محمد عبد الوهاب.. عبقري الموسيقى المصرية وكبير سدنتها

بينما كانت مصر تقف على عتبات القرن العشرين، كان كل شيء فيها يتغير؛ السياسة والمجتمع والثقافة، وبالطبع الموسيقى التي أدرك روادها أنها بحاجة لانتقالة مذهلة بين عصرين.

كان من بين هؤلاء الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي رفع شعار تطوير الموسيقى العربية كغيره من الموسيقيين من أبناء جيله، لكنه كان أمهرهم صنعة وأقدرهم على المرور بين أجيال المستمعين بخفة واحترافية، فصنع لكل جيل في القرن الجديد موسيقى تناسبه، لقد صنع باختصار قرنا من الموسيقى.

في كتاب “رحلتي: الأوراق الخاصة جدا” الذي سرد فيه فاروق جويدة بعضا من أسرار رفيق عمره عبد الوهاب، يقول إنه حاول “فك سجن الجملة اللحنية من قيود الإيقاع الواضح الذي غالبا ما يحرك في المستمع الحس المادي أكثر من الوجدان”.

كما يذكر في نفس الكتاب أن عبد الوهاب كان “أول من خالف قاعدة مهمة من قواعد التلحين الشرقي التي تعلمها من الأساتذة القدامى، والتي تقول: إن الملحّن إذا لحّن قصيدة أو توشيحا أو دورا أو أغنية أو طقطوقة وابتدأ من نغمة ومن مقام معين، فعليه أن ينتهي بنفس النغمة وعلى نفس المقام”.

في هذا الفيلم الوثائقي الذي تبثه الجزيرة الوثائقية على جزأين تحت عنوان “محمد عبد الوهاب.. صانع موسيقى القرن”، نمخر عُباب بحر الموسيقى العربية، بصحبة رُبانها الفذ المذهل، الذي منحته الأقدار عمرا مديدا ليكون شاهدا على ما أبدع فيها، فقد كان مولده في عام 1902 وعاش نحوا من تسعين عاما كاملة.

كانت تقام الحفلات الدينية والموالد والأغاني في المناسبات الدينية المختلفة والتي كان يتابعها الطفل بحب وشغف

العائد من الموت.. مطرب قادم من بيئة دينية

لم يكن أحد ليعلم أن هذا الطفل الصغير المسجّى بين الحياة والموت أو بالأحرى الميت ظاهرياً وقد استخرجت شهادة وفاته، سيعود للحياة ثانية، ويصبح فيما بعد موسيقار الأجيال وصانع موسيقى القرن، وهو الذي نشأ نشأة دينية!

كان أبوه مقيما للشعائر الدينية في مسجد سيدي الشعراني في باب الشعرية في القاهرة، وكان عمه خطيبا في المسجد نفسه، حيث كانت تقام الحفلات الدينية والموالد والأغاني في المناسبات الدينية المختلفة وكان يتابعها الطفل بحب وشغف، كما يقول المؤرخ الموسيقي زين نصار.

اعتاد الناس في ذلك الوقت على إرسال أبنائهم إلى الأزهر ليحفظوا القرآن ومن يتوفر له الحفظ والصوت الجميل يصبح مقرئا، كأمثال الشيخ علي محمود، لكن ميل محمد عبد الوهاب إلى الأغاني الدينية وحبه للموسيقى جعله يرفض الذهاب للأزهر وظل يتابع شيوخ المغنين في ذلك الوقت أمثال الشيخ سلامه حجازي وصالح عبد الحي.

التحق في البداية بفرقة فوزي الجزايرلي في خيمته بحي الحسين في القاهرة، وواظب على الذهاب إليها والغناء فيها رغم الرفض الشديد من قبل عائلته ومنعه.

بعد ذلك قرر أن يترك القاهرة إلى دمنهور ليستطيع الغناء بحرية، وتحت هذا الضغط وافقت عائلته على ذلك لتعيده إلى القاهرة واختارت له فرقة عبد الرحمن رشدي حيث كان يغني خلالها قصائد سلامة حجازي أثناء العروض المسرحية.

إلى نادي الموسيقى الشرقي.. المدرسة الثالثة

اختارت عائلة عبد الوهاب لابنها أن يدرس الموسيقى في نادي الموسيقى الشرقي في القاهرة خوفا عليه من الهروب مرة أخرى، وأملا في أن يحقق لهم نقلة طبقية ونوعية.

هناك تتلمذ على أيدي عمالقة الموسيقى المصريين في ذلك الوقت أمثال الشيخ درويش الحريري، والقصبجي ومحمود رحمي، وأتيح له أن يلمّ بجميع أصول الموسيقى العربية، كما يقول الباحث الموسيقي ياسر عبد الله.

ووفقا لأستاذ التأليف الموسيقي فتحي الخميسي فإن الموسيقى المصرية قامت على ثلاث مدارس هي مدرسة محمد عثمان، ومدرسة سيد درويش، ومدرسة “القصبجي – السنباطي – عبد الوهاب”.

سيد درويش.. الأستاذ الأول

يتحدث محمد عبد الوهاب في مقابلة تلفزيونية عن الفرق الشاسع في التعليم الموسيقي في المعهد الذي كان يدرس فيه وبين سيد درويش الذي يُعتبر والده في الموسيقى، والذي أخذ بيده ووضعه على المسرح، وأشار إليه بأن سيكون له مستقبل كبير في الموسيقى العربية، ويعتبر الوريث لجيل سيد درويش.

صورة للأستاذ الأول سيد درويش وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب

وفي عام 1921 قام عبد الوهاب ببطولة مسرحية شهرزاد الغنائية لسيد درويش بسبب مرض الأخير، ثم قام في عام 1927 بعد وفاة درويش ببطولة مسرحية كليوباترا له أيضا.

ومما يميز أغاني درويش أنها موجهة للعمال والمجتمع، أي أنها أغاني جماعية يحلو غناؤها في مجموعة وبصوت عالٍ، على العكس من نتاج أحمد شوقي الذي كان أرستقراطيا ويمثل الفن الفردي، وقد التقاه عبد الوهاب للمرة الثانية في عام 1924.

أحمد شوقي.. خذ بيدي إلى العالم

كان لقاء عبد الوهاب بالشاعر أحمد شوقي نقطة فاصلة في حياته إذ تبنّاه شوقي وأدخله مصافّ الطبقة العليا، وتولى رعايته في التعليم واللغات واصطحبه معه إلى باريس ليتعرف ويستمع هناك إلى الموسيقى العالمية ويتأثر بها وبالحياة المرفهة بشكلها العام في أوروبا، وقد لازم عبد الوهاب شوقي بشكل مستمر حتى أنه أقام في قصره، وكانت له غرفة خاصة به.

الشاعر أحمد شوقي كان بمثابة الأب الذي صنع شخصية عبد الوهاب

هذا الشكل من الحياة ساعد عبد الوهاب على إبراز نفسه كفنان متطور، فخرج بذلك عن القالب التقليدي للأغنية؛ كالموشح، والدّور، والقصيدة، وانتقل إلى الـ”مونولوج” وهو قالب غنائي ظهر على المسرح، ويعتمد على الخطاب اللحني أو الصوتي، كما في أغنية “الليل لمّا خِلي”، وفق قول الموسيقي صفوان بهلوان.

فيلم “الوردة البيضاء” كان أول ظهور مرئي لعبد الوهاب عبر السينما لجمهور البسطاء

وبين اختلاف المتحدثين في الفيلم في آرائهم بالنسبة لدرويش وشوقي وتبنّيهم لموهبة عبد الوهاب، يمكن أن تبرز الصورة التالية بأن درويش هو الأب الموسيقي لعبد الوهاب، بينما شوقي هو الأب الذي صنع شخصية عبد الوهاب.

زبيدة الحكيم.. بوابة السينما والشهرة

بعد وفاة أحمد شوقي عام 1932 كان عبد الوهاب قد تعوّد على الحياة المرفّهة وأصبح نجما معروفا للجميع، وخاصة مجتمع السيدات المعجبات به. ووقع نصيبه مع السيدة زبيدة الحكيم الأرملة الثرية التي ورثت عن زوجها إرثا ومالا كثيرا، وكانت تكبر عبد الوهاب بعشرين عاما، وقد تزوجت منه زواجا غير معلن.

أصبحت فرصته كبيرة في دخول عالم السينما، حيث عرض في هذه الفترة أول فيلم غنائي لزكريا أحمد “أنشودة الفؤاد” فقد كانت صناعة الأفلام السينمائية صعبة ومكلفة جدا في هذه الفترة الزمنية.

لكن بزواجه من زبيدة توفرت لعبد الوهاب فرصة إنتاج وبطولة فيلم “الوردة البيضاء” الذي هو أول فيلم له، وكان أول ظهور مرئي له عبر السينما لجمهور البسطاء الذي يحبه ولم يستطع أن يراه من خلال المسرح، بحسب قول الناقد السينمائي طارق الشناوي.

عبد الوهاب أدخل لحنا عالميا في أغنية “عندما يأتي المساء” في فيلم “يحيا الحب”

في عام 1935 قدّم عبد الوهاب فيلم “دموع الحب”، وفيه ظهر أول ثنائي غنائي في السينما المصرية مع المطربة نجاة علي في أغنية “ما أحلى الحبيب”، وبهذا نقل عبد الوهاب الحوار الغنائي من المسرح إلى السينما، ثم إنه استخدم آلات موسيقية أوركسترالية إضافة إلى الآلات التقليدية المحدودة ليضيف بذلك ألوانا صوتية جديدة للموسيقى العربية.

ألحان عالمية في أغان عربية

كانت الفرصة مواتية لعبد الوهاب فأدخل ألحانا غربية مثل لحن “التانغو” الأرجنتيني إلى الأغاني الشرقية البحتة، وألحانا أخرى كثيرة كما فعل في المقطع الأخير من رائعته “عندما يأتي المساء” التي غنّاها في فيلم “يحيا الحب” عندما أدخل إيقاع “الكوكاركشي” من أمريكا اللاتينية، إنها فعلا مغامرة وجرأة لم يقم بها أحد من قبله.

اختلف النقاد السينمائيين في تقييمهم لفيلم “رصاصة في القلب” المقتبس من رواية توفيق الحكيم، فقد قال البعض إنه من أنجح أفلام عبد الوهاب، إذ ظهر فيه أكثر تلقائية وخفة دم، وتخلص تقريبا من الضحكة المصطنعة، ومنه أغنية “انسى الدنيا وريّح بالك” فيما اعتبره آخرون أنه رصاصة في قلب توفيق الحكيم على اعتبار أن المخرج محمد كريم قد خان النصّ.

صانع الخلطات السينمائية العجيبة

في المرحلة التالية، تزايدت أسهم فريد الأطرش وأسمهان في شبّاك التذاكر للسينما المصرية الغنائية، كما أن التعب والإجهاد نالا من عيني عبد الوهاب نتيجة الإضاءة الساطعة، فكان لا بدّ له أن ينسحب انسحابا تكتيكيا، وكان ذلك من خلال فيلمه الأخير “لست ملاكا”، حيث قرر بعدها أن يكتفي بتلحين أفلام الأغاني دون أن يشارك فيها.

في الأغاني السينمائية كان لا بدّ من تكثيف الأغنية والاختصار في المقدمات الموسيقية، لأن وقت الفيلم لا يسمح بذلك، وهذا ما اشتغل عليه محمد عبد الوهاب بذكاء، فقدّم نماذج غريبة وعجيبة من الأغاني مثل أغنية “تميّلي وتمختري يا خيل”، التي غنتها ليلى مراد في فيلم “غزل البنات” عام 1949.

ليلى مراد ونجيب الريحاني قدما أغنية كاريكاتورية خفيفة في فيلم “غزل البنات

كما قدّم ليلى مراد ونجيب الريحاني بأغنية كاريكاتورية خفيفة في نفس الفيلم بتوليفة غريبة بين صوت ليلى الشهي الجميل وصوت نجيب الريحاني الأجش.

وقدّم أيضا الشيء ذاته في فيلم “عنبر”، إذ قدّم خليطا عجيبا في مشهد تمثيلي غنائي جمع فيه بين شكوكو وإسماعيل ياسين وليلى مراد وآخرين، فقدّم كل منهم نفسه بلونه الخاص المختلف، فكانت هذه التوليفة عجيبة في المشهد التمثيلي “اللي يقدر على قلبي”.

لقد كان عبد الوهاب يملك حسّا تأليفيا موسيقيا فوق كونه مطربا ولم يخلُ أي فيلم له من قطعة موسيقية من تأليفه، لقد كان يحلم أن يقدّم يوما ما حفلا موسيقيا بحتا بدون غناء.

هل كان محمد عبد الوهاب سارقا؟

يُثير المتحدثون في الفيلم قضية جدلية عامة حول ألحان بعض أغنيات عبد الوهاب التي اقتبس فيها جزءا من ألحان سيد درويش وغيره وضمّنها بعض أغانيه، فما بين قائل إن هذه سرقة، وقائل إن هذا اقتباس جائز وشرعيّ في عالم الألحان والموسيقى، وقائل إن هذا لا يتعدى كونه توارد أفكار أو نقلا لجزء بسيط لا يؤثر على الشخصية العامة للّحن؛ يبقى الجدل قائما، مع الميل إلى أن هذا لا يضير ألحان عبد الوهاب العظيمة الخالدة كما في الجندول وكليوباترا وليالي الشرق، وهذا ما أكدته اليونسكو حين عملت إحصائية للألحان المقتبسة في موسيقى عبد الوهاب ضمن الموازين والقوانين التي تسمح بذلك فبلغت 13 لحنا؛ يقول المتحدثون في الفيلم لو أنها أزيلت كلها ما تأثرت أبدا ألحان عبد الوهاب الفريدة، وقد أكد هو نفسه في أكثر من مناسبة أنه اقتبس من ألحان سيد درويش.

كما أنه أتّهم بسرقة جزء من ألحان “بيتهوفن” ضمّنه أغنيته “أحب عيشة الحرية” مع أن الجزء المأخوذ من لحن بيتهوفن بسيط أو ذيل ولم يؤثر أبدا في الشخصية العامة للحن عبد الوهاب في الأغنية.

ويظهر عبد الوهاب في مقابلة تلفزيونية يدافع عن نفسه في هذا الصدد، فيما يؤكد المتحدثون في الفيلم أنه لم يكن ليسرق أي لحن ولكنه كان نهما في الاستماع للموسيقى لدرجة أنه يحفظ ألحانا كثيرة تنطبع في ذاكرته، فتسقط هذه الجُمل اللحنية في أغانيه وألحانه.

لقد كان قادرا على توليف هذه الأجزاء اللحنية البسيطة وتذويبها في الشخصية العامة لألحانه، مما أضاف وأثرى المكتبة الموسيقية العربية. ويظل الاختلاف قائما من ناحية الأخلاقيات المهنية في ألحانه بين النقّاد الموسيقيين وحتى الجمهور المطّلع، فالكثير يرى أنه ملحن قدير وأسطوري، فيما يرى البعض أنه مُعدّ أو مُولّف للألحان.

في العام 1939 أتاحت الإذاعة المصرية للفنانين والموسيقيين أن يسجلوا أغانيهم وألحانهم لمدة 30 دقيقة، فكان هذا الوقت خياليا بالمقارنة مع وقت التسجيل على الأسطوانات الذي لا يتجاوز 3 دقائق فقط، فاستغلّ عبد الوهاب هذه الفرصة الثمينة وغنّى رائعته الشهيرة قصيدة الجندول للشاعر علي محمود طه، وهي قصيدة متحررة من العمود الشعري المعروف، فلحّنها بأسلوب مختلف وصْفي وكأنه شاعر يلقي قصيدة ولا يغني، يقول فيها: “أين من عينيّ هاتيك المجالِ.. يا عروس البحر يا حلم الخيالِ فصارت كأنها إلقاء للشّعر بخلفية موسيقية.

عبد الوهاب وحليم.. العراقة تمدّ يدها للحداثة

بظهور المطرب عبد الحليم حافظ وبداية رحلته مع الملحنين الشباب كمال الطويل محمد الموجي وبليغ حمدي فيما بعد، بدأ ظهور أسلوب جديد في اللحن العربي يختلف تماما عمّا كان يقدمه عبد الوهاب ورياض السنباطي وزكريا أحمد وغيرهم من الرعيل الأول في موسيقى مصر.

أغنية “على قدّ الشوق” التي غناها حليم عام 1954 كانت أسلوبا لحنيا عربيا جديدا قدمه عبد الوهاب

وبدأ هذا الأسلوب الحديث بالنجاح الملحوظ على المستوى الجماهيري كنجاح أغنية “على قدّ الشوق” التي غناها حليم عام 1954 مثلاً، مما دعا عبد الوهاب ليمدّ يده للتعاون مع حليم فلم يكن يناصبه العداء، بل على العكس كان ذكياً من هذه الناحية، فقدّم عبد الحليم في فيلم “لحن الوفاء” وفيلم ” أيام وليالي” ولحّن له أغاني الفيلمين.

سادن الموسيقى المصرية

لقد كان عبد الوهاب قادرا على استيعاب الألحان الشبابية وتفصيلها بما يتناسب مع ذوق الجمهور تماما، كما كان قادرا على تأليف وتوليف ألحان المدارس القديمة، لقد كان يعتبر نفسه إله الموسيقى المصرية وسادن مصادرها قديمة وحديثة، وظل يعتبر نفسه فرس الرهان القادر على السباق والأستاذ الأول، ولا يستطيع أحد أن ينكر الفضل الذي قدمه لعبد الحليم حافظ مما ساهم في شهرته وتطوره.

يقول عبد الوهاب في مقابلة تلفزيونية إن مما ساهم في تقدّم حليم هو النبرة الجديدة وقدرته على التعبير، فقد كان ممثلا مقتدرا أكثر مما كان مغنّيا، وكنت معجبا جدا بتمثيله.

في العام 1958 وبعد النجاح الذي حققه الثنائي في الفيلمين كان لا بدّ لهما للخروج من السينما إلى المسرح، فكانت أغنية “فوق الشوك مشّاني زماني” ومن ثم تطور ذلك إلى علاقة أقوى تمثلت في إنشاء شركة إنتاج بينهما هي شركة “صوت الفن”، وكان ذلك لإحساس عبد الوهاب بأن حليم هو الصوت القادم الذي سيدرّ الأرباح، كما كان ذلك في مصلحة حليم أيضاً لحاجته إلى سقف إنتاجي موسيقي قوي يحميه.

“أقسمت باسمك يا بلادي”.. مطرب الملوك

في بداية عهد الرئيس جمال عبد الناصر كان عبد الوهاب قد اكتشف الصوت الذي سيخوض به معاركه الوطنية كملحن في الظلّ، فيما يكون عبد الحليم هو الذي يغني ويتحمل كامل المسؤولية والمساءلة على أي خطأ.

محمد عبد الوهاب يلحن تمجيدا لعبد الناصر

مع أن عبد الوهاب لم يتعرض خلال الثورات والنكسات لأي نقد أو مساءلة من النظام على طول الفترة، وقد غنّى للسرايا الملكيّة وغنىّ لعبد الناصر والسّادات ولكثير من الزعماء الذين مرّوا على عرش مصر حتى وصفه النقّاد بأنه مطرب الملوك والأمراء، علاوة على كونه غنى العديد من الأغاني الوطنية الرائعة مثل “أقسمت باسمك يا بلادي” التي وصفها النقّاد أنها من أعظم الأغاني الوطنية العربية.

ابتكر عبد الوهاب أسلوب الأغنية القصصية أو ما يسمى بالتلحين الدرامي أو القصصي، وهو أسلوب لم يُطرق من قبل كما في أغنية “نبتدي منين الحكاية” و “فاتت جنبنا” لعبد الحليم حافظ، وأغنية “أيظن” و “ساكن قصادي” لنجاة الصغيرة.

أغنية “أنت عمري” لكوكب الشرق هي من ألحان محمد عبد الوهاب وكلمات أحمد كامل

مع كوكب الشرق

كما تعاون عبد الوهاب مع سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم وكان ذلك في عام 1964 وكان عمرها في ذلك الوقت 65 عاماً لكنه كان قادراً بذكائه الفني الموسيقي أن يقدم لها ألحانا تتناسب مع قدراتها الصوتية وطبقاتها فكانت رائعتها الشهيرة “إنت عمري”، وبلغ معها مرحلة التجلّي في أغنية “إنت الحب”.

كامب ديفيد.. اللواء محمد عبد الوهاب

بعد معاهدة السلام في عهد الرئيس السّادات دخلت مصر مرحلة جديدة لم يعد فيها النشيد الوطنيّ “والله زمان يا سلاحي” صالحا للمرحلة، فاستدعى الرئيس السّادات محمد عبد الوهاب وطلب منه نشيدا وطنيا جديدا فوقع الاختيار على نشيد “بلادي بلادي” الذي كان لحنه سيد درويش وقام عبد الوهاب بتوزيعه من جديد بشكل ثلاث صيغ سريعة وبطيئة ومتوسطة وترك للرئيس -بحضور أنيس منصور الصحفي المقرب من السادات- أن يختار الصيغة اللحنية التي يفضلها.

الرئيس السادات كان قد منح محمد عبد الوهاب رتبة لواء فخري بعد عودته من اتفاقية كامب ديفيد

وبعد عودة السّادات من اتفاقية كامب ديفيد كان عبد الوهاب من ضمن المستقبلين وقد ارتدى بدلة عسكرية فمنحه الرئيس السّادات رتبة اللواء الفخرية.

بداية النهاية

بوفاة فريد الأطرش عام 1974 وأم كلثوم 1975 وعبد الحليم عام 1977 بدأت مدرسة الفن العظيم بالتلاشي شيئا فشيئا، فبعد وفاة عبد الحليم تداول الناس الحديث عن أغنية لحنها له عبد الوهاب وكانت ما زالت في مرحلة البروفات وهي أغنية “من غير ليه”، وظل الحديث عنها بين مدّ وجزر حتى كشف المحامي مجدي العمروسي وهو شريك مع عبد الوهاب وحليم في شركة صوت الفن النقاب عنها، لما وجد نسخة من شريط الأغنية “البروفة” وكان الشريط صالحا للاستعمال.

أغنية “من غير ليه” لحّنها عبد الحليم حافظ وغناها محمد عبد الوهاب

الأغنية من كلمات مرسي جميل عزيز، وجاء اقتراح مهندس الصوت زكريا عامر لعبد الوهاب بأن يعيد تقديم الأغنية بمساعدة الوسائل الصوتية الحديثة بأن يركب صوت عبد الوهاب على الأغنية بدلا من عبد الحليم مما أثار تخوف عبد الوهاب، لكن زكريا عامر شجعه على طرحها وكأنها أغنية جديدة تذاع لأول مرة بتغطية إعلامية كبيرة ومفبركة من الكاتب الصحفي نجيب فوزي في برنامجه الشهير في الثمانينات “حديث المدينة”.

خرجت الأغنية وكانت بمثابة قنبلة فنية مشعّة ولوحة تشكيلية موسيقية غطى صداها كل أنحاء الوطن العربي الكبير، وعلى الرغم من النجاح الكبير التي حققته هذه الأغنية فإن البعض اعتبر أنها كانت بمثابة إعلان النهاية.

وفيما يعتبر بعض النقاد الموسيقيين أنه بانتهاء المدرسة الموسيقية الثالثة؛ القصبجي – السنباطي – عبد الوهاب، توقفت المدارس الموسيقية بسبب أن جيل هذه المدرسة لم يعتمد الحوار مع الجيل الذي يليه، ولم يتلمس طريق تطور المعزوفات وهما مفتاحا المستقبل الموسيقي، يؤكد محمد عبد الوهاب أنه في كل حقبة زمنية في الموسيقى مرّت به كان يحس بأنه تغيّر، وأنه ليس هو عبد الوهاب القديم الأول.

“رايحين فين”.. النهاية

وعلى مبدأ أن النصوص التي تثير الأسئلة وتطرحها خير من تلك التي تقدّم الإجابات؛ تبقى حياة وموسيقى وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مثارا للجدل وطرح الأسئلة وأرضا خصبة للتوليفات الموسيقية الغرائبية والمفارقات العجيبة.

ولعل هذا ما دفع معدّ هذا الفيلم للجزيرة الوثائقية إلى أن يترك نهايته مفتوحة دون التطرق لذكر شيء عن رحيل هذا الفنان العظيم عن الدنيا، واختار نهاية حافلة بالأسئلة الوجودية الكبيرة التي تضمنتها أغنيته الأخيرة “من غير ليه”، وتركنا نطرب معها، ونغرق في بحر من الحيرة والدهشة والأسئلة.

جايين الدنيا ما نعرف ليه..

ولا رايحين فين..

ولا عايزين إيه..

مشاوير مرسومة لخطاوينا نمشيها في غربة ليالينا..

يوم تفرحنا ويوم تجرحنا واحنا ولا احنا عارفين ليه..