مئوية الأردن.. ذكرى الثورة العربية الكبرى

خاص-الوثائقية

تحل في أبريل/نيسان 2021 الذكرى المئوية لتأسيس الدولة الأردنية، وعلاوة على بعدها الوطني الداخلي، تعتبر هذه المناسبة فرصة لاستعادة قصة الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف الحسين بن علي، وكان من بين نتائجها تأسيس إمارة، ثم مملكة الأردن.

تكاد قصة هذه الدولة العربية تلخّص قصة ما وقع مع أمة بكاملها خلال قرن مضى، فمن حلم الانعتاق من تحت سياسات التتريك القاسية التي نهجها العثمانيون في خريف إمبراطورتيهم، وطيّ صفحة أربعة قرون من مسرح الحضارة، إلى خيبة التقسيم والاستعمار وزرع كيان صهيوني في القلب الفلسطيني للمنطقة العربية. وحدها المملكة الأردنية بقيت كشاهد على كل تلك الأحداث، باعتبارها قسما صغيرا من حلم وحدة عربية شاملة لم تتحقّق.

 

ثورة مكة المكرمة.. يوم انقلب الشريف الحسين على إسطنبول

تنحدر الملكية القائمة في الأردن على مدى القرن الأخير، من سلالة قائد الثورة العربية الكبرى لبداية القرن العشرين، فقد كان اسم الشريف الحسين بن علي قد برز في تسعينيات القرن الـ19، حين جهر بمعارضته لسياسة الشريف عون بن محمد المكلف من طرف العثمانيين بحكم الحجاز، لما أنتجته تلك السياسة من كثرة المظالم وتفشي الفقر، وهو ما أدى إلى تعيينه عضوا في “شورى الدولة” كحيلة لإبعاده عن المنطقة، وقد استمر ذلك الوضع 16 سنة عاشها الشريف وأسرته في إسطنبول[1].

ويروي فيلم “الجريمة السياسية، اغتيال الملك عبد الله الأول” الذي أنتجته قناة “الجزيرة”، أنه في نهايات القرن الـ19 بعث السلطان عبد الحميد طالبا حضور الشريف حسين إلى إسطنبول، في نوع من التحييد من ساحة التنافس السياسي، وبعد نجاح القوميين الأتراك في الانقلاب على الحكم في عاصمة الخلافة العثمانية جرى تعيين الشريف حسين أميرا على الحجاز، وذلك عام 1908[2].

لقد أدت سياسة التتريك التي نهجها أعضاء “الاتحاد والترقي” الذين سيطروا على مقاليد الحكم في إسطنبول إلى نتائج عكسية، حيث ظهرت عدة جمعيات وأحزاب تدافع عن قضايا العرب وحقوقهم، منها جمعية “العربية الفتاة” كمقابل لجمعية “تركيا الفتاة”.

في هذا السياق عاد الشريف حسين إلى الحجاز إثر تعيينه أميرا على مكة، لكنه -بدلا من أن يكون خادما لسياسات القوميين الأتراك- تحوّل إلى حليف للثوار العرب الناقمين على سياسة التتريك، وكم كانت دهشة “الاتحاديين” كبيرة حين انطلقت شرارة الثورة من مكة على يد الشريف حسين في يونيو/حزيران 1916، حين أطل من نافذة قصره وصوّب بندقيته نحو الثكنة التركية، في إشارة واضحة للانتفاضة الشاملة[3].

لم يحل شهر سبتمبر/أيلول 1916 حتى سيطر الثوار العرب على مكة وجدة وبلغوا الطائف، وزحف الأمير عبد الله بن الحسين على المدينة المنورة على رأس جيش كبير، متمكنا من تحييد خطرها الذي كان يهدد مكة المكرمة، وفي مقابل تقهقر الجيش العثماني أمام الثوار العرب، كانت سفن حربية بريطانية تدعم زحفهم من البحر، حيث قاد الأمير فيصل بن الحسين الطريق نحو العقبة ممسكا بقيادة “الجيش الشمالي”[4].

 

“لورنس” عالم الآثار.. دليل العرب نحو الفخ

يروي فيلم “لورنس العرب والثورة العربية الكُبرى” الذي أنتجته “الجزيرة الوثائقية”، كيف شهدت المنطقة العربية قبل أكثر من قرن حربا كان لها دور حاسم في تشكيل الوضع السياسي القائم حاليا، وكان في خلفية هذا المشهد دور بريطاني حاسم، يجسّده رجل بريطاني حارب إلى جانب العرب في معركتهم من أجل “التحرير”، ثم لعب دورا آخر من خلال خيانته لهم، يقال له “لورنس العرب”[5].

كان لورنس يبلغ عشرين عاما عندما وصل إلى منطقة الشرق الأوسط أول مرة بصفته عالم آثار، وقد قضى سنواته الأولى مراقبا المنطقة وهو يعلم أنها مقبلة على الحرب، بينما كان يوظف عمالا عربا لديه للقيام بعمليات التنقيب، وفي الوقت نفسه راح يتعلم منهم اللغة العربية[6].

على أساس وعد كاذب من بريطانيا بمنح العرب دولتهم المستقلة، قام الشريف الحسين بحشد القبائل والإمارات العربية لقتال العثمانيين، لكن سرعان ما أخمدت المدافع العثمانية والطائرات الألمانية تلك الثورة، قبل أن يأتيها لورنس العرب منقذا ويحييها من جديد، مرافقا الأمير الهاشمي فيصل الأول قائد المعارك العربية ضد الأتراك وثالث أبناء شريف مكة.

كان “لورنس” العرب وراء فكرة مهاجمة الثوار العرب للعقبة باعتبارها ميناء استراتيجيا، ويعني سحبه من النفوذ العثماني قطع خط إمدادات حيوي بالنسبة للأتراك، وقد تحقق ذلك عمليا بدخول عودة أبو تاية معترك الثورة العربية، إذ تمكّن من إقناع قبيلة الحويطات بالدخول في الحرب إلى جانب ثورة الشريف الحسين ضد العثمانيين الأتراك، وكان دوره حاسما في السيطرة على العقبة، فكانت انطلاقة جديدة للثورة العربية في اتجاه سوريا والعراق.[7]

ففي أكتوبر/تشرين الأول 1917 ركز “لورنس” العرب وبقية الثوار على خط سكك الحديد الحجاز، بهدف قطع طريق الإمداد الباقي لدى العثمانيين الأتراك، الذي كان الطريق الأسرع إلى الحجاز، وذلك نهج تسبب في خسارات كبيرة للجيش التركي، ومن بعده خسارة للعرب لهذا الخط الحديدي، خاصة مع حصول العرب على أسلحة أكثر تطورا من السابق عن طريق الدعم البريطاني، بينما كان ميناء العقبة نقطة تدفق الإمدادات إلى الجيش العربي وقوات الحلفاء المشاركة في الحرب العالمية ضد الألمان وحلفائهم العثمانيين[8].

وفي العام 1918 وصل الأمير فيصل إلى دمشق بعد انتصار القوات العربية مدعومة من البريطانيين، واستقبل فيها استقبالا كبيرا، إذ كان قد تحول إلى رمز للنضال والحرية، واستفادت هذه الثورة من انضمام عدد كبير من الضباط العرب في الجيش العثماني، خاصة الضباط العراقيين[9].

لم يدم فرح العرب بتحرير العقبة كثيرا، بل سرعان ما أدى نجاح الثورة البلشفية في روسيا إلى كشف أسرار كبرى بإثر نجاح الثورة العربية، أبرزها اتفاق “سايكس-بيكو” الفرنسي البريطاني القاضي باقتسام المنطقة العربية وجعل فلسطين منطقة دولية، وهو ما سيتحول إلى مشروع دولة صهيونية بناء على وعد بلفور، مما أدى إلى تصدّع العلاقة العربية البريطانية، قبل أن تعود الطمأنة الغربية لتعيد إلى العرب ثقتهم السابقة، ليواصلوا الزحف إلى غاية دخولهم دمشق في متم سبتمبر/أيلول 1918[10].

 

إمارة الشرق العربي.. تاج ملكي تحت ظلال طيران الغزاة

جرى ترسيم الاتفاق البريطاني الفرنسي حول اقتسام غنيمة المنطقة العربية في اتفاقية فرساي التي عقدها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى. ففي مؤتمر الصلح الذي أعده الحلفاء في العاصمة الفرنسية باريس، كان الأمير فيصل -الذي تمكن من الالتحاق بمكان انعقاده- ممثلا لوالده “ملك العرب”، مقتنعا بأن الوعود التي كانت تقدم لوالده خلال الحرب لن تنفذ، خاصة عندما أُقحم مشروع الدولة اليهودية في بنود الانتداب الذي سيفرض على المنطقة العربية.

وبعد محاولة الثوار العرب تحدي هذا القرار الاستعماري فرضت فرنسا سيطرتها على سوريا تحت تهديد القصف الجوي، فوجد الأمير فيصل نفسه مطالبا بمغادرة دمشق، من خلال حمله على التوجه إلى محطة القطار ليسافر نحو منفاه كأي شخص عادي، ورغم طعم الخيانة المر الذي شعر به العرب تجاه بريطانيا، فإنها -مستفيدة من معرفتها الدقيقة بالمنطقة العربية ومن خبرة “لورنس” العرب الذي عيّن مستشارا لوزير المستعمرات “وينستون تشرشل”- عملت على تنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق، والأمير عبد الله ملكا على الأردن.

سارعت وقتها عشائر شرق الأردن إلى عقد مؤتمر في أم قيس قررت فيه تشكيل حكومة وطنية مستقلة، وطلبوا من الملك حسين تعيين ابنه عبد الله قائدا لهم، فتأسست إمارة شرق الأردن في مارس/آذار 1921، وكانت الدولة الجديدة تحمل وقتها اسم الشرق العربي، تعبيرا من مؤسسيها عن استمرار الحلم بتوحيد العرب في دولة مستقلة[11].

يعتبر الأردن إذن امتدادا للثورة العربية الكبرى وتجسيدا لحلم توحيد وتحرير العرب، ورغم أن لم يكن هناك وجود لأي دولة أردنية وجود قبل تلك المرحلة، فإن إحدى أولى تحركات الثورة في الأردن عام 1910، حين هبّت عشائر الكرك وبني حميدة والكعابنة والسلايطة، وحاصروا قلعة الكرك حيث تحصنت القوات العثمانية، وامتدت الثورة إلى معان والعقبة ومشارف البلقاء، لكن العثمانيين أخمدوا هذا التحرك وتمكنوا من القضاء عليه[12].

في زيارته للقدس وتحت نظر حفيده الأمير حسين بن طلال اغتيل الملك عبد الله الأول

 

ميلاد المملكة.. اغتيال الملك الذي خلع عباءة الانتداب

عاشت الإمارة الأردنية الجديدة تحت الانتداب البريطاني كما شاءت لها اتفاقية سايكس بيكو، واتخذ هذا الانتداب شكل معاهدة وقعت بين بريطانيا والإمارة جرى توقيعها رسميا عام 1928، ورغم ما تنطوي عليه هذه المعاهدة من وصاية، فإن الدارسين يفسّرون قبول الملك عبد الله بها بوضع إقليمي وداخلي، يتمثل في سقوط الحكم الهاشمي في سوريا التي احتلتها فرنسا والحجاز الذي ضمّه آل سعود، وبالتالي كانت هذه المعاهدة بمثابة تثبيت لاستقرار الحكم، مع احتفاظ الأمير بصلاحيات تشريعية وتنفيذية، مقابل تنازله للبريطانيين عن شؤون الأمن والسياسة الخارجية[13].

استمر هذا الوضع حتى مايو/أيار 1946 حين نالت الإمارة استقلالها الكامل لتصبح المملكة الأردنية الهاشمية، وبويع مؤسسها الملك عبد الله ملكا دستوريا، وبقي اسمها منذ ذلك اليوم يحمل اسم الجيش العربي، إلا أن أولى سنوات المملكة المستقلة شهدت صدمة اغتيال ملك الدولة ومؤسسها في مكان له دلالة استثنائية.

فقد اغتيل الملك عبد الله بن الحسين في 20 تموز/يونيو 1951، يوم انطلق الموكب الملكي إلى القدس، وفي ساحة المسجد الأقصى تقدم شاب فلسطيني نحوه وأطلق عليه رصاصات أنهت حياته. ويروي فيلم “الملك حسين بن طلال” في جزئه الأول، كيف جاء الاغتيال نتيجة شبه حتمية للشحن المتصاعد ضد مواقفه من الجانب الفلسطيني، فقد كان هناك من يرى أنه لم يقدم ما يكفي في سبيل القضية الفلسطينية، خاصة عندما قام بضم الضفة الغربية والقدس إلى مملكته في أعقاب حرب 1948[14].

كانت لدى الفلسطينيين خلفية عن الدور الأردني، ودور الأسرة الملكية تحديدا في قضيتهم، ومفادها أنهم يقيمون علاقات جيدة مع الصهاينة، خاصة أن عددا من زعماء الحركة الصهيونية زاروا الأردن، وبالتالي لم يكن مستغربا أن تحدث تعبئة ذهنية ضد الملك، وأنتجت هذه التعبئة في النهاية أشخاصا قاموا بعملية الاغتيال أمام أعين الأمير حسين بن طلال المتمتع وقتها بعلاقة وثيقة بجده الملك، رغم أن سنه لم يكن قد جاوز 15 عاما.

أذاقت حادثة الاغتيال الأمير حسين بن طلال أول طعم مر للسياسة والحكم. يقول متحدثا عن ذلك في مقابلة إذاعية عام 1992: من أصعب المواقف التي جابهتها في بدايات هذه الرحلة وقوفي إلى جانب الجد المؤسس على بوابة المسجد الأقصى المبارك، في تلك اللحظات التي تغير فيها كل شيء بالنسبة إلي[15].

الحسين بن طلال ملكا للأردن في عام 1952

 

“حضرة صاحب الجلالة”.. رسالة إلى جنيف تنصب الملك الجديد

كان ولي العهد لحظة اغتيال الملك المؤسس هو الأمير طلال النجل الأكبر للملك، وبموجب الدستور الأردني فإن العرش يجب أن يؤول إليه، إلا أن الأمور لم تكن بهده البساطة، ففي ذلك الوقت كان الأمير طلال يتلقى العلاج خارج البلاد، وتشير الكثير من المصادر إلى أنه كان يعاني من مرض نفسي يتطلب العلاج، حتى أن الصحف الأردنية كانت تتعامل مع ذلك الخبر على صفحاتها.

توجهت الأنظار نحو الابن الثاني للملك، الأمير نايف بن عبد الله، فبرز الخلاف حول ما إن كان يتوجب تعيين الأمير نايف نائبا للملك، أم لا بد من انتظار عودة ولي العهد الغائب، فتقرر إرسال وفد طبي للتأكد من قدرة الأمير طلال على العودة وتولي الحكم، ليعين الأمير نايف وصيا على العرش، وهو ما لم يرق لبعض الأطراف، خاصة منها بريطانيا المحتفظة بنفوذ خاص داخل الأردن، فتقرر في النهاية جعل الأمير طلال ملكا مؤقتا للحفاظ على العرش، في انتظار بلوغ ابنه الأمير حسين السن التي تسمح له بتولي هذه المهمة السياسية[16].

في 6 أيلول/سبتمبر 1951 وصل الأمير طلال إلى عمان، وعلى الفور توجه إلى مبنى البرلمان لأداء اليمين الدستورية، وغدا ملكا وابنه حسين وليا للعهد، ليلتحق على الفور ببريطانيا لاستكمال دراسته، ولم يدم والده في الحكم سوى عاما واحدا، إذ لم تسعفه حالته الصحية، فنابت عنه هيئة عينها البرلمان لممارسة صلاحياته.

وفي 12 من آب/أغسطس 1952 كان الأمير حسين يقضي إجازته الصيفية في جنيف رفقة والدته وإخوته، ولم يكن يعلم ماذا يحدث في الأردن، إلى أن تلقى مغلفا يخاطبه بصفة “حضرة صاحب الجلالة، الملك حسين بن طلال..”، وكان عبارة عن رسالة من رئيس الوزراء تخبره أن والده قد تنازل عن العرش، وأنه أصبح ملكا للأردن[17].

ونظرا لسنه الصغير التحق الملك حسين ببريطانيا مجددا لإتمام تعليمه، بينما عيّن مجلس للوصاية على العرش في انتظار بلوغه 18 عاما، وقد ورث الملك حسين بدءا من العام 1953 أردن الضفتين في ظروف يسودها الشك والغموض، حيث تستمر الهيمنة البريطانية على البلاد بناء على المعاهدة التي أبرمها جده معهم، ناهيك عن التحديات الداخلية وآثار حرب 1948، وسقوط الملكية في مصر قبل توليه العرش بعام واحد.

الملك حسين يعزل غلوب باشا القائد الأعلى للقوات المسلحة الأردنية ويعرب الجيش

 

تحرير الجيش الأردني.. ضربة الملك حسين الأولى

واجه الملك حسين في شهور حكمه الأولى تحديات خطيرة، بسبب الهجمات الدموية التي كانت إسرائيل تقوم بها ضد القرى الفلسطينية الخاضعة لحكمه وعجزه عن مواجهتها أو وقفها، مما أثار ضده احتجاجات كبيرة في الضفة الشرقية والغربية لنهر الأردن، وقد ظل الهجوم الإسرائيلي على قرية قبية جرحا رافق الملك حسين إلى آخر أيام حياته، نظرا للوحشية التي اتسم بها الفتك الإسرائيلي بالمدنيين وعجز الأردن عن التدخل، خاصة أن جيشها كان تحت قيادة شخصية بريطانية، بناء على الاتفاق المبرم بين الأردن ومستعمرها السابق[18].

اتخذ الغضب الشعبي في الأردن شكل أحزاب سياسية معارضة واجهتها السلطات بعنف كبير، خاصة في السنوات العشر الأولى من حكم الملك حسين، وبعد مبادرة الولايات المتحدة الأمريكية إلى إطلاق مشروع “حلف بغداد” لمواجهة المد الشيوعي في المنطقة، شكّل ذلك نقطة جذب وإغراء للنظام الأردني، لما يوفره هدا الحلف من دعم، لكن الانضمام إلى ذلك المشروع أثار احتجاجات شعبية متصاعدة انتهت بوقف محاولة الانضمام هذه.

وتحت ضغط المعارضة المتصاعدة وتسرب فكرة الضباط الأحرار إلى داخل الجيش الأردني، دبّر الملك خطة لطرد “كلوب باشا” القائد البريطاني للجيش الأردني، وقد فضّل الملك التنسيق مع هؤلاء الضباط بدلا من محاربتهم، وفي مارس/آذار 1956 انطلقت قوات عسكرية لتطويق منزل القائد البريطاني في عمان، وقطعت عنه الاتصالات، ثم انطلق الملك نحو رئاسة الوزراء وأمر بإبلاغ “كلوب” بقرار عزله وحمله على مغادرة الأردن فورا[19].

كانت الهوة بين كلوب باشا والملك حسين قد اتسعت، خاصة عندما وضع القائد البريطاني قائمة بأسماء ضباط أردنيين لتسريحهم، مما أغضب الملك الذي رفض القائمة وعقد بعدها اجتماعا سريا مع نخبة من الضباط الأردنيين الذين أعلنوا عن استعدادهم لقيادة الجيش، فقرر الملك في نفس الليلة من شهر شباط/فبراير 1956، التخلص من “كلوب باشا” ووضع خطة لذلك[20].

الشيوعيون يفوزون بأول انتخابات برلمانية في تاريخ الأردن

 

أحزاب اليسار.. أول حكومة معارضة في تاريخ الأردن

كان القرار الثاني الذي اتخذه الملك حسين سنة 1956 بعد طرد القائد البريطاني للجيش، هو إجراء انتخابات نزيهة جرت في تشرين الأول/أكتوبر، وكما كان متوقعا فازت الأحزاب اليسارية المعارضة، وشكّلت أول حكومة معارضة في تاريخ المملكة، فلم تتردد في منافسة الملك والحد من صلاحياته، لكن هذه التجربة القصيرة سوف تنتهي بحظر الأحزاب السياسية وفرض الأحكام العرفية وتوقف العمل بالقوانين[21].

ورغم محاولة الملك حسين الرد على قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، بعقد اتحاد مع الملكية الهاشمية القائمة في العراق، فإن الانقلاب العسكري لعبد الكريم قاسم سرعان ما ألحق الجار العربي الأقرب إليه بركب الجمهوريات في تموز/يوليو 1958.

استمر الرئيس المصري جمال عبد الناصر ككابوس شبه يومي للملك حسين رغم سقوط الجمهورية العربية المتحدة، إلا أن ذلك لم يمنع وضع الملك الأردني على رأس المدعوين لأول قمة عربية دعا إليها عبد الناصر عام 1964، وقد أسفرت عن قرارين هما إقامة قيادة عسكرية عربية موحدة للتعامل مع إسرائيل في حال وقوع أي هجوم، وإنشاء كيان فلسطيني مستقل عن الأردن، وهو ما مسّ سيادة الأردن على الضفة الغربية[22].

 

حرب العرب وإسرائيل.. سياسة إمساك العصا من الوسط

يسرد الجزء الثاني من فيلم “الملك حسين بن طلال” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- ما جرى في بداية الستينيات، حين دخل الملك حسين في اتصالات مباشرة مع الإسرائيليين، فرض السياق الإقليمي حينها حجبها خلف ستار السرية.

فقد أجرى الملك حسين أكثر من أربعين لقاء مع الإسرائيليين على مدى ثلاثين عاما، ثم انتهت بإبرام اتفاق سلام بين البلدين عام 1994، وفي الوقت نفسه كان الملك حسين يبحث عن تموقع جديد إلى جانب جيرانه العرب العازمين على محاربة إسرائيل، حتى إذا ما ربحوا الحرب كان له دور إلى جانبهم[23].

فمع اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية للعام 1967، كان الهجوم الإسرائيلي كاسحا على الجبهة الأردنية، حيث اجتاح الصهاينة الضفة الغربية والقدس، وبعد استشارة الملك حسين الرئيس المصري جمال عبد الناصر نصحه بإخلاء الضفة الغربية والانسحاب إلى شرق نهر الأردن، وكأنما ضرب زلزال المملكة يومها، إذ انقلبت كل الموازين ودفع الملك ثمنا غاليا أوله خسارة جزء كبير من جيشه ونصف أراضيه، وانتهى زمن الضفتين واحتلت القدس في عهده، وبعد ذلك بدأ يزداد التوتر بين الفدائيين الفلسطينيين ونظام الملك حسين تدريجيا، لتبلغ ذروتها عام 1970.

 

معركة الكرامة.. شركاء انتصار الأمس وأعداء اليوم

شهد العامان 1970 و1971 صراعا وتوتّرا داميا في العلاقة بين السلطات الأردنية وبين المنظمات الفلسطينية التي اضطرتها هزيمة العرب سنة 1967 للتراجع إلى شرق نهر الأردن، في انتظار فرصة استجماع الأنفاس العربية واستعادة فلسطين[24].

كانت المواجهات المسلحة بين الجانبين كانت قد أصبحت خبزا يوميا للأردنيين والفلسطينيين، قبل أن يأتي العام 1970 ويأمر الملك حسين جيشه بالدخول في مواجهة شاملة مع المنظمات الفلسطينية، في حرب يكاد يجمع الكل على أنها كانت معركة من أجل البقاء.

وتعود جذور المشكلة بين الأردن والفصائل الفلسطينية إلى النصر الوحيد الذي حققه العرب بعد هزيمة 1967، أي ما يعرف بمعركة الكرامة التي انتصر فيها الجيش الأردني عام 1968، في مواجهة الجيش الاسرائيلي الذي عبر نهر الأردن نحو منطقة الأغوار[25].

فقد حولت تلك المعركة حركة فتح من مجرد مجموعة مسلحة إلى حركة تحرر وطنية سرعان ما انضمت إليها عدة فصائل مسلحة مثل جبهة التحرير الوطني الفلسطينية ومنظمة طلائع الفداء وجبهة ثوار فلسطين، مما أخل بميزان القوى داخل الأردن، وذلك قلق جرى احتواؤه نسبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 1968 من خلال ما يعرف بـ”اتفاقية البنود السبع” التي قضت بإبعاد منظمات المقاومة الفلسطينية عن المدن الأردنية وتقييد حركتها، لكن تلك البنود لم تصمد طويلا أمام جموح بعض الفصائل.

جاءت عملية اختطاف الطائرات المدنية الغربية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لتنقل الخلاف إلى مستوى دولي أفقد الأطراف المحلية سيطرتها على الوضع، ففي 6 سبتمبر/أيلول 1970، قامت الجبهة الشعبية بخطف عدة طائرات، وأجبرت اثنتين منها على الهبوط في مطار “داوسن” في الصحراء الأردنية، وأتبعتها لاحقا بطائرة ثالثة[26].

تحوّل الموقف إلى أزمة دبّرها اللاعبون الكبار بحسابات جيوستراتيجية لا تقيم اعتبارا كبيرا لمصالح الفلسطينيين ولا دول المنطقة العربية. يقول “صمويل هوسكنسون” النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية: وكان الوضع كالآتي: إذا سقط الملك حسين، ستضطر إسرائيل إلى التدخل، ولم تكن لا هي ولا واشنطن راغبتين في ذلك، لأنه سيؤدي إلى ضم مزيد من الأراضي لإقامة منطقة عازلة مع الثوار الفلسطينيين، وهو ما سيخلق حالة من عدم التوازن[27].

توقيع معاهدة وادي عربة في عام 1994

 

“اتفاقية وادي عربة”.. سلام ثنائي مع الفدائي والمحتل

لم يكن هناك من مفر من المواجهة الدامية بين السلطة الأردنية والفصائل الفلسطينية، وهي المواجهة التي انتهت بإخراج الفصائل الفلسطينية من الأردن وانتقالها إلى لبنان، وقد استمر الجفاء إلى بداية الثمانينيات، عندما جرت محاولات عديدة للتنسيق والتقارب بين الملك حسين وياسر عرفات، إلا أنها دائما ما كانت تؤول إلى الفشل.

وفي العام 1988 بناء على طلب من الدول العربية، أعلن الملك حسين تخليه النهائي عن الضفة الغربية، أو ما يعرف بفك الارتباط، وبعد فترة قصيرة كان على الأردن أن يواجه تداعيات حرب الخليج الثانية، في ظل العلاقات الجيدة التي كانت تربط الملك حسين بالرئيس العراقي صدام حسين، وهو ما جعل الملك الأردني في موقع اتهام بالعلم المسبق بنية العراق غزو الكويت[28].

وبعد دخول الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات في مسار التفاوض مع إسرائيل من أجل السلام، تقدم الملك حسين بخطوة إضافية في علاقته بالدولة العبرية، ووقع معها اتفاقية السلام عام 1994، وتعرف باسم “اتفاقية وادي عربة” التي جعلت الأردن ثاني دولة عربية تقيم علاقات رسمية مع دولة إسرائيل بعد مصر في “اتفاقية كامب ديفيد”.

الملك عبد الله الثاني بن الحسين يتسلم مقاليد الحكم في الأردن خلفا لوالده الراحل

 

من الانتفاضة إلى صفقة القرن.. أردن الملك عبد الله الثاني

[29]قبيل وفاته قام الملك حسين بن طلال في شهر فبراير/شباط 1999، بإعفاء أخيه الحسن من ولاية العهد بعد أن ظل الرجل الثاني في هرم السلطة بالمملكة الهاشمية طيلة عقود، واختار العاهل الأردني يومها ابنه عبد الله ابن الملكة منى، في حين عين الأمير حمزة (19 عاما) ابن الملكة نور نائبا لولي العهد، وهي أمريكية من أصل عربي واسمها الأصلي ليزا حلبي.

ورغم الوقع المفاجئ لهذا القرار فإن الملك عبد الله تسلّم الحكم بسلاسة إثر وفاة والده في 7 فبراير/شباط 1999، ليكون في عامه الثاني من الحكم -وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2000- على موعد مع اجتياز المنطقة أحداث الانتفاضة الثانية التي فجّرها اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “أرييل شارون” باحة المسجد الأقصى.

كانت الهزة الثانية التي عاشتها المملكة الأردنية في عهد الملك عبد الله الثاني، مع اندلاع ثورات الربيع العربي نهاية العام 2010، فقد ردّت المملكة الهاشمية على موجة الاحتجاج والغضب الشعبيين بتنفيذ حزمة من الإصلاحات السياسية، ونظمت انتخابات مبكرة، وهو ما مكّنها من تجاوز المرحلة دون خسارة الاستقرار.

وحين جاءت عاصفة التطبيع والضغط من أجل القبول بما يسمى “صفقة القرن” التي حاول فرضها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، كانت المملكة الأردنية الهاشمية ضمن محور الرفض العربي لمحاولة تسويق وعد وهمي جديد من الغرب إلى العرب.

 

المصادر

[1] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[2] https://www.youtube.com/watch?v=FHabSzKnIhg
[3] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[4] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[5] https://www.youtube.com/watch?v=X62_NeU25R8
[6] https://www.youtube.com/watch?v=X62_NeU25R8
[7] https://www.youtube.com/watch?v=X62_NeU25R8
[8] https://www.youtube.com/watch?v=YKRVlsN3DAM
[9] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[10] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[11] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[12] https://www.youtube.com/watch?v=LtbCBEjK2Xg
[13] https://www.taibahu.edu.sa/Pages/AR/DownloadCenter.aspx?SiteId=50a13fdf-fc2d-43ef-a1d5-50bd4a749c1b&FileId=802d44e3-fc8a-4f0a-9c78-df6a86a96433
[14] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s

[15] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s

[16] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[17] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[18] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[19] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[20] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&feature=emb_logo
[21] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[22] https://www.youtube.com/watch?v=R8bS-YuTxvU&t=15s
[23] https://www.youtube.com/watch?v=lo_fuY1TDHs
[24] /تقارير/أيلول-الأسود-ذكرى-جرح-أدمى-وجدان-العرب/
[25] https://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2018/9/13/1426409/48-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%A7-%D9%86%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%87-%D8%B9%D9%86-%D9%81%D8%AA%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%B3%D9%81%D8%A9

[26] /تقارير/أيلول-الأسود-ذكرى-جرح-أدمى-وجدان-العرب/
[27] https://www.youtube.com/watch?v=GUsVwyYRjyE

[28] https://www.youtube.com/watch?v=lo_fuY1TDHs
[29] https://www.aljazeera.net/news/arabic/2004/12/2/ولاية-العهد-مشكلة-مزمنة-بالملكية