“ماوكلي في جبال الأطلس”.. جولة في عالم رجل من العصر الحجري

مهدي أمين المبروك

هنا جبال الأطلس حيث الجمال الطبيعي الذي يلفت الأنظار لبهائه وحسنه، غابات ممتدة فيها أشجار باسقة، وحدائق ذات بهجة، شلالات ومياه جعل الله منها “كل شيء حي”، من يرتاد ذاك المكان تغشاه سكينة البعد عن المدينة وضجيجها، يسمع خرير الماء وزقزقة الطيور فيشعر بحياة مليئة بالتفاؤل والسرور.

تلك أرض يسكنها السلام، ويرحل عنها القلق والاضطراب، وتحيا فيها المحبة والوئام، يأتيها فصل الشتاء بحلته البيضاء التي تزيّن جنباتها باللون الأبيض ثم يرحل عنها كاشفا عن حسنها وجمالها.

في الشمال الغربي لقارة أفريقيا تقع سلسلة من الجبال تَعبُر كلا من تونس والجزائر والمغرب، على تلك الأرض تدور أحداث هذا الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية بعنوان “ماوكلي في جبال الأطلس” ويحكي قصة رجل مسنّ يعيش في الغابة، مبتعدا عن مظاهر المدينة وزخرفها، يتفاعل مع مكونات البرية من طيور وحيوانات وأشجار وأنهار، يتخذ من الغابة وطنا دافئا يأوي إليه.

 

ابن البيئة.. جندي الكفاح العربي ضد الاحتلال

يبدأ مخرج الفيلم بعرض مشاهد من حياة هذا الرجل وهو يجري في الغابة يتعلق بأشجارها يَجرُّ بذراعيه أغصانا من الشجر ويوقد النار كي يحصل على الدفء ويغسل رأسه بمياه النهر العذبة ويراقب الصيادين وهم يقتحمون الغابة ويصطادون الطرائد.

يتجوَّل فوق مساحات واسعة من الثلج على امتداد الغابة التي يحب الانعزال فيها، ويستيقظ باكرا ويتوكأ على عصاه، ويستخدم الشمعة محاولا إشعال النار في كومة من القش بعد أن تبللت، ويُغنّي مبتهجا بجمال الطبيعة، ويحتفل بسقوط الثلج على كتفيه.

يعتبر البيئة مثل وأمه وأبيه، ويميل إلى العيش في الغابة منذ ستين عاما، ويرى في المدينة مكانا كئيبا. يقول: “في الطبيعة أتغلب على كافة المشاكل النفسية التي تصيب الإنسان”. يتناول وجبة من الطعام في البرية ويحتسي القهوة، ويمتلك أواني قديمة وبسيطة.

ينقلنا الفيلم إلى صوت إذاعة راديو تتحدث عن الحرب الداخلية في سوريا، يقول وهو ينفخ في يديه كي يحصل على الدفء: في سنة 1970 حاربت في منطقة الجولان السورية ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي استولى بالنهاية على هضبة الجولان، الآن سوريا تُدمّر من جديد وكأن الأمر خطط له منذ زمن.

في حياته سافر إلى العديد من الدول كالصومال وصربيا والإكوادور، ومكث في موريتانيا مدة سنتين حتى عام 1979 ثم شارك في طرد الاستعمار الإسباني من مدينة الداخلة في المغرب العربي، وعندما جاء العام 1998 حصل على التقاعد من كافة أعماله.

غابة “ماوكلي” مليئة بالأشجار والماء العذب الذي يتدفق بسبب ذوبان الثلوج

 

“قادم من الجنة”.. بعيدا عن جبال الثلج

يقوم بطل الفيلم المسن من حين لآخر بزيارة المدن المجاورة مثل “إيفران” و”مرمريت” و”أزرو”، ولا ينسى زيارة الأماكن البعيدة مثل “تاونات” و”تيسة” و”فاس” و”مكناس”، يشعر بالبرودة الشديدة كلما ابتعد عن أماكن سقوط الثلج؛ لأن ذوبان الثلج ينقل البرودة الشديدة إلى الأماكن المجاورة، ويشعر بالراحة كلما كانت الغابة خالية من الزوار، فيسير وسط أجواء جميلة ويستمع إلى أصوات الرعد وزخات المطر، ويستمتع بدفء الطبيعة وحنانها الذي يتغلب على قسوة فصل الشتاء.

ثم ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشاهد يظهر فيها مزارع يحرث الأرض، ويظهر صاحبنا وهو يقص الأغصان ويجمع الأخشاب ليبني كوخا يسكنه، إذ يريد أن يتعرف على أسرار الغابة، ولا يُحب أن يُحجب عنه وضوح الرؤية والمشاهد الجميلة.

يحمل متاعه على كتفه وبيده عصاه التي يتوكأ عليها، فيمر بمنطقة يصفها بوفرة المياه، ليصل إلى جدول ماء ويغسل يديه ووجهه، ثم يجلس فوق العشب، وهو يعتقد أن الماء قادم من الجنة ويرى أن البشر قد بخسوا الماء حقه، ويشعر بغضب الماء عندما يتسلل من بين يديه أثناء الاستخدام.

يقول الفيلسوف اليوناني “أرسطوطاليس”: “الماء قوام جميع المخلوقات، فالحياة توجد حيث يوجد الماء وتنعدم بانعدامه”. ويظهر الرجل في الفيلم وهو يقف في مكان تنتشر فيه البحيرات وبرك الماء، ويتحدث عن جمال لون الماء سواء كان أزرق أو أبيض، يشاهد مخلوقات الله التي تسبح في البحيرة، يرافقه كلبه أثناء حله وترحاله، وإذا أقبل الليل رأى نفسه صغيرا في الغابة أمام النجوم والقمر الكبير الذي يتراءى له من مكان بعيد، يستمع إلى مجموعة من الرجال وهم ينشدون أغانيهم المحلية داخل خيمة ابتهاجا بمناسبة لهم.

البيئة هي الحضن الدافئ لابن الغابة، حيث اعتاد الرجل العيش فيها منذ ستين عاما

 

في رحاب الطبيعة.. راحة نفسية وهواء نقي

ينتقل بنا مخرج الفيلم لنقل صورة من الراحة النفسية التي يحياها في الغابة، ومن مظاهرها مداعبته لحيوان “النمس” يطلب منه أن يلعب معه، يُدخله إلى معطفه، ثم يُخاطب الكلب طالبا منه أن يحرسه بالليل وأن يخبره حال قدوم زائر، يرى أنَّ نقاء الطبيعة سببٌ في الراحة أثناء النوم، وسبب للنشاط عند الاستيقاظ؛ لأنَّ الغابة تخلو من التلوث.

بعد أن يطفئ القنديل الذي يحمله للإنارة يخلد للنوم في الطبيعة ولا يخاف إلا من الله تعالى، ويعتقد أن الغابة تحميه لأنه جزء منها، وفي الصباح يستيقظ ثم يلبس حذاءه ويغسل يديه بأواني بسيطة، ويشعر بالراحة عندما يشتمّ رائحة الأعشاب البرية مثل الريحان والزعتر وباقي الأعشاب الأخرى.

يلعب الرياضة الصباحية ويفتخر بعضلاته التي يراها أهل المدينة تزيِّن ذراعيه، ويظهر واقفا فوق الصخور يرقص بعد أن يستحم في مياه الشلال المتدفق من أعالي الجبال ويلبس إزارا يستر عورته.

في فلسفته، يعتبر ابن الغابة حركة الأوراق حديثا متبادلا بين أسراب الشجر تُشعرها تارة بالسعادة وأخرى بالحزن

 

فلسفة العيش في الغابة.. حديث الأشجار

أثناء تجواله في حقل تظهر فيه أكوام من التبن وجرار يحرث الأرض، يتحدث عن أمر غريب فيقول: إنَّ الأشجار تتبادل أطراف الحديث فيما بينها، فحركة الأوراق ليس سببها مجرد مرور الرياح وإنما هي حديث متبادل بين أسراب الشجر المنتشرة في الغابة، تلك الأحاديث تجعل الأشجار تارة تشعر بالسعادة وأخرى بالحزن والألم.

يجلس في المنتزه الوطني لمدينة “أيفران” ويقترب من الأشجار الطيبة، ويبتعد عن شجرة “غورو” التي قتلت كافة الأشجار المرافقة لها، ثم بقيت وحيدة في المكان.

تتسلل أشعة الشمس من وسط الأشجار إلى عمق الغابة في مشهد جميل، فيُلقي النظر إلى الحشرات ويتحدث عن بيت النمل، ويرى أن النمل مثل الرجال المجتهدين الذين لا يتشاجرون، بل ينجزون أعمالهم بجد واجتهاد. يحمل العقارب والأفاعي، ويرى في نفسه أنه “عيساوي” أي لا تستطيع الزواحف أن تؤذيه لأن دمه مقاوم لسمها، يُطعم الأفاعي والعقارب ثم يتركها ترحل بسلام.

وفي مشهد آخر تظهر فيه الأغنام ترعى في الحقل، يقول صاحبنا إن الماشية تصاب بأمراض نفسية كالإنسان، لذلك يأخذها معه إلى الغابة حيث الأماكن الواسعة والهواء النقي لتعود من جديد بصحة نفسية جيدة. يعود مجددا لمداعبة “النمس” الذي أطلق عليه اسم “بيوض”، ثم يجلس بين الأشجار العالية، فتحضر إليه القرود يطعمها ويلاعبها دون أن تؤذيه.

يعيش ابن الغابة منعزلا عن النساء كونهن لا يطقن خشونة الحياة التي يعيشها

 

حقول الزهور.. فلسفة حول المرأة

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشهد يظهر فيه الصيادون وهم يصطادون حيوانات الغابة الضعيفة، ثم تهاجمها الكلاب المدربة دون رأفة أو رحمة، فيجلس مراقبا لما يحدث وكلبه باسط ذراعيه بالقرب منه.

يجلس أمام البحيرة متأملا يخاطب الإوز والبط بأصوات يصدرها من فمه، وحين يأتي الغروب يشعل النار ويغني، ويعرض إناء قديما ما زال يمتلكه، لديه إبريق شاي وأوعية فيها طعام، يبدي ارتياحه في الغابة، فهو لا يزور الطبيب لأنّه لا يصاب بالمرض، ولا يثق بالنار بل يطفئ المرجل ليلا بالتراب حتى لا يشتعل حريق في الغابة.

يتحدث وهو يقف أمام مجموعة من المنازل قائلا: “أحيانا أزور مدينة إيفران لقربها من الغابة لكن لا أمكث هناك طويلا، أشعر بضيق شديد وأنا بداخل المباني”. ويبادله أصدقاؤه الزيارة في الغابة أيضا. ويظهر في الفيلم وهو في منزل قديم وصغير يُقدم له الطعام والشراب.

يسير في حقول من الزهور الحمراء ثم يتحدث عن فلسفته تجاه المرأة، فهي -كما يراها- لباس للرجل وهو لباس لها، ولكن لصعوبة العيش في الطبيعة لا يمكن لأي امرأة أن تتحمل حياة البرية معه، فهو استثنائي يفضل الحياة في الطبيعة.

هو رجل سكن الغابة وأكل منها رغدا حيث شاء، وتنعّم بمناظرها الخلابة، وتحدّث إلى حيواناتها، واندمج مع الطبيعة، وتأمل غروب الشمس وشروقها، واختار الهدوء على الضجيج والنّقاء على التلوث، فأحياه الله حياة طيبة وسعادة غامرة ظاهرة على محياه وعلى جوانب حياته.