناهما يتباعدان، فالعين اليمنى تنظر للأمام بشكل مستقيم بينما العين اليسرى تزيغ قليلا بالنظر، كان البؤبؤان ينظران باتجاهين مختلفين. يقول “جيان غليني”: هي ميزة صارخة في اللوحة وموجودة أيضا في لوحة القديس يوحنا المعمدان بشكل أقل وضوحا، وموجودة في لوحة الموناليزيا، ومن الممكن رؤيتها في لوحة “لوكان”، هذه النظرة غير المتماثلة تثبت أن “دافنشي” هو من رسم صورة “لوكان”.

لكن ما هو تفسير الانحراف في العينين؟

بصمة إبهام اليد اليسرى لدافينشي هي المعلومة البيولوجية الأولى التي حصل عليها العلماء لهذا المعلم الفنان

 

بصمة اليد.. أصابع “ليوناردو” التي نسيها بين أوراقه

يقول “بيتر هوهنسات”: كان الناس ينظرون بكلتا العينين إلى الأشياء، لقد خلقت لـ”دافنشي” مشكلة حقيقية لأنه يحاكي الحقيقة، وكأنما نظر إلى الأشياء بكلتا العينين.

كان تحديا كبيرا له لأن إدراك الواقع بأبعاد ثلاثة يحتاج إلى العينين معا وهي عملية دمج صورتين في دماغنا، هذا الدمج يخلق إدراكا أعمق.

من خلال التجربة اكتشف “دافنشي” طريقة لتمثيل الرؤية بالعينين معا في اللوحة، فقد أخذ كرة ورسم النصف الذي شاهدته عين واحدة، وفعل الشيء نفسه للنصف الآخر من العين الثانية، وأدرك أن هذا يخلق تصورا مكانيا لموضوع اللوحة، مما يجعل كل نصف يبرز الآخر، وهذا ما تمثل في لوحة “لوكان”، وهذا يفسر أنه لا يمكن أبدا أن تتطابق اللوحة مع ما رسم في الكمبيوتر.

يقول “بيتر هوهنسات”: ربما تكون صورة “لوكان” مزيجا من وجهتي النظر، بحيث يكون الأنف والفم موجهين على محور 40 درجة ورسما بالعين اليمنى، بينما رسمت العينان وبقية الوجه على محور 22.5 وقد رسما بالعين اليسرى، وهذا ما يفسر المحاور المختلفة في الوجه.

ما فعله “دافنشي” في لوحة الموناليزا وفي لوحة “لوكان” أنه استدار قليلا حول الرأس، وخبأ خط الأنف أحد أكثر الأجزاء أهمية التي يتعين محوها، وبذلك استخدم تقنية “سفوماتو”، وهو أول من استخدمها، وتعتمد على رؤية العينين معا.

يختبئ كثير من الفن والعلم وراء بورتريه “لوكان” الذي يضفي تعقيدا على اللوحة، ولطالما اعتبر “دافنشي” الرسم فنا يساعد على فهم العالم بشكل أعمق، وقد تجلت عبقريته في فهم العلوم وتطبيقها ببراعة في لوحاته.

في كييتي الإيطالية أُجري فحص نهائي على اللوحة، وهو الكشف عن البصمة لـ”ليوناردو دافنشي” وقد عهد بالبحث عن البصمات الرقمية إلى البروفيسور “لويجي كاباسو” مدير جمعية علوم الإنسان في جامعة كييتي الذي سبق له التعاون مع الشرطة واللواء العلمي.

يقول “لويجي كاباسو”: لم يترك “دافنشي” وراءه أثرا يدل عليه، لكن ما هي الإمكانيات المتاحة لنا نحن العلماء استناد لعلم إحياء الحفريات عن هذه الشخصية الإيطالية الفذة؟

إن الخيار الوحيد هو البحث عن آثار بيولوجية على المواد التي لمسها، لذا فإن فكرة البحث عن بصمات الأصابع هي الخيار الواضح، وقد جرى التعرف على مئتي أثر لبصماته مأخوذة عن مئات الآلاف من أجزاء الصفحات التي وجدت في معمله، وقد عثر على بصمة على لوحة السيدة والقاقم (حيوان من جنس ابن عرس).

كانت هذه هي الطريقة التي استطاع بها الخبراء إيجاد بصمة إبهام اليد اليسرى لدافنشي، وكانت هذه المعلومة البيولوجية الأولى التي حصلوا عليها لهذا الفنان العظيم، وبعد ذلك قررت الشرطة إيجاد بصمة على لوحة “لوكان” والتقطت صور مكبرة لسطح اللوحة كاملة، وفيها عثر على ثلاثة أجزاء من بصمات الأصابع، اثنان على سطح اللوحة وآخر على القاعدة الخشبية.

ركز الفريق على البصمة الموجودة بالقرب من الريشة على القبعة وجرت مقارنتها مع الجزء الذي أعيد بناؤه من البصمة. يقول “لويجي”: سلطت هذه المقارنة الضوء على ثلاثة تفاصيل استنتاجية، وكانت البصمات متوافقة جزئيا من الناحية التقنية.

لقد وضعت تلك البصمة على اللوحة قبل أن يجف الطلاء لأن الأثر كان غائرا ويدل ذلك على أن الطلاء كان رطبا، وهي إيماءة تدل على أسلوب “ليوناردو” في صناعة الظلال بأصابعه، ومن غير سيد توسكانا يستطيع وضع إبهامه على اللوحة؟

بعد رحلة حول أوروبا أعيدت اللوحة لـ”نيكولاس بارباتيلي” ووضعت في متحف “لوكان”، وفي عام 2009 استقبل “بارباتيلي” البروفيسور “كارلو بدريتي” وهو أحد أبرز المتخصصين في أعمال “دافنشي”. يقول “كارلو”: لقد كنت متحفظا وحذرا للغاية، لكني متفائل جدا بقدرة الأعمال الفنية على سرد قصتها، وهذه اللوحة تنطق بقصتها، أشعر بوجود شيء ما هنا ولا بد من الاستمرار في الدراسة.

بعد المرحلة النهائية من الترميم ظهرت صورة البورتريه بحالتها الأصلية بدون الريشة البيضاء والورنيش. يقول نيكولاس: إن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام كان اكتشاف لون البشرة وأسلوب “السفوماتو” والتأثيرات الضوئية المذهلة.

ملك فرنسا الشاب “فرانسيس الأول” يدعو دافنشي للعيش بقية حياته في قصر “كلولوسي”

 

قصر كلولوسي.. آخر ليالي “دافنشي” في ضيافة ملك فرنسا

في سنوات عمره الـ15 الأخيرة ظل “دافنشي” في سفر مستمر باحثا عن زبون راع، وفي عام 1516 انطلق في رحلته الأخيرة وهو ابن 64 عبر جبال الألب حاملا أغلى ممتلكاته؛ دفاتر ملاحظاته وثلاث لوحات هي لوحة الموناليزا ولوحة القديسة آن والعذراء والطفل ولوحة يوحنا المعمدان، وقد دعاه ملك فرنسا الشاب “فرانسيس الأول” للعيش في أمبواز، حيث أمضى “دافنشي” سنوات عمره الثلاثة الأخيرة في قصر كلولوسي الذي يبعد 500 متر فقط عن قصر الملك بصحبة رفيقه الأمين “جيوفاني فرانشيسكو ميلزي”.

يقول المسؤول في قصر كلولوسي “فرانسوا بري”: نشأت علاقة مدهشة بين الملك الشاب البالغ من العمر 22 عاما وبين “دافنشي”، فقد اعتبره باحثا وعالما عظيما وفنانا ومعلما، وعلى عكس ما يُعتقد فقد بقي “ليوناردو” نشيطا، وعمل على مشاريعه الخاصة بالإضافة للمهام الملكية”.

خلال سنوات عمره الأخيرة طلب من “جيوفاني” أن يساعده في تنظيم دفاتر ملاحظاته، فقد كان ينوي كتابة عدة أطروحات حول موضوعات مختلفة، لكنه لم يحظ بفرصة لتحقيق أمنياته. يقول “روس”: “من المحزن للغاية التفكير في ربيع عام 1519، فقد كان “ليوناردو” يحتضر، وأحزنه ظنه أن ما فعله سيضيع ولن يلاحظه أحد وينتهي إلى الأبد. وكان من آخر الأشياء التي كتبها قوله: “أخبرني إن كنت قد حققت شيئا قط”.

توفي هذا الفنان العظيم في الثاني من مايو/أيار عام 1519، وقد أراد لجثمانه أن يحمل من قبل ثلاثين متسولا يحملون مشاعل يصلون به إلى كنيسة سانت فلورنتين أو كنيسة أمبواز الملكية هناك حيث دفن.

يا لها من قصة مثيرة للوحة قرر فيها “ليوناردو” أن يعود بعد 500 عام من وفاته، قرر الخروج من بين الظلال، إنها لوحة “لوكان” التي أظهرت لنا وجه “ليوناردو دافنشي” الحقيقي، بعد أن بقي لغزا محيرا لعدة قرون، ليزيل هذا الاكتشاف المذهل اللثام عن أعظم أسرار تاريخ الفن، ويكشف لنا بعض سحر أسرار ريشة سيد “لوسكانا”.