مدارس التعذيب.. كيف تطور أمريكا وسائل التعذيب وتصدّرها للعرب؟

ذهبت بعض الأنظمة العربية بعيدا في أساليب تعذيب معارضيها ومعارضي حلفائها في بعض الأحيان، فالخبرة وضعف تطبيق القوانين وغياب المساءلة في تلك الدول سمح بممارسة التعذيب بطرق أكثر فعالية وأشد وطأة على كل من تشتم فيه رائحة التهمة ولو من بعيد، الأمر الذي جعل بعض الدول التي تحترم حقوق الإنسان تدفع بمن تريد الحصول على معلومات منهم إلى دول الشرق الأوسط لانتزاع المعلومات منهم.

أما في الدول التي تحترم القانون وتلاحق مسؤوليها عيون الإعلام وسياط القضاء وهواجس المنظمات الحقوقية، فقد كان التعذيب يمارس بطرق احتيال خفيفة لا تؤدي الغرض المطلوب، إلا أنها بمرور الزمن أصبحت مضطرة إلى اتخاذ أساليب متطورة لتصبح أكثر فعالية وقدرة على التحايل على قوانين الدفاع عن حقوق الإنسان.

نستعرض فيما يلي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة تحت عنوان “مدارس التعذيب”، حيث يتتبع تطور أساليب التعذيب الممارسة ضد العرب والمسلمين من قبل أنظمة عربية وأجنبية، ومدى تأثيرها على جسم الإنسان وعقله، وما وراء الكواليس من تحالفات بين السياسيين والأطباء والحقوقيين في تشريع التعذيب.

وشهد شاهد من أهلها

في عام 2015 بثت قناة الحوار التونسية ترويجا لحلقة من برنامج “لا باس”، استضافت فيها أحد ضحايا التعذيب في سجون الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وجها لوجه مع أحد السجانين، وأثناء المقابلة التي لم تُبث تحدث السجين السابق عن الممارسات التي كانت تروح وتغتدي عليهم في السجن والمآسي العائلية التي اكتنفتهم أثناء فترة الاعتقال، وقد اعترف السجان بممارسته التعذيب بأنواعه على المعارضين والتي قد أوصلت بعض المعتقلين إلى مثواهم الأخير باعترافه، وذلك بحجة الحفاظ على أمن الدولة، معتبرا أن ذلك أداء لعمله، وأن السجانين هم مناضلو الدولة.

وقد لقي إعلان الحلقة صدى كبيرا في الشارع التونسي والإعلام المحلي، مما أثار موجة انتقادات كبيرة للداخلية التونسية، وسخطا على نظام بن علي، الأمر الذي دفع الدولة ممثلة في النيابة العامة إلى إصدار حكم بمنع بث الحلقة، معتبرة تصريحات السجان تمردا على مفهوم الدولة والقانون.

الحقيقة المحجوبة

منع الحلقة من البث دفع فريق الفيلم إلى التقصي وتتبع آثار نظام بن علي من أجل الكشف عن حقيقة ما كان يدور هناك خلف قضبان وزارة الداخلية، فاتصل فريق البرنامج بالسجين السياسي منذر العرفاوي الذي كان ضيف الحلقة، وذلك لمعرفة ما أفصح عنه جلاده في البرنامج الممنوع من العرض.

قال العرفاوي “لم أكن سجينا أمام جلاده، بل كنت أربعين ألف سجين، حين تحدثت كنت أعتبر نفسي ممثلا لكل السجناء السياسيين، وما منذر العرفاوي إلا رقم من تلك الأرقام، ولا أتصور أن الجلاد إنسان في قلبه محبة، وكأنه إنما خلق ليضرب وحسب”.

الدول العربية لم تكتف بممارسة التعذيب لأجل تثبيت نظام حكمها، بل مارست التعذيب نيابة عن حلفائها أيضا

اتصل فريق الفيلم بالسجان كمال المرايحي، وقد وافق في بداية الأمر وحدد موعدا للقاء، لكن أمرا ما أعاق مسعى الفريق للقاء، وذلك بعد أن أغلق السجان هاتفه وانقطع اتصالهم به، ثم اتصل بهم فيما بعد ليحدد مكانا للقاء، لكنه تراجع عن الأمر حين وصل الفريق إلى المكان رافضا رفضا قاطعا إجراء المقابلة.

السرداب

عندما قرر التحالف الدولي في بداية التسعينيات من القرن الماضي ضرب العراق شهدت العاصمة التونسية عشرات المظاهرات المناهضة للحرب على العراق، منددة بموقف الحكومة التونسية الداعم للحرب، وحينها زُجَّ بآلاف المتظاهرين في السجون، ومورست عليهم وسائل تعذيب قاسية لا تمحى من الذاكرة.

قام بشير الخلفي -أحد المعتقلين حينها- باصطحاب فريق الفيلم إلى سرداب سجن الناظور في مدينة بنزرت، حيث قضى سنين من عمره قيد الاعتقال في سرداب يقع تحت الأرض، يتم الوصول إليه بعد 36 درجة من السلّم. يقول بشير “هناك من فقد بصره في هذا السرداب ومن سقطت أسنانه ومن تساقط شعره، فهذا الفضاء يمثل بالنسبة لتونس -وخاصة من عارضوا النظام السياسي- الكثير من الذكريات”.

الترحيب الحار

اقتيد آلاف المعارضين إلى سرداب سجن الناظور وغيره من أماكن التحقيق المنتشرة في تونس لتتلقاهم أساليب تعذيب ترحيبية حارة تَميز بها النظام التونسي عن غيره، فأول ما يتلقى المُعتقل وابل من الشتائم وألفاظ الاستهجان والاحتقار والتوعد والوعيد وأنواع الشماتة وكمية هائلة من الضرب العشوائي، ومن بعد الترحيب الحار تبدأ التحقيقات الرسمية عبر المحققين الذين يسألون ويعذبون في آن واحد إذا ما بدأ المعتقل في إنكار التهم الموجهة إليه، فضرب وتعليق وهراوات تتهاوى على جسده.

تنص اتفاقية جنيف لمناهضة التعذيب على أنه لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أي شخص أو تعيده أو تسلمه إلى دولة أخرى

يقول أحد المعتقلين السياسيين “بدأت عملية الأرجوحة وبدأ العرق يتصبب من جسدي، حتى أغمي علىّ أكثر من ثلاث مرات وأنا على حالتي تلك، ولم أزل معلقا من الساعة الثالثة تقريبا إلى غاية الساعة الرابعة صباحا”.

وجبة الدجاجة المشوية

أسلوب الدجاجة هو أسلوب كان يمارسه النظام التونسي في عهد ابن علي، حيث تُربط يدا الإنسان ثم ساقاه وتوضع عصا تحت ركبتيه ليعلق بين طاولتين حتى يصبح على هيئة دجاجة ملفوفة، فتصبح ساقاه مهيأتين للضرب، ثم يتركونه معلقا على تلك الهيئة، حتى يشعر بالألم أكثر.

يقول علي لعريّض رئيس وزراء تونس السابق “تلك وجبة يتلقاها جميع من يبدأ التحقيق معهم تقريبا”.

البانيو أو البرميل

بالإضافة إلى أسلوب الدجاجة المشوية وقلع الأظافر تميز نظام بن علي بأسلوب تعذيب آخر يطلق عليه البانيو أو البرميل، حيث يعلق المرء برجليه من الأعلى ورأسه إلى الأسفل، ثم يوضع تحته إناء ممتلئ ماء وَسِخا في أحسن حالاته وفي كثير من الأحيان يكون نجاسة، ثم يغمس رأسه في الإناء حتى تفقد رئتاه كل الهواء الذي بداخلهما، ثم يخرجونه ليتنفس ثم يعيدونه.

يقول أحد المعتقلين “هناك من قُتلوا تحت التعذيب وسُلموا إلى أهاليهم، وأقيمت لهم جنازات باهتة جدا، لأنهم يمنعون الأهل من حضور الجنازة”.

قرار غزو العراق بني على أساس معلومات خاطئة انتزعت تحت التعذيب من أحد معتقلي الاستخبارات المركزية الأمريكية في السجون السرية المصرية، ويدعى بن الشيخ الليبي

جلاد في الظل

بعد محاولات حثيثة وافق أحد الضباط في وزارة الداخلية على التصوير بعد أن اشترط إخفاء هويته، حيث حاول إبراز وجهة نظره في ممارسة التعذيب على المعارضين السياسيين.

يقول ضابط الظل “مارست التعذيب ولكن لم أمارس أساليب خطيرة، وقد كنت أعمل ضمن نظام ودولة ويتوجب عليّ القيام بعملي، وذلك لحفظ الحقوق والنظام العام في البلاد، وكنا نستخدم التعذيب للكشف عن المخططات الخطيرة التي تهدد بشكل مباشر أو غير مباشر الأمن العام”.

يا طبيبي وعذابي

لم يكن رجال الأمن وحدهم من يمارسون التعذيب، بل إن بعض أطباء السجون كان لهم دور بارز في مسلسل التعذيب الذي شهدته السجون التونسية، فكانوا يَحضرون ويساهمون إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك عن طريق تقديم النصح والاستشارة وتوجيه الجلادين حتى لا تقع كوارث أو حوادث وفاة، وتارة بقلب الحقائق والتغطية على تقارير التعذيب وتحويلها إلى تقارير طبية عادية.

يقول ضابط الظل “كنا على اتصال ببعض الأطباء الذين يأتون لفحص المتهمين ومتابعة حالتهم الصحية، وكانوا دائما يحضرون جلسات التعذيب”.

لي ولأخي وللذئب

ليست تونس منفردة عن العالم العربي بممارسة التعذيب تحت ذريعة المحافظة على نظام الحكم، فقد كشف تقرير عولمة التعذيب الصادر عن مؤسسة المجتمع المفتوح أن الدول العربية لم تكتف بممارسة التعذيب لأجل تثبيت نظام حكمها، بل مارست التعذيب نيابة عن حلفائها أيضا، وهو ما استفادت منه وكالة الاستخبارات الأمريكية سي آي إيه، حيث يكشف التقرير أن 13 دولة عربية تواطأت مع الاستخبارات الأمريكية في حربها على ما يسمى “الإرهاب”.

آلاف المعارضين في سجن الناظور كانت تتلقاهم أساليب تعذيب ترحيبية حارة تَميز بها النظام التونسي السابق عن غيره

يقول “معظم بيك” السجين السابق في غوانتانامو “حين فشل المحققون في التقاط معلومة مني يدلون بها إلى رؤسائهم لإثبات أني إرهابي هددوني قائلين إن لم تتعاون معنا فسنرسلك إلى إحدى دول الشرق الأوسط إما سوريا أو مصر للتحقيق معك، كانوا يعلمون أني كمسلم أعلم سياسات تلك الدول، لا أحد يرغب في أن ينقل إلى تلك الدول، فهي تتفنن في أساليب التعذيب”.

وتنص اتفاقية جنيف لمناهضة التعذيب على أنه لا يجوز لأي دولة طرف (أي مشاركة في الاتفاقية) أن تطرد أي شخص أو تعيده أو تسلمه إلى دولة أخرى إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب.

ما بعد المنتهى

يتحدث ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق غلين كارل في كتابه “المحقق” عن سجين لم يذكر اسمه أرسلته الاستخبارات للتحقيق معه في بلد عربي بعد أن حصلت على مذكرة تعذيب موقعة من الرئيس، وكان يحقق معه مشتبها في كونه المسؤول المالي لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، من أجل الحصول على معلومة توصل إلى بن لادن أو القضاء على القاعدة، لكنه فشل في استجوابه، فكتب تقريرا يعلن فيه أن هذا الشخص متعاون جدا وأنه ليس بالشخص المطلوب.

حينها سحب البساط من تحته وتم تحويله إلى محققين آخرين قاموا بنزع ملابسه وتعذيبه وتصويره عاريا وإذلاله والتحقيق معه عبر حشد من المحققين أمام كارل نفسه، ثم بعد ذلك قاموا بتكبيله كأنه دجاجة مشوية، ثم خدروه وأخذوه إلى الطائرة.

لم يفصح الضابط كارل عن اسم الدولة في الكتاب ولم يقبل البوح بها للصحافة تحت ذريعة أنه غير مرخص له بذلك، لكنه أورد في الكتاب أنها تتحدث بلغتين هما العربية والفرنسية.

المقبوض عليه

لم يذكر الكاتب غلين كارل اسم المعتقل، واكتفى بتسميته “كابتس” (Captus)، أي المقبوض عليه باللغة اللاتينية، لكن تحقيقا في مجلة هاربرز الأمريكية كشف عن اسم “كابتس” الذي كان يمتلك حينها شركة حوالة مالية، وأنه رجل الأعمال الأفغاني حاجي باشا وزير.

بعض أطباء السجون كان لهم دور بارز في مسلسل التعذيب الذي شهدته السجون التونسية

تقول تينا فوستر المحامية “حين تحدث كارل في كتابه عن شخصية كابتس، واعتبره ممولا لبن لادن، وذكر أنه كان يمتلك شركة حوالات مالية في تلك الفترة، كان واضحا أنه يتحدث عن حاجي باشا وزير، فقد حاولتُ الربط بين هذه الشخصية وبين المعلومات التي لدي عن باشا وزير، وتأكدت أنه المعني في كتاب كارل، وكذلك فعل بعض الصحفيين أيضا”.

لا تنبس ببنت شفة

قامت الاستخبارات الأمريكية بتجميد أرصدة حاجي باشا وزير وحسابات شركته في العديد من دول العالم بعد الاشتباه به، فسافر إلى إحدى الدول العربية لمعرفة الأسباب، لكن عملاء الاستخبارات لم يمهلوه ليعرف السبب فقبضوا عليه وقضى ثمانية أعوام خلف القضبان، ثم أفرجوا عنه عام 2010 قائلين “حظا سعيدا، ولكن لا تنبس ببنت شفة عما جرى”.

بعد محاولة استمرت شهرين تمكن فريق الفيلم من التواصل مع حاجي باشا وزير، وأكد جميع المعلومات عما جرى له، لكنه رفض إجراء مقابلة معه خوفا على حياته ومصالحه الاقتصادية.

متحف التعذيب

يعكس متحف التعذيب في العاصمة الهولندية أمستردام حرص الأنظمة السياسية منذ القدم على تطوير أساليب التعذيب واستخدامها كوسائل لقمع شعوبها، حيث كانت تعذبهم حتى الموت انطلاقا من مبررات كثيرة.

أودع رجل الأعمال الأفغاني حاجي باشا وزير غوانتانامو باعتباره ممولا لابن لادن

يقول المؤرخ مارتن فان هارتن “يعتبر التعذيب جزءا من القانون الجزائي منذ القدم، وقد استخدم كثيرا في العصور الرومانية، وهو جزء من النظام القضائي، وقد ساد الاعتقاد بأن الطريقة الوحيدة للحصول على معلومات عن الجرائم أو معلومات عسكرية عبر إحداث الألم”.

رومان القرن الـ21

في العصر الحديث واصلت بعض الدول تطوير أساليب التعذيب لتتلاءم مع القرن الواحد والعشرين، كما هو الحال مع الولايات المتحدة في حربها على ما يسمى “الإرهاب”.

يقول ضابط الاستخبارات السابق غلين كارل “إنه نوع من الجنون، طبيبان نفسيان لا يعملان في الاستخبارات الأمريكية، وليس لديهما خبرة في أساسيات العمل الاستخباراتي، ولم يتلقيا أي تدريب في عمليات الاستجواب، ولا خبرة لديهما في قضايا الإرهاب، تم اختيارهما لتطوير برنامج الاستجواب”.

تم ذكر الطبيبين بأسماء مستعارة في تقرير صادر عن لجنة الاستخبارات بالكونغرس الأمريكي عام 2014 في 500 صفحة يستعرض أساليب الاستجواب المعززة، متهما الطبيبين بتطويرها.

قام فريق الفيلم بالبحث عن الطبيبين من أجل التعرف عليهما وعلى الدور الذي أوكل إليهما، وقد توصل الفريق إليهما وهما “جيمس ميتشل” و”بروس جيسون” طبيبان نفسيان تم التعاقد معهما من قبل الاستخبارات المركزية، وهما المسؤولان عن تطوير وتطبيق برامج التعذيب التي تتضمن أساليب الاستجواب المعزز، لكن الأمر غير قابل للحديث عنه بالنسبة لهما، ففي المقابلة الوحيدة التي أجريت مع الطبيب ميتشيل رفض التعليق على دوره في تطوير أساليب الاستجواب المعززة، بحجة اتفاق بينه وبين السي آي إيه يمنعه من الحديث.

أساليب الاستجواب المعززة

يتحدث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن عن أساليب الاستجواب المعززة على أنها قانونية آمنة موافق عليها في وزارة العدل، وأنها لا تخالف القوانين والاتفاقيات التي صادقت عليها الولايات المتحدة، بينما يرى بعض مناهضي التعذيب أنها تترك أضرارا نفسية وجسدية طويلة المدى على الضحايا، كما أنها في بعض الحالات قد تؤدي إلى الموت.

في العصر الحديث واصلت بعض الدول تطوير أساليب التعذيب لتتلاءم مع القرن الواحد والعشرين

ويذهب تقرير الكونغرس إلى أن الاستخبارات المركزية باشرت تطبيق أساليب الاستجواب المعززة أول مرة على المعتقل أبي زبيدة بعد أن حصلت على مذكرة من المستشارين القانونيين للبيت الأبيض في يوليو/تموز 2002، سُمح فيها باستخدام أسلوب الإيهام بالغرق، وباتت هذه المذكرة تعرف بمذكرة التعذيب.

مخاطر أساليب الاستجواب المعززة

شد فريق الفيلم الرحال إلى كاليفورنيا للقاء “سكوت آلان” أستاذ الطب في جامعة كاليفورنيا والخبير في مخاطر أساليب التعذيب المعززة، لمعرفة مدى تفاعل جسم الإنسان مع أساليب التعذيب.

أوضح آلان أن استخدام أساليب التعذيب المعززة أو أي أساليب تعذيب يؤدي إلى زيادة التوتر عند الضحية بدرجة عالية، وهذا يؤثر سلبا على جسم الإنسان، فكلما زاد التوتر والإجهاد زادت ضربات القلب لتصل إلى مستوى مضر بالجسم، وقد يصاحب ذلك ارتفاع في ضغط الدم إلى درجة قد تهدد حياة الإنسان.

معزول عن العالم مدى الحياة

يقول “جوسيف مارغوليس” محامي المعتقل أبي زبيدة “لم يوجه إلى أبي زبيدة أي اتهام، وحسب علمي لن توجه له أي تهمة مستقبلا، ولكنه سيبقى في السجن إلى الأبد، والسبب وراء ذلك أن المحققين اشترطوا أنه إذا مورست هذه الأساليب على هذا الرجل فلا بد أن يبقى معزولا عن العالم الخارجي مدى الحياة، هذه كانت رغبتهم عندما بدؤوا الأمر ونجحوا في ذلك”.

يكشف تقرير الكونغرس أن أبا زبيدة تعرض لما يسمى أسلوب الإيهام بالغرق نيفا وثمانين مرة، وأنه تقيأ خلالها عدة مرات، وكان يتم تعذيبه تحت إشراف طبي للتأكد من قدرة المعتقل على تحمل تلك الأساليب.

يقول سكوت آلان “هذا الأسلوب يُفقد الإنسان القدرة على الحركة، ويخفض معدل الأوكسجين في الجسم مع تزايد التوتر والإجهاد، يصاحب ذلك ارتفاع ثاني أوكسيد الكربون، ويبدأ الإنسان يشعر بالغرق، كل هذا يضع الجسم في حالة توتر عالية، مما يؤدي إلى مضاعفات في جسم الإنسان، خاصة إذا كان يعاني من أمراض القلب”.

بعدها كان أبو زبيدة يوضع في صندوق محكم الإغلاق مغطى بخرقة قماش تمنع عنه الأوكسجين، وذلك ضرب من أقسى ضروب التعذيب، حيث يكون الشخص في حالة انحناءة مؤلمة في الصندوق.

يقول “آلان كيلر” من منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان “أسلوب مؤلم جدا أن يتم دفع الشخص داخل هذا الصندوق بطريقة تشعره أنه حيوان، وعادة ما يكون المعتقل عاريا، وتكون درجة الحرارة في الصندوق إما مرتفعة جدا أو منخفضة جدا”.

تجارب طبية

أصدرت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان تقريرا ذكرت فيه أن الأطباء لم يمارسوا التعذيب فحسب، بل ذهبوا لما هو أبعد من ذلك، فقد قام الأطباء -بحسب التقرير- بإجراء تجارب بشرية على المعتقلين بغرض معرفة مدى تحمل جسم الإنسان للتعذيب قبل وصوله إلى الموت.

يقول “ناثانيول رايموند” من حملة مناهضة التعذيب “لقد ارتكبوا جريمة أخرى بالإضافة إلى جريمة التعذيب، لأن هذه الأساليب التي تم استخدامها محرمة طبيا، وهذا يعني أن الأطباء قاموا بتجربة هذه الأساليب ليقولوا إنها ليست أساليب تعذيب”.

استخدمت تونس الأطباء في ممارسة أساليب تعذيب جديدة

يقول “معظم بيك” المعتقل السابق في غوانتانامو “أتذكر أن اكتئابا حادا أصابني ذات مرة، فأحضروا لي طبيبة نفسية ترتدي الزي العسكري، فقالت لي: هل فكرت في أن تخلع سروالك وتربطه بملاءة السرير وتلفه حول عنقك ثم تربط طرفه الآخر بسقف الزنزانة وتقفز؟ كان جوابي: لم أفكر بذلك من قبل، إلا حين حاولتِ إقناعي بذلك. فما راعني إلا أن علمت بعد إطلاق سراحي بانتحار ثلاثة معتقلين في غوانتانامو بنفس الطريقة التي وصفتها لي الطبيبة النفسية، كان ذلك من أغرب ما صادفت في حياتي”.

درع الحصانة

على الرغم من المخالفات القانونية التي ارتكبها الأطباء ومستشارو بوش القانونيون في تقنين أساليب التعذيب، فإن إدارة بوش وضعت قوانين وحصانات تحمي كل من شارك في برنامج أساليب الاستجواب المعززة، غير أن إحدى المحاكم في ولاية واشنطن قبلت مؤخرا دعوى مقدمة ضد الأطباء الذين هندسوا تلك الأساليب.

تم رفع دعوى ضد ميتشيل وجيسون لتورطهما في تطوير برنامج أساليب الاستجواب المعززة التابع للاستخبارات المركزية، وقد طالب محاموهما بإسقاط القضية، لكن القاضي رفض ذلك آمرا أن تأخذ القضية مجراها القانوني في المحاكم، ليتم تقديم الوثائق والأدلة من الطرفين، ومن بعدها سيتم النظر في القضية أمام المحكمة.

مذكرة يو بايبي

كان لا بد من إيجاد صيغة قانونية تشرع التعذيب لإدارة بوش، وهنا جاء دور مستشاريه القانونيين، وفي مقدمتهم جون يو وجاي بايبي وغيرهم ممن أجاز تلك الأساليب، فكتبوا بالتعاون مع محامي وزارة العدل المذكرة ذات السمعة السيئة التي عرفت باسم مذكرة يو بايبي.

هذه المذكرة توضح أن إدارة بوش لا تعتبر تلك الأساليب أساليب تعذيب، لأنها لا تسبب ألما ولا معاناة جسدية أو نفسية طويلة الأمد، وهذا بحد ذاته دليل على أنه تم استخدام أطباء لإثبات أن تلك الأساليب لا تسبب معاناة عقلية وجسدية، وهذا يعني أنهم لا يعذبون لأجل التعذيب والألم، بل لأجل الحصول على معلومات استخباراتية لحماية الأمن القومي.

قام الأطباء بإجراء تجارب بشرية على المعتقلين بغرض معرفة مدى تحمل جسم الإنسان للتعذيب قبل وصوله إلى الموت

يقول ضابط الاستخبارات ووكالة الأمن القومي السابق ويليام بيني “قام بعض المحامين الفاسدين المتلاعبين بالقانون بتبرير تلك الجرائم من أجل إرضاء مديريهم رغم أنها تعد جرائم دولية، فعلى سبيل المثال نحن كحكومة اعتبرنا أسلوب الإيهام بالغرق جريمة أثناء الحرب العالمية الثانية أي قبل وقت طويل”.

وتنص اتفاقية جنيف لمناهضة التعذيب على أن التعذيب هو أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد سواء أكان جسديا أم عقليا، يُلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول على معلومات أو اعتراف أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه.

رسم على الماء

تقرير الكونغرس وغيره من التقارير أثبتت بالدليل القاطع أن أساليب الاستجواب المعززة لم تفض إلى معلومات استخباراتية ساعدت في منع أي هجوم محتمل على الولايات المتحدة ومصالحها في العالم.

تقول “ديان فينشتاين” رئيسة لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ “تصرفت الاستخبارات المركزية بناء على معلومات خاطئة، حيث أوهمت موظفيها والمتعاقدين معها بأن ما يقومون به سيساعد في الحصول على معلومات استخباراتية مهمة وأن أساليب التحقيق تلك فعالة، بينما هي عكس ذلك”.

في السجون السرية المصرية

في مايو/أيار 2009 نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرا شكل صدمة لمجلس الأمن الدولي وللعالم، حيث كشف أن قرار غزو العراق في عام 2003 بني على أساس معلومات خاطئة انتزعت تحت التعذيب من أحد معتقلي الاستخبارات المركزية الأمريكية في السجون السرية المصرية، ويدعى بن الشيخ الليبي.

أوضح آلان أن استخدام أساليب التعذيب المعززة أو أي أساليب تعذيب يؤدي إلى زيادة التوتر عند الضحية بدرجة عالية

تقول “إمريت سينغ” العضوة في منظمة المجتمع المفتوح “ادعى وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول في جلسة أمام مجلس الأمن بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، تلك الدعوى بنيت على معلومات استخباراتية انتزعت تحت التعذيب من أحد معتقلي الاستخبارات الأمريكية”.

بن الشيخ الليبي

اعتقل بن الشيخ الليبي في باكستان عام 2001، وتم ترحيله إلى مصر عام 2002، حيث قضى فيها ما يقارب ثلاثة أعوام تحت التعذيب اعترف خلالها بأنه من عناصر القاعدة، وبأنه يعمل مع صدام حسين للحصول على أسلحة دمار شامل، وتلك هي المعلومات التي استخدمها الأمريكيون تبريرا لغزو العراق.

 وفي عام 2006 تم تسليم بن الشيخ الليبي للسلطات الليبية التي أودعته سجن بو سليم المعروف، ثم وجد مقتولا في السجن في مايو/أيار 2009.

يقول وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول “قلت في مناسبات عدة إنني متأسف جدا لأن بعض المعلومات التي قدمتها لمجلس الأمن من عدة مصادر كانت خاطئة، أعترف أن هذه وصمة عار في حياتي، ولا أستطيع تغيير ذلك”.

معرض لأدوات التعذيب

ليست أمريكا وحيدة في مضمار تقنين التعذيب، فقد شهدت العاصمة البريطانية لندن في سبتمبر/أيلول 2013 مظاهرات منددة بتواطؤ الحكومة البريطانية مع شركات تصنيع أدوات التعذيب والسماح لها بترويج أدوات التعذيب في معرض بيع السلاح DSEI.

ونُشِرت صور فوتوغرافية لأدوات تعذيب يتم الترويج لها في المعرض، وقد حاول المتظاهرون منع سير أعمال المعرض، لكن السلطات قامت بتفريق تلك التظاهرات، واعتقلت العديد منهم متهمة منظمي الاحتجاج بتعطيل حركة السير في العاصمة، وتم تحديد موعد محاكمة لهم بعد عدة أشهر.

وقد نجح المتظاهرون في الضغط على منظمي المعرض من خلال طرد شركة فرنسية وأخرى صينية قامتا بعرض أدوات تعذيب في المعرض.

حرصت أنظمة حاكمة على تطوير أساليب التعذيب، وراحت تبني تحالفات مع أطباء وقانونيين لإخفاء آثارها والتصدي للملاحقة القانونية

 وأصدر المنظمون بيانا ورد فيه “عندما بلغنا قيام الشركة الصينية تان جين والفرنسية ماغ فورس إنترناشونال بخرق القانون البريطاني قمنا بطردهما من المعرض، وتمت إحالة قضيتهما إلى السلطات المعنية للنظر فيه”.

يقول المحامي البريطاني راج تشادا “القانون البريطاني يأخذ قضية التعذيب على محمل الجد، وقد تبنت بريطانيا كافة القوانين الدولية التي تحرم التعذيب، وهناك منذ العام 2004 لوائح تحرم حتى الإعلان والترويج لأدوات التعذيب”.

حاول فريق البرنامج معرفة نوعية الأدوات التي تم عرضها في المعرض فتوجهوا إلى مقر الشركة الفرنسية، لكن المدير رفض التصوير، وقال في المحادثة التي أجراها مع الفريق إنه لم يكن يعمل بالشركة حينها وإن المعنيين غير موجودين الآن، ولكنه يرجح الظن بأن الاحتجاج كان بسبب الأصفاد التي تم عرضها ضمن سبعة منتجات أخرى كانت الشركة تعرضها، مؤكدا أن الشركة ليست لديها مصانع ولا تصنع أدوات التعذيب وإنما تبيعها.

تصدير التعذيب

يقول ضابط الاستخبارات ووكالة الأمن القومي السابق ويليام بيني “نصدر التعذيب إلى أماكن أخرى لكي نقول إنهم هم من يمارسون التعذيب وليس نحن، بكل بساطة نريد التنصل من مسؤولية التعذيب، ونقول هم من يعذبون وليس نحن”.

هكذا حرصت أنظمة حاكمة على تطوير أساليب التعذيب للرفع من جدواها، وراحت تبني تحالفات مع أطباء وقانونيين لإخفاء آثارها والتصدي للملاحقة القانونية، ورغم ذلك تم فضح هذه الجرائم ووجد بعضها طريقه إلى العدالة.

ولكن هل هناك ما يبرر ممارسة التعذيب في دولة تدعي احترام حقوق الإنسان؟

يقول ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق غلين كارل “مطالب ومبادئ اتفاقية جنيف واضحة، والولايات المتحدة قد خرقت بنود الاتفاقية”. ويقول جوسيف مارغوليس محامي المعتقل أبي زبيدة “ما فعلوه كان خاطئا ووحشيا، وبالتأكيد سوف يظل نقطة سوداء في قيمنا الوطنية”.