“محطة الفضاء الدولية”.. هكذا تبدو الحياة في السماء

مهدي المبروك

تنفق الدول أموالا طائلة بهدف الولوج إلى الفضاء كي تصنع حضارة على الأرض من خلال الأبحاث العلمية التي تجريها داخل المركبات الفضائية، وقد شكل هذا العلم نهضة علمية غير مألوفة، فبعد أن اكتشفت البشرية سطح الأرض وربما باطنه، فها هي ذي الآن تنفذ من الغلاف الجوي وتسبح في الفضاء الواسع باحثة عن العلم والمعرفة.

تتكامل الدول المتقدمة متعاونة في سبيل بناء محطات فضائية تعرج إليها الوحدات والمركبات، فتلتحم معها كي تعالج الخلل الذي يصيبها والمشاكل التي تعتريها، وتوصل الإمدادات والاحتياجات المتعددة، كما تشكل وسيلة نقل لرواد الفضاء.

بين أيدينا الفيلم الوثائقي الذي بثته الجزيرة الوثائقية بعنوان “رحلات الفضاء.. محطة الفضاء الدولية”، ويسلط الضوء على هذه المحطة ومراحل بنائها والتحديات التي واجهتها.

ويشتمل الفيلم على مشاهد تظهر فيها لحظة انطلاق الصاروخ الفضائي، والتحام المركبات بالمحطة الفضائية، وسباحة رواد الفضاء داخل المركبة بسبب انعدام الجاذبية، وممارستهم للرياضات كي يحافظوا على سلامة العضلات والعظام التي قد يصيبها الضرر، كما يُظهر أيضا مشهدا لتحطم إحدى المركبات أثناء اختراقها للغلاف الجوي.

 

مركبة “سويوز”.. عقول الروس ومال العم سام

تُعد محطة الفضاء الدولية (International Space Station ISS) انتصارا في مجال التعاون الدولي حققته الولايات المتحدة وروسيا وكندا وأوروبا واليابان، ويظهر في الفيلم الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” وهو يعلن عن محطة “فريدم” (Freedom) الأمريكية عام 1984، وينتقل مخرج الفيلم لمجريات تحضير انطلاق المكوك الفضائي “تشالينجر” (challenger) عام 1986 للرحلة رقم 10، إلا أن رحلات الفضاء باستخدام المكوكات -وعددها خمسة- علقت بسبب مصرع 7 من رواد الفضاء في انفجار “تشالينجر”.

وبعد شهر من تعليق أعمال المكوك “تشالينجر”، بدأ رواد الفضاء الروس بالعمل على إنشاء محطة الفضاء السوفياتية الجديدة المسماة بـ”مير” (MIR) التي بدأت تجارب الالتحام الأوتوماتيكي، وبعد حل الاتحاد السوفياتي كانت الوكالة الفضائية الوطنية الجديدة “روسكوزموس” قد تقلصت موازنتها بنسبة 80% ولم يعد هناك ما يكفي من المال لإطلاق الوحدتين الجديدتين.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي قلّ اهتمام السياسيين الأمريكيين بمحطة “فريدم”، ومن خلال برنامج “شتل مير” جمعت وكالة ناسا بين حاجة الأمريكيين للخبرة وحاجة الروس للمال وحقق الطرفان أهدافهما وبدأوا خوض الرحلات إلى المدار على متن المركبة “سويوز” فحمل المكوك الفضائي 10 رواد فضاء روس واشتمل طاقم محطة مير على 8 رواد أمريكيين.

محطة الفضاء الدولية أعظم إنجاز بشري في الفضاء يزيد طولها طول ملعب كرة القدم

 

“محطة الفضاء الدولية”.. ثمرة التعاون الدولي

أقنعت وكالة ناسا الحكومة الروسية باستكمال مشروع “مير2” رغما عن ضائقتها المالية، وفي ذات الوقت كانت أوروبا واليابان وكندا مشتركة بما بات يعرف بمحطة الفضاء الدولية، وفي عام 1998 أطلقت وحدة الشحن “زاريا” من كازاخستان لتكون أول قطعة في المحطة الدولية.

واجهت وكالة ناسا بعد إطلاق المكوك من فلوريدا مشكلة تتعلق بميلانه غير المناسب فقامت بإعادة تصميم مخزن خارجي للشحن مصنوع من خليط معدني خفيف الوزن كي يتحكم بميلان يناسب المدار. وبعد أسبوعين من إطلاق الوحدة “زاريا” نقل المكوك “إنديفور” وحدة “يونيت نود1” إلى المدار، وتحضيرا للمهمة قام الطاقم بوصل وحدة “يونيت نود1” بغرفة معادلة الضغط في المكوك، وباستخدام ذراع المكوك الآلية جمعوا القطعتين معا.

وبعد ثمانية عشر شهرا وصلت وحدة السكن الروسية “زفاشدا” والتحمت بوحدة “زاريا” أوتوماتيكيا، وفي عام 2000 وصل المكوك الفضائي “ديسكوفري”، وانطلق أول طاقم في رحلة “اكسبدشن1” من محطة “بايكنور الفضائية” وكان قائد المركبة “سويوز” رائد الفضاء الروسي “يوري كوجينكو”، وقائد الطاقم هو رائد الفضاء الأمريكي “بيل شيبرد” ومهندس الطيران هو الروسي الأكثر خبرة “سيرغلي كريكديف” وكانت معظم أعمالهم اليومية منصبّة على تركيب المعدات وإصلاح المشاكل.

مكوك الفضاء “تشالينجر” ينفجر في الجو بعد إقلاعه بدقيقة ونصف ويقتل رواد الفضاء السبعة الذين كانوا على متنه

 

انفجار مكوك كولومبيا.. عقبة مؤلمة في طريق الفضاء

كان لنقل طاقم المكوك الفضائي أطلنطس إلى مختبر “ديستيني” المزود بثلاثة عشر مخزنا والمشتمل على نماذج تجريبية متنوعة ومتوافقة مع المعايير الدولية؛ نمو جذري في تطور كفاءة محطة الفضاء، فمع تركيب وحدة “ديستيني” إضافة إلى مصفوفة شمسية جديدة كبيرة الحجم، بدأت معالم اكتمال البرنامج تتضح، لكن الحلم لم يكتمل حتى النهاية بسبب تحطم مكوك الفضاء كولومبيا أثناء عودته إلى الغلاف الجوي للأرض بعد تلف جناحه الأيسر، ونتيجة لهذا الحادث أوقف باقي الرحلات المكوكية.

مع تعليق رحلات المكوك، توقفت أعمال الإنشاء في محطة الفضاء الدولية، وأصبحت الإمدادات إليها عبر مركبة الشحن الروسية “بروغرس”، وأمَّا الطاقم فيُنقل بواسطة “سويوز” وأصبح اعتماد “فريدم” بالكامل على التكنولوجيا الروسية، وتوقف العمل على تطوير محطة الفضاء الدولية لثلاث سنوات.

 

العودة إلى العمل في المحطة مجددا

ألقى الرئيس الأمريكي “جورج بوش” الابن خطابا قال فيه: “هدفنا الأول هو الانتهاء من إنشاء محطة الفضاء الدولية بحلول عام 2010” واستمرت الطواقم قليلة الأفراد بصيانة المحطة في الفضاء إضافة إلى تصنيع وحدات جديدة على الأرض، وفي عام 2005 انطلق المكوك “ديسكوفري” والتحم بمحطة الفضاء الدولية ناقلا الإمدادات والمعدات ثم عاد إلى الأرض بسلام.

وبعد أربعة عشر شهرا وصل المكوك “أطلنطس” ليبلغ عدد الرحلات إلى محطة الفضاء الدولية 14 رحلة، وهو ما أطلقت عليه وكالة ناسا اسم” إيفا” أو السير في الفضاء، وبدأت التدريبات المكثفة والأعمال بلا كلل أو ملل، وكان مختبر “الطفو المحايد” المائي مزودا بنموذج محاكاة لمحطة الفضاء الدولية لكي يجرّب رواد الفضاء شعورا مشابها أو قريبا من انعدام الوزن.

في يوليو/تموز 2011 انطلق المكوك “أطلنطس” نحو محطة الفضاء الدولية في آخر رحلة له حيث، اكتملت محطة الفضاء الدولية بصورة أساسية دون أن يتوقف الاستمرار في تحسينها وإضافة أجزاء جديدة لها.

صاروخ “سبيس دراغون” أحد خلفاء مكوك الفضاء الأمريكي يزود محطة الفضاء بالرواد والطعام

 

طواف التسعين دقيقة.. منزل رجال الفضاء

لمحطة الفضاء الدولية ست عشرة وحدة، وكل منها تضاهي بحجمها منزلا ذا خمس غرف، وتستمد المحطة طاقتها من ثمانية ألواح شمسية، وتطير على ارتفاع يبلغ 400 كم فوق سطح الأرض، وتكمل دورة واحدة حول الأرض كل 90 دقيقة. ويحصل رواد الفضاء فيها على احتياجاتهم من الماء والأكسجين والطعام والمعدات بانتظام باستخدام مركبة نقل ذاتية التشغيل مثل مركبة “بروغرس” الروسية التي تستطيع الالتحام ذاتيا باستخدام نظام “كيرز” الآلي أو يدويا عند الحاجة.

تشغل وكالة الفضاء اليابانية “جاكسا” أكبر مركبة نقل لزيارة محطة الفضاء الدولية، ويمكن تفريغ حمولتها إلى المحطة يدويا، وفي عام 2014 قامت وكالة “سيكنس” بأول رحلة لها إلى المحطة.

وفي عام 2012 قامت مركبة “سبيس إكس دراغون” بنقل الإمدادات إلى المحطة، وتتميز هذه المركبة بقدرتها على الرجوع إلى الأرض بحمولة ثقيلة، ونقل مواد اختبارية من المحطة إلى مختبر على الأرض في غضون يومين من مغادرة المدار الأرضي. وتعكف وكالة “جاكسا” اليابانية على تطوير مركبة من نوع “دراغون” قادرة على حمل رواد فضاء إلى المدار الأرضي المنخفض (250- 2000 كم).

رائدا فضاء روسيان يقضيان أكثر من 7 ساعات في عملية إصلاح ثقب في جسم المركبة سويوز الروسية

 

حفرة في جدار المركبة.. حماية التكنولوجيا للإنسان

تهتم المحطة بإجراء العديد من الدراسات مثل دراسة ديناميكية السوائل وعلوم المادة، وذلك تحت وطأة جاذبية صُغرية (microgravity)، ودراسة تطور النبات في ظروف هذه القيمة الضئيلة من الجاذبية، ودراسة آثار انعدام الوزن لفترات طويلة على الجسم البشري وأثرها على تدهور الحالة الصحية للعضلات والعظام، ودراسة تأثير انعدام الجاذبية لوقت طويل على الرؤية.

وعلى الرغم من ثقة رواد الفضاء الأمريكيين والروس من التكنولوجيا المستخدمة في محطة الفضاء الدولية، إلا أنَّه لوحظ وجود حفرة بعرض مليمترين ثقبت في جدار المركبة بشكل متعمد، وانتشرت شائعات وقوع عمل تخريبي.

لم تكن كبسولة “سويوز” الروسية مصممة للإصلاحات الخارجية، لذلك كان اجتياز الحاجب الحراري المكون من ثماني طبقات لتثبيت درجة الحرارة داخل المركبة الفضائية صعبا، وبسبب التحام “سويوز” بمحطة الفضاء الدولية بدت تلك الحفرة وكأنها أصلحت.

لم تُشكل الحفرة خطرا على سلامة العودة؛ لأنها كانت في وحدة السكن، وعاد رواد الفضاء وهم: الروسي “سيرغي بروكوبيف” والأوروبي “ألكسندر جيرتز” والأمريكية “سيرينا أونيون كلينسر” على متن هذه المركبة الفضائية إلى ديارهم.

عند القيام بأعمال صيانة أو إصلاح خارج محطة الفضاء الدولية يجب ارتداء البزة الفضائية الأمريكية المعروفة بـ”إميو”

 

بزة رواد الفضاء المعقدة.. قاب قوسين من الهلاك

حين يتحتم القيام بأعمال صيانة أو إصلاح خارج محطة الفضاء الدولية على وحدات تابعة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” أو الأوروبية “إيسا” أو اليابانية “جاكسا”، فإن أفراد الطاقم يخضعون للتدريب باستخدام البزة الفضائية الأمريكية المعروفة بـ”إميو” (EMU)، وهؤلاء المتدربون هم من أصحاب الخبرة في ذات المجال، ويرى المتدربون أنَّ البزة الأمريكية أكثر انسيابية ومريحة إلا أنها معقدة جدا وتستلزم وقتا طويلا لارتدائها، في مقابل البزة الروسية سهلة الارتداء التي صممت ليتعامل معها رواد الفضاء بسهولة ويسر.

تُشكّل أصغر المشاكل في معدات رواد الفضاء خطرا على الحياة، فبعد تسرب لتر من الماء داخل خوذة رائد الفضاء التابع لوكالة الفضاء الأوروبية “لوكا بارميتانو” لم يعد يستطيع الرؤية أو السماع.

كان الماء يتسرب من خلال جهاز التبريد الملحق بالبزة، وعند التحقيق بالأمر ألقت إحدى التقارير اللوم على مركز مراقبة البعثة الذي افترض أن الماء كان آتيا من حقيبة مياه الشرب داخل البزة.

بعد إيقاف رحلات مكوك الفضاء، أصبح رواد الفضاء يعودون بالمظلات لتستقبلهم طواقم الإنقاذ وإعادة التأهيل

 

كازاخستان.. بوابة الفضاء إلى الأرض

في العادة يقضي طاقم الرحلة الفضائية 6 أشهر في المدار، ويُعد وصول طاقم جديد مؤشرا على انتهاء الرحلة. الآن يصعد الطاقم على متن المركبة “سويوز” التي أتوا بها ليعودوا إلى سطح الأرض، وبعدها تقوم المركبة بعملية الاشتعال الأوّلي للانفصال على مسافة آمنة من محطة الفضاء الدولية، وذلك لتجنب تلويث المحطة.

في كازاخستان تتوجه مجموعة من السيارات إلى منطقة الهبوط، وتحضر الفرق الطبية وموظفو إعادة التأهيل التابعين لوكالة “روس كوزموس” ووكالتي الفضاء الأمريكية والأوروبية.

تشتعل وحدات فك الارتباط المتفجرة لفصل الأجزاء الثلاثة للمركبة “سويوز”، ومع ارتفاع الحرارة الناتجة عن دخول الغلاف الجوي العلوي يفقد الطاقم الاتصال اللاسلكي بالأرض، وقبيل الوصول تفتح مظلة الهبوط لإبطاء الكبسولة أكثر، ثم تفتح المظلة الأساسية.

رحلة الذهاب إلى الفضاء والإياب إلى الأرض تترك أثرا على رواد الفضاء عند العودة، فبعد أن تأقلموا على حياة غير التي يحياها الناس فوق الأرض، يخرجون من الكبسولة ويلزمهم الأمر شهورا للعودة إلى طبيعتهم، أما الأبحاث العلمية فقد شقت طريقها نحو إصابة العلم وتحقيق المعرفة.